راشد الغنوشي
منذ أن فجّر البائع المتجول محمد البوعزيزي ثورات الربيع العربي من تونس لتطيح بعديد الأنظمة الدكتاتورية العربية، تحولت تونس الخضراء إلى حلم جميل لمحبي الديمقراطية ومصدر إلهام لكل مضطهد، وتحولت في الآن ذاته إلى كابوس مرعب للأنظمة التي تشيطن الاستثمار في الديمقراطية، وترى في تونس خطرا على أنظمتها المستبدة الدموية، أو التي ترى مصالحها في التحالف مع أنظمة فردية كليانية، أو فاسدة، معادية لقيم الحداثة الكونية حتى وإن تعطرت بروائح الحضارة الغربية. في 25 جويلية 2013، وبعد فشل المحاولة الأولى للإجهاض الثورة التونسية باغتيال الشهيد شكري بلعيد، وتحت قصف إعلامي مركز لتكرار السيناريو المصري في تونس، امتدت يد الإرهاب الشرير لتغتال الحاج محمد البراهمي وتسقط معه التجربة التونسية.
فشلت المحاولتان بفضل تجند القوى الحية الوطنية، للدفاع عن الحرية والديمقراطية، ونجحنا في إدارة خلافاتنا بالحوار والتوافق. والآن تتكرر المحاولة يوم 25 جويلية 2021 بسيناريو شيطاني، تركز على مهاجمة مقرات حركة النهضة وإحراقها لاستدراج أبنائها للعنف، والزج بالبلاد في حرب أهلية. النهضة رفضت رد الفعل، لأنها حركة مدنية تؤمن بدولة القانون والمؤسسات ورفضت في كل المحن التي واجهتها زمن الدكتاتورية وبعد الثورة اللجوء إلى العنف وهو خيار ثابت وعقيدة راسخة لا محيد عنه. للأسف انتظرنا من رئيس الجمهورية موقفا ضد التخريب ومن يخطط للفوضى، فقام بانقلاب على الدستور والمؤسسات، مستغلا حالة الاحتقان الشعبي المتزايد، نتيجة فشل الحكومة في التصدي لكورونا والصعوبات الاقتصادية التي تمر بها البلاد.
لقد جاء هذا الموقف رغم أننا شرعنا في حوار معه للخروج من الأزمة السياسية وعبرنا عن ذلك في عديد البيانات، وأكدنا أن حكومة السيد هشام المشيشي الذي اختاره الرئيس قيس سعيد، لم تعد قادرة على إدارة شؤون البلاد، وأن المطلوب تطويرها أو تغييرها في إطار الحوار مع كل الأطراف الوطنية وفي مقدمتها رئيس الجمهورية. لقد كان الباب مفتوحا للخروج من أزمة طال أمدها وسببها اختيار رئيس حكومة بلا أغلبية برلمانية ثم رفض رئيس الجمهورية أداء حوالي نصف الوزراء اليمين الدستورية أمامه، ومن بين الوزراء الداخلية والصحة. ولكن يبدو أن بعض الأطراف دفعت إلى الهروب إلى الأمام عوض الجلوس إلى طاولة الحوار، بما يخدم أجندة أعداء الديمقراطية.
إننا لا نرى الآن سبيلا للخروج من الأزمة الراهنة إلا بالعودة إلى المسار القانوني الدستوري والسماح للبرلمان المعطل دون سند قانوني، بالعودة إلى نشاطه العادي والتصويت على حكومة باقتراح من رئيس الجمهورية كما ينص عليه الدستور بعد استقالة السيد المشيشي لتنطلق في حزمة من الإصلاحات العاجلة اقتصاديا واجتماعيا بشكل يمكن البلاد من تجاوز أزمة كورونا، والنجاح في المفاوضات مع المؤسسات المالية الدولية، في أقرب الآجال.
إننا نأمل في أن رئيس الجمهورية قيس سعيد سيطوي بسرعة صفحة الانقلاب الدستوري، وسيدير حوارا وطنيا يفضي إلى عقد اجتماعي وسياسي يمكن الحكومة القادمة من إنقاذ البلاد وإيصالها الى انتخابات في وقتها سنة 2024، أو مبكرة حتى يقول الشعب كلمته بكل حرية ويختار من يريد لحكمه بطريقة ديمقراطية. إن الأزمة الحالية وإن كانت فرصة لنقف على الأخطاء التي ارتكبتها النخبة السياسية، فهي مناسبة لنؤكد جملة من الثوابت التي لا نحيد عنها كحزب إسلامي ديمقراطي، وفي مقدمتها نبذ العنف، والتنبيه إلى أن الدكتاتورية والاستبداد، هما المناخ الطبيعي للعنف، ولا أدل على ذلك من تحوّل الأنظمة الدكتاتورية العربية إلى مصانع للإرهاب والتطرف رغم كل سياسات القمع التي تمارسها.
كما نؤكد احترامنا لمؤسسات الدولة وخاصة الأمن والجيش، ونجدد الدعوة إلى تحييدهما عن التجاذبات السياسية، ونحيي دورهما منذ الثورة التونسية في حماية الديمقراطية. إننا ندعو الجميع إلى الاستفادة من هذا الامتحان الصعب الذي تمر به بلادنا وهي تقف في مفترق طريقين، إما المضي قدما في طريق الديمقراطية، وإصلاح الأوضاع في إطار احترام الدستور، أو العودة إلى الاستبداد والدكتاتورية اللذين لن يوفرا لتونس إلا القمع ومصادرة الحريات.
إن المطلوب الآن هو إنهاء هذه الحالة اللادستورية بسرعة والعودة إلى الشرعية وإزالة كل أسباب الاحتقان ونعتقد أن الرئيس قيس سعيد قادر على ذلك، ويدنا ممدودة له ولكل مؤمن بتونس الديمقراطية التي تضمن الحريات وتقدس المواطنة في كنف الدستور. لقد تنازلنا على الحكم في أزمة 2013 للحفاظ على مسار كتابة الدستور وللحفاظ على سلم بلادنا ووحدة مجتمعه، ونحن في هذه الأزمة مستعدون للتضحيات الضرورية للحفاظ على الديمقراطية وللحفاظ على استقرار بلادنا وشعبنا.