تمول دولة الإمارات ميليشيات مسلحة خارجة عن القانون في اليمن تدفعها لقتل الأبرياء وتقويض سلطات الحكومة الشرعية ونهب كل ما يقع تحت سيطرتها بما في ذلك الآثار التاريخية.
وعلى عتبات حي “العُرضي” -جنوبي شرق مدينة تعز- بدأت الحياة تدب تدريجيا مع عودة العمل في حديقة “غاردن سيتي”، وشرطة المحافظة وكلية الآداب، سوى المتحف الوطني القابع قريبا منها إذ بدا منعزلا خارج الصورة، بهيكله المدمر وبوابته الخشبية المتهالكة والموصدة، فيما تباع مقتنياته الثمينة والمنهوبة بمزادات الإنترنت حول العالم.
لعل هذا المشهد الذي يمزج بين الحياة المستعادة من دمار الحرب وبين الموت الجاثم، يختزل جزءا من تفاصيل مشكلة اليمن العميقة مع إرثها التاريخي المدمر والمنهوب في تعز التي كانت عاصمة للدولة الرسولية (بني رسول) في اليمن (1229 – 1454م) وأصبحت عاصمة المملكة المتوكلية اليمنية في الفترة (1918 -1962).
وتعد تعز مدينةَ الثقافة المادية في اليمن، بمتاحفها الثلاثة: المتحف الوطني (يطلق عليه أيضا العرضي، أو قصر الإمام أحمد حميد الدين)، ومتحف صالة التاريخي، ومتحف قلعة القاهرة.
وتزخر -المدينة التي تسمى بعاصمة اليمن الثقافية- بثروة تراثية قومية كبيرة، تكاد تكون هي الأولى على مستوى الجمهورية اليمنية -كما ونوعا- بحسب مدير عام المتاحف بالمحافظة، رمزي الدميني.
وأضاف الدميني “كان المتحف الوطني وحده، (وهو أكبر وأهم متاحف المحافظة)، يحوي ما يقارب 45 ألف قطعة أثرية متنوعة، ما بين قطع ومنحوتات نحاسية وبرونزية ومنقوشات حجرية وتماثيل، من مختلف العصور والحقب، بعضها يعود إلى ثلاثة آلاف سنة تقريبا قبل الميلاد”.
وتابع “وهناك مخطوطات ومطويات عبرية تعود بعضها إلى ما قبل خمسمئة سنة، وقطع أثرية نادرة غير موجودة على مستوى العالم”.
ويضيف متحسرا “حتى جاءت هذه الحرب، وتسببت في تدمير وإهدار الكثير من هذا المخزون القومي الثمين من الممتلكات التراثية الثقافية”.
ويشاطره زميله مدير عام الآثار بتعز أحمد جسار، التحسر والمأساة، قائلا إن “الحرب تسببت في تدمير متاحف تعز، وعدد من المعالم الأثرية، وفقدان ونهب الكثير من الآثار”، لكنه يعتقد أيضا أن هناك جريمة أخرى تتمثل في “تساهل وتقاعس الحكومة عن معالجة هذا الملف حتى الآن”.
ورجح جسار أن تكون نسبة المفقود أعلى، في تقدير أوليّ نظرا لعدم البدء بعملية الحصر والمطابقة حتى الآن.
مع بداية الحرب عام 2015، كانت منطقة “العُرضي” -حيث يقع المتحف الوطني- تحت سيطرة قوات الانقلابيين (تحالف صالح – الحوثي). وفي يوليو/تموز 2015، حررت المقاومة الشعبية المنطقة، ليؤول المتحف إلى سيطرة كتائب “أبو العباس” المدعومة إماراتيا.
تعرض المتحف الوطني للقصف من طيران التحالف العربي بداية، ثم لاحقا من قِبَل الحوثيين بعد طردهم منه، ما تسبب في تدمير وإحراق أجزاء كبيرة منه، وتعرضت محتوياته للسطو والنهب.
وكانت كتائب أبو العباس قد احتفظت بالنسبة الأكبر من القطع الأثرية للمتحف، في مخازن خاصة بها. وفي عام 2017، قيل إنها سلمت كل ما بحوزتها من آثار إلى السلطة المحلية، ليتضح لاحقا أنها لم تسلم سوى جزء يسير منها فقط.
وفي تقريره لعام 2018، أشار فريق الخبراء الدوليين -المشكل من مجلس الأمن الدولي بشأن اليمن- إلى أنه اجتمع في عدن في 4 يوليو/تموز، مع أبي العباس، الذي أكد أن في عهدته نحو ثلثي القطع التي كانت جزءًا من متحف العرضي في تعز. ولفت إلى أنه أجرى مناقشات مع وزارة الثقافة لتحديد آليات تسليم القطع إلى حكومة اليمن.
كان التقرير يشير إلى اللقاء الخاص، الذي جمع وزير الثقافة اليمني مروان دماج، وأبا العباس في تعز، أواخر سبتمبر/ أيلول 2017، لمناقشة تسليم الآثار التي لديه. وهو اللقاء الذي لم تعلن نتائجه، لكن تسريبات صحفية تحدثت عن خلافات بسبب طلب أبي العباس مبلغا كبيرا نظير أتعابه ودوره في الحفاظ عليها.
وهو ما أشار إليه تقرير الخبراء بتأكيده أن “الفريق أبلغ، في أكتوبر/تشرين الأول 2018، بأن الطرفين لم يتمكنا من التوصل إلى اتفاق، وبأن القطع لا تزال في عهدة السيد أبي العباس”.
ولاحقا، بعد خروج كتائب أبو العباس من تعز، إثر مواجهات مسلحة مع قوات الجيش والأمن في أبريل/ نيسان 2019، وُجد مخزن مليء بالآثار في مقر الكتائب بمدرسة أروى بالمدينة القديمة. الأمر الذي كشف عن تلاعب أبي العباس، وتورطه في عمليات تهريب وبيع الآثار، وفقا لمصادر خاصة. ولا سيما أن معظم ما وجد في المخزن قطع ونقوش حجرية أقل أهمية.
تفيد المعلومات بأنه، إبان سيطرة كتائب أبو العباس على المتحف الوطني تعرضت بعض القطع الأثرية للنهب والتهريب. وبحسب مدير المتاحف الدميني، فإن “بعض القيادات العسكرية تدخلت، وتم استرجاع وحفظ بعض الآثار، إلا أن بعضا منها هُربت خارج المدينة، وبعضها ضبطت أثناء محاولة تهريبها، في عدد من المنافذ”.
وفي منتصف العام الماضي، أعلن عن ضبط ثلاث شاحنات متوسطة الحجم، في منفذ الضباب، كانت محملة بالقطع الأثرية، لتهريبها خارج المدينة من قبل محسوبين على كتائب “أبو العباس”.
وأكدت مصادر أمنية أنه بعد ضبط الشاحنات الثلاث، نزلت لجنة لحصرها وتسلمها، لكنها لم تجد منها سوى خمسين قطعة فقط، وأضافت أن ذلك شكل “صدمة كبيرة” للجميع، لكن هذه القضية “الحساسة والشائكة”، لا تزال مفتوحة ولم تغلق بعد.
وترددت معلومات متواترة عن تهريب قطع أثرية نادرة خارج اليمن، بعضها عرضت للبيع في مزادات خارجية. وهو ما أكده الدميني، الذي قال إنهم مطلعون ومتابعون لهذا الملف الخطير، ولديهم “شبكات عمل استقصائية”، حسب وصفه، تعمل في هذا الجانب.
وتحدث عن “قطع أثرية مهربة ضُبطت في سلطنة عمان، وقطع أثرية يعتقد أنها من تعز، ظهرت في جنيف، ومخطوطات عرضت للبيع في مزادات في أميركا، أكد عارضوها أنها من تعز”.
كما أشار أيضا إلى معلومات لديهم تفيد بوجود قطع أثرية يمنية هُربت إلى دول عربية، بينها دول خليجية، وأن وزير الثقافة يقوم شخصيا بالتواصل مع الخارج، لاستعادة هذه الممتلكات الثقافية المنهوبة.
ومن ضمن القطع اليمنية المنهوبة، توجد قطعة برونزية شهيرة وثمينة جدا، معروفة باسم “إله العنب”، أو “إله الخمر”، يعود تاريخها إلى مئتي سنة قبل الميلاد حتى مئة سنة بعد الميلاد، وتوصف في مراجع عالمية باسم تمثال “الأم والطفل” (Mother & Child).
وفي الصورة التالية يعرض مزاد على الإنترنت تمثال تحفة الأم والطفل للبيع في بلدان، بينها بريطانيا وكوريا الجنوبية وهونغ كونغ.
وأكد مدير عام المتاحف، الدميني، أن هذه القطعة تعتبر واحدة من أثمن وأندر وأهم القطع الأثرية “التي لا تزال مفقودة من تعز”، لكنه نفى علمه بالمعلومات التي تقول إنها هربت إلى دولة الإمارات، كما يتداول ناشطون على صفحات التواصل الاجتماعي.
وقال مدير عام الآثار أحمد جسار إنه لا توجد لديهم إحصائية مؤكدة حتى الآن، حول نسبة المفقود، “لكن مبدئيا نعتقد أنها قد تصل إلى 60 أو 70%”. وشدد على أن هذا الرقم مجرد تقدير أولي “وما زلنا بانتظار عملية الحصر والمطابقة حتى نتمكن من معرفة المفقود بشكل مؤكد”.
وبشأن القطع النادرة والثمينة، نوه -بداية- بأنه “بشكل عام، لا يوجد في الآثار شيء ثمين وآخر غير ثمين، فكله في نظرنا يعتبر ثمينا”، مضيفا “نحن نعتقد أن الكثير منها لا يزال مفقودا حتى الآن، غير أننا لن نستطيع التحديد بشكل نهائي، إلا بعد إجراء المطابقة المطلوبة، التي لا تزال -حتى الآن- أمامها عقبات”.
وشكا مدير عام الآثار، من تقاعس وتساهل السلطات اليمنية مع هذا الملف المهم، مستشهدا بعرقلة صرف الميزانية والمصروفات اليومية للجنة الحصر والمطابقة.
وناشد الحكومة بسرعة التحرك لإنقاذ القطع الأثرية الموجودة، والمتناثرة في مخازن إسعافية هنا وهناك، وتأمينها بشكل نهائي قبل فقدانها هي الأخرى، وتعرضها للتلف نتيجة سوء التخزين وانعدام الصيانة والترميم.
وسبق أن كشف باحث أمريكي متخصص في شئون الآثار عن سرقة دولة الإمارات آثار اليمن وتهريبها بغرض بيعها إلى دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية.
وقال الباحث الأمريكي الكسندر ناجل إن آثار اليمن تصل إلى أكثر من مليون قطعة يتم سرقتها بشكل دوري من الإمارات بطرق متنوعة.
وأضاف ناجيل إن معظم المستشرقين الذين زاروا اليمن منذ مدة طويلة وخصوصًا من أمريكا كانوا يقومون بأعمال دراسات وتنقيب، لكنهم “كاذبون، فهم تجار آثار”.
وأضاف “لقد عملوا على تهريب عدد كبير من الآثار إلى أمريكا ويصل عدد القطع المهربة إلى أكثر من مليون قطعة أثرية، وهم لديهم متاحف ومجموعات تقدر قيمتها بملايين الدولارات”، مشيرًا إلى أن ثروة أحدهم التي جناها من الآثار تقدر بحوالي 34 مليون دولار.
وتابع “للأسف الشديد الكثير من المتاحف والمجموعات في أمريكا تستقبل وتعرض القطع دون التحقق من مصدرها ولكن مؤخرًا وبوجود إدارات شابة للمتاحف بدأ هذا الشي يتغير”.
وكشف ناجيل أنه “يتم تهريب قطع الآثار من اليمن عبر دول مثل الإمارات وإسرائيل قبل وصولها إلى الولايات المتحدة”، مؤكدًا تورط ” العديد من المستكشفين والأكاديميين والدبلوماسيين في تهريب الآثار من اليمن.
واستند ناجيل في عرضه التقديمي للعديد من القطع والوثائق وبعض المنشورات في صفحة نقوش مسندية، وصفحة الباحث عبد الله محسن الذي نشر على صفحته في 4 يوليو 2018 عن إحدى تلك القطع وقال إنها قطعة من آثار تمنع عاصمة دولة قتبان أهديت مع عدد من الآثار عربون صداقة إلى السير تشارلز جونستون، من قبل صالح حسين الهبيلي ابن أمير بيحان.
وأشار محسن إلى أن الأب (حسين بن أحمد بن محسن الهبيلي) قد باع مجموعة من الآثار الذهبية عام 1977م للمتحف البريطاني.
من جهته يقول الباحث اليمني حسني السيباني أحد مسؤولي صفحة نقوش مسندية إن نصف آثار اليمن مسروقة ومنهوبة ومهربة وتباع في المزادات المخفية والعلنية وأيضًا الكثير من الآثار اليمنية موجودة في المتاحف العالمية.
وأضاف أن البعثات الأثرية التي جاءت إلى اليمن نهبت وسرقت الكثير جدًا من الآثار وذلك مما أدى إلى حدوث شرخ في التاريخ اليمني وعمل فجوة في التاريخ الكرونولوجي للتسلسل التحقيبي لتاريخ اليمن السحيق.
وتابع: “للأسف كل الحكومات المتعاقبة في اليمن أخذت نصيبها كذلك من السرقة والنهب والتهريب والإهداء سواءً حكام أو مسؤولين” في مقدمتها دولة الإمارات.