عاد القائد العسكري والشيخ القبلي البارز مفرح بحيبح، بعد حوالي خمسة عقود من آخر مواجهة عسكرية خاضها لحماية الثورة والجمهورية في صنعاء من زلزلة كادت تودي بها مع وصول طلائع القوات الملكية الإمامية إلى مشارفها وإحكامها الحصار عليها فيما عرف بحصار السبعين في العام 1967.
عاد وقد غزا الشيب رأسه، ليرتدي البزة العسكرية للدفاع عن “الجمهورية” مجدداً، مؤكدا تشبثه بالدفاع عن قضيته الوطنية الأولى التي خاض المعارك من أجلها شابا، ولكن في هذه المرة كانت التضحية أكبر حيث قدم أربعة من أبنائه في معركة استعادة اليمن من الميليشيات الحوثية.
ولد الجنرال بحيبح في مديرية الجوبة التابعة لمحافظة مأرب شرقي اليمن في العام 1955 لأسرة تتمتع بنفوذ في قبيلة “مراد” إحدى أكبر قبائل اليمن، التي كان لها دور بارز في مواجهة المشروع الحوثي المدعوم من إيران.
نشأ في بيئة قبلية، في ظل تصاعد ما عرف بالمد القومي والعروبي المتزايد، وخصوصا بعد قيام ثورة سبتمبر 1962 وتدخل مصر عبدالناصر في دعم الثورة، التي تعرضت لاحقا لانتكاسة خطيرة بعد قيامها بخمس سنوات تقريبا، حينما تهدد العاصمة صنعاء خطر داهم من قبل القوات الإمامية التي أطبقت الحصار على المدينة. وكادت أن تسقط أحلام الثوار، فشارك، حينها، الشاب المفعم بالحماسة والقادم من مأرب في الدفاع عن صنعاء التي استمر حصارها لسبعين يوما.
كانت مشاركة بحيبح في معارك الدفاع عن صنعاء بوابته بعد ذلك للالتحاق بالمؤسسة العسكرية مطلع السبعينات، في ظل زخم ثوري وقومي هادر، ونفوذ للتيار الناصري في اليمن آنذاك أثناء حكم الرئيس الأسبق إبراهيم الحمدي، الذي خاض صراعا مريرا في مواجهة مراكز النفوذ التقليدية، والذي انضم إلى مشروعه السياسي والثقافي والاجتماعي الكثير من الشباب حتى أولئك الذين ينحدرون من بيئات قبلية ويتمتعون بنفوذ قبلي في مناطقهم مثل بحيبح الذي جمع بين انتمائه العسكري ونشاطه المجتمعي في ما عرف حينها بالجمعيات التعاونية التي كانت نواة التحول المدني والاقتصادي والثقافي في اليمن.
هزيمة بحيبح للميليشيات الحوثية في معركة "قانية" يعود إليها الفضل بدفعه إلى صدارة المشهد وحيازته تقدير التحالف العربي. حيث صدر على إثرها قرار بتعيينه قائدا للواء 26 مشاة
وخلال مشواره العسكري في السبعينات عمل على تطوير مهاراته وقدراته العسكرية من خلال الالتحاق بالعديد من الدورات والبرامج العسكرية من بينها كما يقول سجله العسكري في الفترة بين عامي 1973 و1977 دورة مشاة ودورة مدفعية ودورة مدرعات ودورات أخرى في الهندسة العسكرية، وهي كلها خبرات استحضرها في المعارك التي يخوضها اليوم، بصفته قائدا عسكريا وشيخا قبليا مناهضا للميليشيات الحوثية.
بعد اغتيال الرئيس الحمدي دخل المنتمون للتيار الناصري، الذين كان عدد كبير منهم في الجيش اليمني، في صراع مع الرؤساء الذين خلفوه، وهو الصراع السياسي الذي تحوّل لاحقا إلى صراع عسكري بلغ ذروته في العام 1978، وهي الفترة التي كان يتولى بحيبح فيها مهام قائد كتيبة باللواء السابع مدرع بقطاع المندب تعز بعيدا عن مركز الصراع في صنعاء، من خلال ما عرف بالانقلاب الناصري الذي نفّذه ضباط في الجيش اليمني ضد الرئيس الراحل علي عبدالله صالح الذي اعتقل قادة الانقلاب وأعدم الكثير منهم وأطلق حملة لمطاردة الكوادر السياسية والعسكرية للتنظيم الناصري في اليمن.
استشهاد أولاده يعتبره بحيبح مصدر فخر له في حرب الدفاع عن الجمهورية. وخلال مراسم تشييع ابنه الرابع قال إن "الحوثي زائل فقط يحتاج الأمر إلى إعادة ترتيب في صفوف الناس وصدق النوايا في المواجهة معه".
في الأثناء فضّل بحيبح العودة إلى حاضنته القبلية في مأرب والاحتماء بها مبتعدا عن دائرة الصراع المستعر، بالرغم من ارتباطه الفكري والثقافي الذي لم ينقطع بالتيار الناصري، حيث قال في لقاء صحافي معه في العام 2009 ردا على سؤال حول انتمائه الحزبي “أنا ملتزم ومقتنع بأفكار ورؤى التنظيم الوحدوي الناصري لكنني لست ملتزما لهم حزبيا. لكن لا أزال مقتنعا بأفكار التنظيم وأهدافه ومبادئه”.
وتقول بعض المصادر إنه استقبل واحتضن عددا من الناصريين الذين تمكنوا من الفرار إلى محافظة مأرب شرق صنعاء، حيث وجدوا ملاذا آمنا عند رفيقهم القديم، الذي ابتعد عن أجواء التوترات السياسية والحزبية وكرّس جهوده للعب دور اجتماعي كشيخ قبلي بارز عمل على حل النزاعات القبلية وإرساء الصلح بين القبائل اليمنية، حيث أسس في العام 2004 منظمة التنمية والسلم الاجتماعي لمحافظات مأرب وشبوة والجوف واختير رئيسا لها، كما يعد انضمامه للاحتجاجات التي أطاحت بالرئيس صالح في العام 2011 إحدى المحطات البارزة في مسيرته، لكنّ حدثا هاما وغير متوقع أعاده مرة أخرى وبقوة إلى صدارة المشهد السياسي والعسكري في اليمن بعد ذلك ببضع سنين.
انضمامه للاحتجاجات التي أطاحت بالرئيس صالح في العام 2011 يعد أهم المحطات في مسيرة بحيبح. لكن حدثا هاما وغير متوقع سيعيده إلى الواجب السياسي والعسكري في اليمن بعد ذلك ببضع سنين، مثله اجتياح الحوثيين لصنعاء
في سبتمبر 2014 اجتاحت الميليشيات الحوثية العاصمة اليمنية صنعاء وسيطرت على مفاصل الدولة وأسقطت المعسكرات والمؤسسات الحكومية، وبعد ذلك بشهور قليلة أرسل الحوثيون قواتهم لاجتياح المدن والمحافظات اليمنية، وكانت محافظة مأرب شرقي صنعاء في طليعة الأهداف نظرا لأهميتها الجغرافية والاقتصادية وثقلها القبلي.
لكن الحوثيين فوجئوا بمقاومة غير متوقعة من أبناء القبائل في محافظة مأرب وفي طليعة هذه القبائل قبيلة “مراد” التي تصدرت في ما بعد قائمة قبائل المحافظة الأكثر تضحية وقدمت الآلاف من القتلى.
وفي هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ اليمن وفي محاولة لمنع سقوط حلم الدولة الجمهورية الذي قاتل في سبيله سابقا، استجمع بحيبح كل إمكانياته كشيخ قبلي وعسكري سابق وارتدى البزة العسكرية واستنفر أسرته وأبناء قبيلته لمقاومة الميليشيات الحوثية.
شارك بحيبح في العام 2015 في قيادة العديد من المعارك ضد الحوثيين على أطراف محافظة مأرب التي كانوا ينوون اجتياحها، وقد تمكن إلى جانب عدد من أبناء القبائل وفي مقدمتهم قبيلته من هزيمة الميليشيات الحوثية في معركة “قانية” التي تفصل بين محافظتي البيضاء ومأرب. ونظرا لدوره البارز في مجابهة الحوثيين صدر قرار رئاسي بتعيينه قائدا للواء 26 مشاة الذي كوّنه بنفسه من المقاومين والضباط والجنود السابقين.
وقد تمكن هذا الجنرال بمشاركة مجاميع قبلية تنتمي لقبيلته، من إلحاق هزيمة كبيرة بالحوثيين في عدد من مديريات مأرب وشبوة، وتم تحت قيادته، في العام 2016، تطهير مديرية حريب “مأرب” ومديرية “عين شبوة” من قبضة ميليشيا الحوثي.
أيقونة التضحية التي يقدمها بحيبح تشعل خيال الشارع اليمني الذي أخذ يطرح المقارنات بين فدائية الرجل وانتهازية نخب سياسية أعاقت هزيمة المشروع الحوثي
وقد أهلته تلك الانتصارات التي حققها في معاركه مع الميليشيات الحوثية، لتولي مهام عسكرية أكبر عقب تعيينه في العام الماضي 2018 قائدا لمحور بيحان الذي يضم ستة ألوية عسكرية وعددا من كتائب المهام الخاصة إلى جانب مجاميع من المقاومة الشعبية، ليواصل مشوار الإنجازات العسكرية التي تكللت بتحرير مديريات بيحان وعسيلان بمحافظة شبوة التي كانت الميليشيات الحوثية تستميت للحفاظ عليهما نظرا لأهميتهما الاستراتيجية واستخدامهما من قبل الحوثيين في تهريب الأسلحة القادمة من إيران عبر سواحل بحر العرب.
خاض بحيبح مؤخراً معركة أخرى ضد الحوثيين، ولكن هذه المرة في مديريات نعمان وناطع في محافظة البيضاء وهي المعركة التي فقد فيها ابنه الرابع بعد استشهاد ثلاثة من أبنائه وعدد كبير من أقربائه وأبناء قبيلته في معارك سابقة ضد الحوثيين، ليضرب نموذجا فريدا ونادرا في الإيمان بالمبادئ والدفاع عنها والتضحية من أجلها.
وعلق بحيبح في أول ظهور إعلامي له عقب مقتل ابنه الرابع، قائلا إنه فخور باستشهاد أولاده الأربعة في الدفاع عن الجمهورية، وأضاف خلال مراسم التشييع “الحوثي لم يعد كما كان يعتقد الناس في السابق، الحوثي زائل يحتاج الأمر فقط إلى إعادة ترتيب لصفوف الناس وصدق النوايا في المواجهة معه”، ودعا إلى رص الصفوف وتوحيد الجهود في مواجهة ما وصفه بـ”المد الفارسي” الذي قال بأنه لا يمكن أن يقبله اليمنيون مهما كانت الظروف والتضحيات.
وقد أشعلت أيقونة التضحية الباهظة التي قدمها مفرح بحيبح خيال الشارع اليمني الذي أخذ يطرح المقارنات بين فدائية بحيبح وانتهازية نخب سياسية أعاقت ممارساتها هزيمة المشروع الحوثي وأطالت من أمد الحرب، وهو ما عكس تعطش اليمنيين للقدوة السياسية التي افتقدوها نتيجة لفقدان الثقة بالنخب اليمنية الغارقة في الفساد وعمليات المقايضة السياسية.