الرئيسية - تقارير - نافذة حول استراتيجية تركيا في المنطقة.."قوة متنامية وحليف موثوق" تمضي على نهج الميراث العثماني

انيس منصور يكتب عن تركيا.

نافذة حول استراتيجية تركيا في المنطقة.."قوة متنامية وحليف موثوق" تمضي على نهج الميراث العثماني

الساعة 11:31 مساءً (هنا عدن / عربي 21 )

 

 



*بقلم/ أنيس منصور  

 

بداية: وددت أن أقتبس فكرة تفسيرية مهمة، تشرح وضع الدولة التركية وسياستها فيالمنطقة، الفكرة وردت في واحد من أهم الكتب السياسية في العالم ؛ كما يعتبر_باعتقادي_مرجعية استراتيجية لشرح سياسة تركيا، في المنطقة والعالم. الكتابالمقصود هنا هو كتاب " العمق الاستراتيجي". 

 

لقد عبَّر رئيس الوزراء ووزير الخارجية التركي الأسبق، والمنظر السياسي الأبرز / داودأغلو، في كتابه المذكور آنفا، عن سياسة تركيا تجاه المنطقة وما ينبغي عليها فعله،بالقول: 

"باعتبار تركيا دولة قومية قامت على الميراث العثماني -وإن بخصائص جديدة- في بدايةالقرن الماضي، تجد نفسها مضطرة مرة أخرى لتواجه مسؤولياتها الجيوسياسيةوالجيوثقافية المتعلقة بهذا الميراث مع نهاية القرن نفسه. 

 

إن هذه المسؤوليات التي تقع على عاتق تركيا ستفتح آفاقا جديدة وإمكانات جديدةللسياسة الخارجية التركية، وستكون الأكثر تأثيرا في تشكيل الذهنية الاستراتيجيةالتركية وهويتها في المراحل المقبلة". وبالفعل هذا هو ما يحدث اليوم، تماما كما رسمهأحمد داوود أوغلو، وهو المعروف بمهندس السياسة التركية وعرابها الأساسي.ومن يريدأن يفهم السياسة التركية بشكل موضوعي ومحايد، عليه العودة للكتاب، ليتمكن منقراءة السياسة التركية كما هي، وليس كما يريد هو، أو كما يفعل خصوم تركيا ذويالدوافع المغرضة حين يتعسفون في قراءة تحركاتها  في المنطقة بشكل خطأ. 

 

إنها باختصار مبدئي: دولة تضع اعتبارًا للفضاء الحضاري الذي تنتمي له، أي أنها ترىعمقها الطبيعي هو العمق الإسلامي والعربي، ومستعدة لتسخير قوتها وقدرتها،لتحقيق مصالحها ومصالح المنطقة، وليس كما يزعم خصومها أنها تسعى للهيمنة . 

 

لطالما آمنت تركيا أن ما جعل المنطقة مكشوفة أمام الهيمنة الدولية، هو ضعف ترابطالدول فيما بينها وعدم وجود تحالفات قوية تخفض من التغول الدولي في الشرقالأوسط، ولهذا فهي حين تسعى لتحقيق خطوة كهذه، لا يعني أنها تهدف لاستبدالمهيمن دولي بمهيمن إقليمي أخر، إنها تنظر للمنطقة بعين الأخوة الجيران، وعمقإحساسها بالهوية الإسلامية يؤكد نزوعها المشترك مع الإطار العربي. 

 

إن ما يميز سياسة تركيا تجاه المنطقة، أنها تبحث عن نفوذ عادل ومشروع وتحرص علىحراسة مصالح حلفاءها كما هي حريصة على مصالحها، كما أنها لا تستلب أتباعها ولاتستغل ضعفهم؛ كي تعقد معهم اتفاقيات مجحفة، إنها نموذج للحليف الذي لا يخشاهحليفه، حليف يتحرك مسلحًا بالقوة والنزاهة، ويضع اعتبارا للإرث الحضاري والتأريخالثقافي المشترك بين تركيا والمنطقة وليس حليف يمضي وعينه على الكنز والفريسة، معالتنويه أن تركيا مثلها مثل أي دولة تبحث عن مصالحها، لكنها تبحث عن مصلحتها،تحت شعار: فلنربح جميعا، المحالف والحليف، وليس كما يفعل الأخرون ولعلكمتعرفونهم جيدا ولا حاجة لذكرهم هنا. 

 

حسنًا،  نعود لشرح طبيعة القوة التركية وسياستها كما تتجسد أمامنا في اللحظةالراهنة. لا يجادل أحد أن تركيا باتت قوة إقليمية مركزية في الشرق الأوسط، وكل فترةتتنامى قوتها بشكل أكبر، وبما يجعلها لاعب أساسي في مستقبل المنطقة، ليس من الآن،بل طوال العقدين الأخيرين وبتحديد أكبر خلال العقد الأخير، فالواقع يؤكد لنا كيفتضاعف نفوذها وأثبتت قدرتها على الفعل والتحرك على أكثر من جبهة وصناعة أثر كبيرفي توازنات القوى في المنطقة. 

 

 

على الرغم من التعقيدات الشديدة التي أحيطت بها تركيا في السنوات الأخيرة، ووقوعهاأمام مآزق متعددة، بدءًا من القضية السورية والتهديدات الأمنية القادمة من هناك، لجانبخذلان الحليف الغربي لها، والعقوبات الأمريكية ضدها، والتوجس الأوربي منها وتوترعلاقتها بمصر وبعض دول الخليج، وكل ما خلفه الأمر من انعكاسات سلبية على الوضعالداخلي، سواء محاولة الانقلاب الفاشلة في يونيو 2016، أو التهديدات الإقتصاديةوتراجع سعر صرف الليرة بسبب هجمات البورصة التي تعرضت لها، إضافة لأثرالعقوبات ضدها. 

 

بالرغم من كل هذه الكوابيس، إلا أن السياسة التركية أثبتت حيويتها وتعاملها الفعالعلى كل الأصعدة. داخليا نجحت في ترتيب وضع الدولة وتأمين ديمقراطيتها بشكل أكثر ،لجانب امتصاص الارتدادات الاقتصادية، وتعزيز قدراتها الداخلية وبما يخفض قدرةالخصوم وحتى الحلفاء، على ابتزازها. 

 

أمنيًا وعسكريا، حسمت تركيا أمرها في فرض منطقة عازلة على الحدود السورية، وحيّدتالأخطار المتمثلة في قوات سوريا الديمقراطية، الجناح العسكري لحزب العمال الكردي،وهي قوة زرعتها أمريكا وغذتها ودربتها، كي تستخدمها، كورقة ضغط على تركيا؛ لكنالأخيرة تمكنت من تقويضها أو على الأقل، تكبيلها وإزاحتها وتجريد قدرتها على إلحاقالأذى بتركيا، وهذه خطوة لم تكن عادية؛ بل شكلت تحدي حقيقي لأمريكا، حتى معأمريكا اضطرت لاحقا لاحتواء الموقف؛ لكنه احتواء الضرورة فحسب. 

 

 

كما تمكنت تركيا من فرض معادلة سياسية جديدة وغير معهودة فيما يخص علاقتهابحلف شمال الأطلسي" الناتو" وخلقت حالة من التوازن في سياستها العسكرية بينالناتو وروسيا وبما يصب في مصلحتها القومية. صحيح أن تركيا تعتبر القوة الثانيةفي الناتو بعد أمريكا، لكن الناتو لم يعمل بمقتضى هذه المكانة التي تحظى بها تركيافي الحلف، ولم يتجاوب مع دعواتها له لدرء التهديدات القومية التي تحيط بها، وهو مادفعها للتصرف بحرية، وتلك سياسة فعالة، تؤشر لذكاء عال وموازنة شجاعة ومحكمة. 

 

 

لم تقتصر دينامية السياسية التركية على قدرتها في حراسة مصالحها وفرض معادلاتسياسية وعسكرية في علاقتها بمحيطها أو فيما يخص علاقتها بالناتو، بل ذهبت أبعدمن ذلك لتأمين مصالحها ومصالح حلفاءها بالمنطقة بشكل باعث للإعجاب ومانحللجدارة. 

 

لقد شكل مشهد الجسر الجوي العسكري بين تركيا وقطر حين كانت قطر معرضة لتهديدوجودي من جيرانها، ومشهد الطائرات التركية المسيرة وهي تسند حلفاءها في طرابلسالليبية وتدفع المنقلبين على الدولة بعيدا، ومشهد القوات الأزربيجانية وهي تنتصر بدعمتركي، كل هذا جسد تحولًا كبيرا في السياسة التركية، سياسة التدخل المشروع والفاعل،بعد سنوات من التردد والحذر. 

 

وبالطبع، كل تلك المحطات السابقة، قدمت تركيا كحليف قوي سريع الحركة ولا يخذلحلفاءه، وتلك مواصفات قوة دولية عالية الكفاءة، وليس قوة إقليمية فحسب. وهو ماجعل الأقطاب الدولية تضاعف حساسيتها من تركيا وترغب بلجمها مهما كان الثمن. 

 

لقد تمكنت تركيا من كسر العزلة التي حاول خصومها فرضها عليها، نحن أمام دولة أرادتأطراف كثيرة تكبيلها، لكنها ابتكرت منافذها البديلة وتحررت من كل الكوابح المحيطة بها. نجحت في توسيع تحالفاتها خارج خطوط التحالفات التقليدية الميتة. ونعني هناتحالفها مع أمريكا ورغبتها الممتدة بالانضمام للاتحاد الأوروبي، وما تعرضت له منابتزاز طويل بسببه. 

 

إذ لم تقعد تركيا، تعبر عن خيبة أملها من حلفاءها الدوليين، لكنها مضت تشق طريقهاوتعزز قدراتها داخليا وخارجيا وهذا هو مفهوم السياسة الناجحة، التحايل على الظروفوخلق مسارات بديلة، وليس ثمة نموذج عملي لهذه الفكرة، مثلما تثبته سياسة تركيااليوم داخليا وفي محيطها. 

 

هناك سلوك إضافي ومهم، بالنسبة للخطوات التركية الفاعلة في المنطقة، سلوك يثبتدرجة الثقة التركية بقدراتها ومدى تحررها من كل الحواجز الخانقة لها، لقد تمكنت تركيامن بسط سيادتها على المناطق التابعة لها في بحر المتوسط وأرسلت غواصاتها للتنقيب،وعقدت اتفاقية ترسيم للحدود البحرية مع طرابلس وبما يعطل خطط دول " حوضالمتوسط" ورغبتهم بخنق تركيا وتقييد نفوذها في البحر.. وبهذا تكتمل اللوحة وترىتركيا اليوم، أكثر انطلاقا وبيدها أوراق كثيرة، بل إن خصومها، لم يجدوا أمامهم سوىالتوقف مع أنفسهم طويلا ومراجعة سياستهم تجاهها والأشهر الأخيرة تؤكد جنوح كثيرمن خصوم تركيا لتطبيع علاقتهم بها، ليس لأنهم تخلوا عن دوافعهم في أذيتها، بللكونها عطلت قدرتهم على القيام بذلك ولم تبق لهم سوى خيار واحد هو التصالح معهاوهو ما يحدث اليوم بالطبع. 

 

الخلاصة:

 

تنتهج تركيا سياسة المد والجزر، أو ما يسمى في العلوم السياسية" القوة في خدمةالسياسة" حيث تعمل على تفعيل الذراع العسكرية لها، حين تتعطل السياسة، وبهذاتفتح آفاق جديدة للدولة وتجبر الخصوم على التخلى عن عنادهم، وهي في لحظةتلويحها بالقوة لا تغلق المنافذ السياسية بل تتركها مواربة، وهنا يكمن التوازن الحكيم،فهي ليست دولة باحثة عن حروب ومشكلات وخصومات؛ لكنها حين يتعنت الخصم،تظهر وجهها الحاسم وبشكل يثبت أنها تحمل البندقية في يد وغصن الزيتون في اليدالأخرى وعلى الخصم أن يختار. 

 

 

أما بخصوص، نزوعها القومي في المنطقة، فهي فرصة تأريخية أمام الدول العربيةلاعادة النظر بسياستها تجاه تركيا والتقاط الفرصة لتعزيز تحالفهم بها وبما يصب فيصالح شعوب المنطقة ويصنع حالة توازن إقليمي ودولي، ويرمم جزءًا من انكشافنا،أعنيكعرب أمام العالم.

 

*رئيس مركز هنا عدن للدراسات الاستراتيجية-اليمن