em>ظل الدور الإماراتي في اليمن طيلة سنوات الحرب موضوعًا للتحليل والنقاش على مستويات مختلفة؛ إذ يبدو ملغزًا ومثيرًا من زوايا عدة، أهمها علاقته بالمصالح والسياسات السعودية في اليمن، وهل كان يتكامل معها، أم يشكّل منافسًا قويًا لها؟ وقد تزايد طرح هذه الأسئلة عقب انسحاب الإمارات من الحرب ضد الحوثيين منتصف يوليو/ تموز 2019م، مع تأكيد استمرار تحالفها مع السعودية في اليمن؛ وذلك كعنوان – فيما يبدو- للتوفيق بين الخروج من الحرب والاحتفاظ في الوقت نفسه بما تحقّق لها من نفوذ، بل وربما التوجّه لتكريس ذلك النفوذ وترسيمه بصورة نهائية، في وقت ترى السعودية أن حربها في اليمن لم تنته بعد، وأن تقاسم ما جمعه التحالف ربما لم يحن بعد، وهنا تظهر على السطح مسألة العلاقة بين الدور الإماراتي والمصالح السعودية في اليمن أكثر من أي وقت مضى.
تبحث هذه الورقة إذًا في علاقات واتجاهات التكامل والتنافس بين الدور الإماراتي في اليمن والسياسات والمصالح السعودية، وتحاول رسم حدود واضحة في الاتجاهين معًا، وتفترض بصورة أساسية أن الإمارات تخوض منافسة هادئة على النفوذ يتصادم مع المصالح السعودية في اليمن.
أولًا: العلاقات السعودية – الإماراتية؛ خلفية تاريخية.
شكّلت الإمارات الواقعة جنوب الخليج العربي، أو ما كان يسمى بإمارات الساحل المتصالح، جزءًا من كيان عُمان التاريخي الممتد من جنوب شبه جزيرة قطر حتى رأس مسندم في مدخل الخليج، ومنه إلى رأس الحد المطل على خليج عُمان، وقد ارتبط تاريخ تلك الإمارات منذ القرن الثامن عشر الميلادي وحتى تكوين اتحاد الإمارات العربية المتحدة في العام 1972م بتاريخ المواجهة بين عُمان ومشروع الدولة السعودية التوسعي في الخليج العربي؛ منذ العام 1744م تاريخ تأسيس الدولة السعودية الأولى على يد محمد بن سعود بن مقرن.
وتشير المصادر التاريخية إلى أن الأراضي التي تشكّل حاليًا دولة الإمارات العربية المتحدة احتضنت قوتين قبليتين استحكم بينهما العداء والتنافس زمنًا طويلًا رغم خضوعهما الإسمي المشترك لعُمان، وهما قبيلة القواسم التي امتد نفوذها من رأس مسندم بمحاذاة الساحل الإيراني وحتى الشارقة وأم القوين، وقبيلة بني ياس بزعامة آل نهيان وكان مقرهم الظفرة ثم أبوظبي منذ العام 1793م، وامتد نفوذهم إلى دبي وحدود قطر.
عُرف القواسم بتمردهم على سلاطين مسقط وبطموحاتهم للاستقلال بالنفوذ، وتمكنوا لهذا الغرض من بناء قوة بحرية منافسة لتجارة مسقط البحرية، واستولوا على بعض جزرها في الخليج، كما توسعوا باتجاه الساحل الجنوبي لفارس، وقد لزم القواسم جانب القبائل العمانية الغافرية في الصراع الداخلي على السلطة الذي نشب مع القبائل الهنائية. أما آل نهيان فكانوا على وفاق مع سلاطين عمان وشكّلوا جزءًا من الحلف الهنائي بحكم النسب القحطاني المشترك، لكنهم عملوا كذلك على ترسيخ وجودهم في صورة مشيخة شبه مستقلة منذ سنة 1761م.
أخذ النشاط الدعوي الوهابي بالتغلغل في بعض أنحاء إمارات الساحل العماني منذ السنوات الأولى لتأسيس الدولة السعودية الأولى، وفي العام 1778م اعتنق القواسم “الوهابية”، ثم شاركوا في الحملات السعودية على عمان ابتداءً من العام 1793م؛ ليصبحوا بعد ذلك اليد الطولى للسعودية في ساحل عمان الشرقي. أما بنو ياس فقد ظلوا على مذهبهم المالكي وقاوموا بالتحالف مع سلاطين عمان المد السعودي، ورغم فشلهم في منع سقوط واحة البريمي الواقعة بين أبوظبي وصحار العمانية في يد القوات السعودية سنة 1800م، فقد واصلوا رفض الوجود السعودي، واحتفظوا “بمعاداتهم للنجديين” منذ ذلك الوقت.
بحلول العام 1818م تمكنت قوات محمد علي باشا من هزيمة الدولة السعودية الأولى وتدمير عاصمتها (الدرعية)، وبذلك تلاشى الوجود السعودي في إمارات ساحل عمان. وبتأسيس الدولة السعودية الثانية (1840-1891م) أعادت القوات السعودية السيطرة على واحة البريمي سنة 1844م، واستخدمتها كمركز متقدم لإخضاع إمارات الساحل وعمان، وأجبرتها على دفع الزكاة للرياض، وفي سنة 1848م دخلت إمارات الساحل وعمان تحت الحماية البريطانية رسميًا بهدف التخلص من النفوذ السعودي.
تزعمت إمارة أبوظبي معارضة الوجود السعودي في ساحل عمان خلال عهد الدولة السعودية الثانية؛ فتمكّن سعيد بن طحنون من الاستيلاء على البريمي سنة 1848م واحتفظ بها لفترة وجيزة. وفي عام 1855م أطاح زايد بن خليفة بابن عمه سعيد بن طحنون بدعم من السعودية، لكن زايد احتفظ بالعداء التقليدي الذي يكنّه شيوخ أبوظبي للسعوديين، وعندما نشبت حرب الوراثة بين أبناء الملك تركي بن فيصل آل سعود عقب وفاته، قام زايد بن خليفة بتوسيع نفوذه إلى العين (قرية من قرى البريمي)، ثم إلى الظاهرة ومدينة عبرى في عمان مستغلًا كذلك ضعف سلاطينها.
خلال فترة حكم زايد بن خليفة (1855- 1909م) أصبحت أبوظبي أكبر إمارات ساحل عمان وأكثرها نفوذًا وثروة، غير أن حمدان بن زايد الذي تولى الحكم بعد أبيه اضطر في العام 1915م لإعلان ولائه للملك عبدالعزيز آل سعود بعدما بزغ نجم الدولة السعودية الثالثة (تأسست سنة 1902م)؛ لتدخل الإمارة في دورة ضعف وصراعات ألجأت بعض أمرائها إلى الاحتماء بالرياض، واستمر ذلك حتى تقلّد الإمارة شخبوط بن سلطان المعروف بقوة شكيمته؛ فأعاد لأبوظبي استقرارها رغم جمود سياسته وعزلته، وقد حاولت السعودية التخلص منه سنة 1945م دون جدوى؛ فحصدت بذلك المزيد من عداء أبوظبي لها.
عقدت بريطانيا نيتها على الانسحاب من الخليج العربي في العام 1968م، وبسبب مخاوفها من قيام السعودية بملء الفراغ، فقد طرحت على إمارات ساحل عمان السبع مشروع اتحاد فيدرالي، وأوعزت لأسرة آل نهيان في أبوظبي اختيار زايد بن سلطان بدلًا عن أخيه شخبوط الذي كان معارضًا لفكرة الاتحاد، وفي العام 1966م تقلّد زايد مشيخة أبوظبي؛ ليقود جهود تشكيل الاتحاد الذي أعلن عنه في ديسمبر 1971م. وأيّدت السعودية فكرة اتحاد إمارات الساحل خوفًا من وقوعها فريسة في يد إيران الواحدة تلو الأخرى، لكنها وقفت ضد مساعي أبوظبي لتحقيق موقع الصدارة في الاتحاد، وعندما أخفقت محاولاتها لإقناع إمارات الساحل السبع بعدم الانضمام للاتحاد بعد أن تأكدت رئاسة أبوظبي له، اكتفت السعودية برفض الاعتراف بالدولة الجديدة؛ معللة ذلك بوجود خلاف حدودي مع أبوظبي حول واحة البريمي يجب تسويته أولًا.
عقب الانسحاب البريطاني أُعيد ترتيب معادلة الأمن في الخليج العربي وفق ما عرف بـ”سياسة الدعامتين” الأمريكية والبريطانية على حد سواء، فأنيطت بإيران والسعودية مسألة إدارة ترتيبات الأمن في الخليج كأكبر قوتين إقليميتين، وهكذا كان على الإمارات التفاهم مع إحدى القوتين (إيران أو السعودية) من أجل الحفاظ على كيانها الجديد وترسيخه، وقد قررت التقارب مع السعودية واسترضاءها حتى لا تحذو حذو إيران في حل نزاعها الحدودي مع الإمارات، وفي يونيو/ حزيران 1972م صرّح الشيخ زايد بن سلطان أنه يسعى لجعل الاتحاد يسير في نفس الاتجاه الذي تسير فيه السعودية، وأن يتبع نفس النهج، رغم ذلك لم تتوقف السعودية عن التلويح باستعمال القوة لحل نزاعها مع الإمارات، وقال وزير الدفاع سلطان بن عبدالعزيز في العام 1973م “قد نضطر لفرض حل سعودي، نحن نعرف من التجربة الإيرانية لاحتلال الجزر بأن لا أحد يمكنه فعل شيء لإيقافنا”.
في أغسطس 1974م قبلت الإمارات التوقيع على معاهدة جدة التي نصّت على تبعية حقل زرارة/ الشيبة النفطي والغازي العملاق في الباطن جنوب أبو ظبي للسعودية؛ لتعترف السعودية رسميًا بدولة الإمارات في العام نفسه. وفي مايو 1981م أُنشئ مجلس التعاون الخليجي كمعادلة جديدة للأمن في دول الخليج بعد الثورة الإيرانية 1979م، وبذلك تشكّل إطار جديد للعلاقة بين البلدين؛ ساعد في تعزيز العلاقات والتوقيع على اتفاقيات تجارية وأمنية، لكنه رسّخ في المقابل وضع السعودية كقائدة لمنظومة الأمن الخليجي، وقد تعايشت الإمارات مع هذا الأمر وقبلت بوضع “الشقيق الأصغر” في العلاقة مع السعودية، ولم تُظهر تطلعات لممارسة دور خليجي أو إقليمي خارج إطار التوجهات السعودية.
عقب وفاة الشيخ زايد وتولي نجله خليفة الحكم طلبت الإمارات من الرياض في ديسمبر 2004م إعادة النظر في بعض أجزاء معاهدة جدة التي أُبرمت في “ظروف قاهرة” ، للسماح بالتطوير المشترك لحقل الشيبة، ومنذ ذلك الوقت شهدت علاقات البلدين تدهورًا حقيقيًا. ثم تكرر الطلب الإماراتي نفسه من السعودية مطلع العام 2011م خلال زيارتين قام بهما محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي للرياض دون استجابة سعودية، لكن هذه المرة قررت أبوظبي المضي قدمًا مع السعودية في مجابهة “التحديات المشتركة” في المنطقة دون التوقف كثيرًا عند نقطة الخلاف الحدودي، وربما أرادت التعويض عن خسارتها بالاستفادة من التحالف مع السعودية في تكوين نفوذ إقليمي راسخ.
ثانيًا: المشاركة الإماراتية في عاصفة الحزم؛ السياق والدوافع.
الدور الإقليمي الإماراتي قبل عاصفة الحزم: سياق تراكمي.
يمكن القول إن قرار الإمارات المشاركة إلى جوار السعودية في حرب اليمن منذ العام 2015م لم يكن سوى تتويج لدور إقليمي متصاعد بدأته الإمارات قبل ذلك بنحو عقد ونصف، وقد مرّ هذا الدور بنقطتي تحوّل مفصليتين، شكلتا بوجه عام ملامح السياسة الإقليمية الإماراتية على النحو المثير للجدل الذي تبدو عليه اليوم.
برزت نقطة التحوّل الأولى في العام 2001م حين استغلت الإمارات حالة الحرب الأمريكية على الإرهاب للتقارب مع الولايات المتحدة، فقامت بسحب اعترافها بحركة طالبان الأفغانية في سبتمبر 2001م، والدخول في حوار استراتيجي مع واشنطن، ونشرت قوات إماراتية خاصة في أفغانستان مارست أدوارًا متنوعة إنسانية ولوجستية وقتالية، وقد بدت الإمارات أسرع في الاستجابة لمتطلبات محاربة الإرهاب من السعودية سيما في مجال التعاون الاستخباراتي المعلوماتي، وتدابير قطع مصادر التمويل عن الجمعيات الخيرية المشتبه بدعمها للإرهاب، وهكذا وفّرت الحرب على الإرهاب فرصة لبلورة مواقف إماراتية غير مرتكزة على قاعدة التطابق الضروري مع السياسة السعودية.
بدءًا من العام 2004م تمكن محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي الحالي من إحكام قبضته الفعلية على مفاصل صنع القرار في دولة الإمارات تحت الحكم الإسمي لأخيه خليفة بن زايد أمير البلاد؛ لتظهر منذ ذلك الوقت توجهات تنافسية في السياسة الخارجية الإماراتية أخذت خلال الفترة من 2004م وحتى العام 2011م ثلاثة مسارات أساسية هي:
العمل على كسب ثقة الولايات المتحدة وإقناعها بإعطاء الإمارات دورًا إقليميًا محوريًا في الحرب على الإرهاب على حساب السعودية، غير القادرة بنظر الإمارات على القيام بهذا الدور لأسباب موضوعية، فالإرهاب في الرؤية الإماراتية هو نفسه “الإسلام السياسي” وليس شيئًا آخر، ومعنى ذلك أن محاربة الإرهاب تتطلب تجفيف منابع الإسلام السياسي بالعزيمة نفسها التي يتم بها دكّ أوكار القاعدة وغيرها من التنظيمات الإرهابية، ومثل هذه المهمة بحاجة لتدخلات جريئة متعددة المستويات؛ نظرًا لانتشار الإسلام السياسي في كل مكان في المنطقة، وبحاجة كذلك إلى التزام بالتحديث والعلمنة، وإلى قيادة شابة ومتطلعة، وكل ذلك لا تقدر عليه السعودية لأسباب كثيرة عملت الإمارات على توضيحها للمسؤولين الأمريكيين خلال سلسلة طويلة من الزيارات واللقاءات لواشنطن، من بينها علاقة نظام الحكم السعودي العضوية بالمؤسسة الدينية المحافظة، وانتشار التطرف في المجتمع السعودي؛ فهي مثلًا (أي السعودية) غير قادرة على المشاركة في محاربة الإرهاب في أفغانستان كما تفعل الإمارات؛ لأن ذلك يثير القوى الدينية في المجتمع السعودي. وقد وجدت الإمارات من يصغي إليها من أعضاء الحزب الديمقراطي الأمريكي الذي صعد إلى الحكم في نوفمبر 2008م ويتفق مع رؤيتها هذه.
إحراز نفوذ إقليمي بحري باستخدام الوسائل الاقتصادية الناعمة مع التأهب للعب أدوار أخرى خشنة، ويندرج تحت هذا الإطار دمج الإمارات لشركتي “سلطة موانئ دبي” و”موانئ دبي العالمية” في شركة موانئ دبي العالمية العملاقة في العام 2005م، التي أصبحت تدير 78 ميناءً ومركزًا ملاحيًا في 40 دولة حول العالم. والتوقيع مع اليمن في العام 2008م اتفاقية تأجير ميناء عدن لمدة 25 عامًا قابلة للتمديد عشر سنوات أخرى؛ بغرض تجميد نشاط الميناء الذي يمثّل منافسًا محتملًا لميناء جبل علي الإماراتي. وكانت الإمارات قد وقّعت مع اليمن في العام 2004م اتفاق تعاون أمني لتعزيز أمن باب المندب. كما كانت من بين الدول العربية القليلة (السعودية واليمن) التي قامت بدءًا من العام 2009م بتسيير دوريات في البحر الأحمر وخليج عدن لمواجهة القرصنة البحرية.
ترافق مع سعي الإمارات لبناء النفوذ البحري التوسع في تنويع مصادر الدخل والثروة بغرض تكوين فوائض مالية ضخمة؛ فإلى جوار المنطقة الحرة بدبي، ومينائي جبل علي وزايد، اهتمت بدخول مجالات نوعية كالطيران المدني والطاقة المتجددة والتمويل الدولي.وبفضل الفوائض المالية البالغة 1.3 تريليون دولار تمكنت الإمارات من امتلاك أسطول طائرات مقاتلة نوعية يُعدّ من بين الأكثر تقدمًا خارج نطاق حلف الناتو.
نقطة التحول الثانية في السياسة الخارجية الإماراتية حدثت في العام 2011م، وقد شكّل هذا العام منعطفًا مهمًا على أكثر من صعيد؛ فقد شهد ثورات شعبية في أكثر من نظام عربي، فتح أفاقًا جديدة أمام الإمارات لممارسة دور إقليمي أكثر اندفاعًا، حيث بدت أوضاع عدم الاستقرار التي خلّفتها الثورات مواتية للتدخل وتحقيق مكاسب إقليمية، وفي مارس 2011م شاركت الإمارات مع السعودية ضمن قوات درع الجزيرة لإعادة الاستقرار إلى البحرين، وذلك في إطار التوجهات المشتركة لمواجهة التهديد الإيراني في المنطقة، ثم شاركت منفردة في عمليات حلف الناتو في ليبيا خلال الشهر نفسه، وقدمت الدعم للعملية العسكرية التي شنّتها فرنسا ضد الجماعة الإسلامية في مالي (كانون الثاني 2013م)، وكذلك في إفريقيا الوسطى خلال العام نفسه، كما كان للإمارات الدور الأكبر في الترتيب للإطاحة بالرئيس المصري المنتخب محمد مرسي في يوليو 2013م.
في المقابل كانت السعودية حذرة ومترددة مقارنة بالإمارات، وانصب تركيزها على مواجهة التهديد الإيراني في المنطقة، ويبدو أنها حتى العام 2014م تقريبًا لم تكن مهتمة بمجابهة الإسلام السياسي أو الدورين القطري والتركي، فقد اشتركت مع قطر في دعم قوات الجيش السوري الحر وبعض الفصائل الجهادية للإطاحة بنظام بشار الأسد في سوريا، واحتفظت بعلاقات جيدة مع تركيا.
وعمومًا ظهرت الإمارات كعرّاب فعلي للثورات المضادة في الوطن العربي، ونقطة ارتكاز في الحرب على الإسلاميين، لكنها مع ذلك كانت تدرك أن الحرب على الإسلام السياسي لن تأتي بالنتائج المطلوبة ما لم تكن السعودية بثقلها ووزنها الديني جزءًا منها؛ لذا تعيّن عليها جرّ الرياض إلى المربّع الذي تقف هي فيه، لكن لم يكن واضحًا للإمارات كيف يمكنها العثور على شركاء سعوديين حقيقيين في هذا المضمار، خاصة وأن العلاقات داخل الأسرة الحاكمة السعودية كانت غير مستقرة منذ مرض الملك عبدالله في العام 2001م، ومفتوحة على احتمالات كثيرة في مسألة تولي العرش بعضها غير مرغوبة إماراتيًا.
كان العام 2014م مفصليًا في هذا السياق إذ شهد تغيرات مهمة في السياسة السعودية فتحت الباب لتقارب أعمق بين الرياض وأبوظبي، ففي مارس/ آذار أعلنت الرياض قائمة بالمنظمات الإرهابية ضمت جماعة الإخوان المسلمين، واستدعت السعودية والإمارات والبحرين سفراءها من الدوحة، ثم أزيح عن المشهد في أبريل/ نيسان الأمير بندر بن سلطان رئيس الاستخبارات السعودية الذي تبنّى سياسة إغراق الفصائل السورية المعارضة بما فيها الإسلامية بالمال والسلاح؛ وذلك عقابًا على فشل تعهداته بالإطاحة ببشار الأسد في وقت وجيز، وكان ذلك إيذانًا بانتهاء دعم السعودية للثورة السورية. وهكذا قطعت الإمارات شوطًا مهمًا للوصول إلى حليف موثوق في السعودية، اتضح أكثر بتنصيب الملك الجديد سلمان بن عبدالعزيز (يناير/ كانون الثاني 2015م) ابنه الشاب والطموح وزيرًا للدفاع.
دوافع المشاركة الإماراتية في عاصفة الحزم.
وفّرت المبادرة الخليجية لحل الأزمة في اليمن غطاءً للتحركات الإماراتية حتى قبل عملية عاصفة الحزم، سيما وإن الإمارات كانت إحدى الدول العشر الراعية لمسار العملية السياسية الانتقالية، وبما أن اليمن أصبح واحدًا من البلدان العربية المحتمل سقوطها كاملة في أيدي الإسلاميين نتيجة الثورة في العام 2011م كما تعتقد الإمارات، فقد استدعى ذلك تدخلها دون انتظار نضج السياسة السعودية التي لها حسابات معقدة في مسألة التعاطي مع الإسلاميين، وتحديدًا حزب الإصلاح، في هذا البلد، ولكن أيضًا بكثير من الحذر.
وللتخلص من وجود الإسلاميين في السلطة ومنع استحواذهم عليها، دعمت الإمارات الرئيس السابق صالح في مساعيه للعودة إلى السلطة بعد أن أُجبر على الاستقالة أثناء الثورة، لكنها ذهبت أبعد من ذلك بدعمها للحوثيين المناوئين لحزب الإصلاح الإسلامي، ويبدو أن قرار الحكومة اليمنية بإلغاء اتفاقية ميناء عدن الموقعة سابقًا مع الإمارات في اغسطس 2013م أسهم في دفع السياسة الإماراتية باتجاه تقوية خصوم السلطة الانتقالية و”الإصلاح” معًا، ويذكر اللواء أنور عشقي ضابط الاستخبارات السعودي السابق ورئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات السياسية أن الحوثيين “وعدوا دولةً من دول التعاون بأنهم سيضربون فئة معينة [حزب الإصلاح الذي تعدّه الإمارات فرعًا لتنظيم الإخوان المسلمين في اليمن] وأخذوا منها أموالًا طائلة ولم يفعلوا شيئًا”.
ومن الواضح أن الدولة الخليجية المقصودة هنا هي الإمارات، وهذا قد يعني أيضًا أن الإمارات لعبت دور المموّل والمحرّض على التمدد العسكري الذي قام به الحوثيون منذ انتهاء مؤتمر الحوار الوطني (يناير 2014م) وحتى سقوط صنعاء في أيديهم (سبتمبر 2014م)، وربما كانت أيضًا وراء فكرة التحالف التكتيكي بينهم وبين الرئيس السابق صالح بهدف ضرب خصومهم المشتركين.
قبيل انطلاق عملية عاصفة الحزم بأيام قليلة، قدِمَ أحمد علي صالح سفير اليمن في الإمارات نجل الرئيس صالح، على متن طائرة خاصة من أبوظبي إلى الرياض، ورغم تضارب المعلومات حول الغرض من تلك الزيارة، فإن ثمة رواية سعودية تقول إن أحمد صالح القائد السابق لقوات الحرس الجمهوري المدرج ضمن قائمة العقوبات الأممية، ذهب لإقناع ولي العهد السعودي بأن قواته يمكنها “الانقلاب” على الحوثيين إذا ما مكّنت السعودية صالحًا من أمواله “وأمور أخرى”، غير أن ولي العهد رفض.
من غير المستبعد أن تكون الإمارات قد حاولت إقناع السعودية بأن صالح هو رجل الساعة الذي يمكنه إيقاف زحف الحوثيين صوب عدن؛ فهذا يحقق لها إعادة نظام صالح الذي سيقوم برعاية مصالحها إلى السلطة، وتحجيم الإسلاميين في الوقت نفسه، غير أن رفض السعودية ذلك العرض لعدم ثقتها بصالح وربما بسبب ارتفاع سقف مطالبه وميله للابتزاز، دفع بالرياض إلى اتخاذ القرار الصعب بشن عملية عاصفة الحزم كعملية عسكرية سريعة وبأهداف محدودة، وقد اضطرت الإمارات لمجاراة السعودية في ذلك لأسباب كثيرة أهمها:
*دعم ولي العهد محمد بن سلمان الذي يلتقي معها في النظر للكثير من القضايا، وتقوية مركزه في بنية الحكم العائلي السعودي.
*ضمان عدم تصرّف السعودية على نحو يؤدي إلى إضعاف خصوم الإسلاميين خاصة الرئيس السابق صالح، في ظل تمسكها بخيار عودة صالح إلى السلطة.
*توجيه التحالف الذي أطلقت عليه السعودية اسم “تحالف دعم الشرعية” نحو مكافحة الإرهاب في اليمن، وهي مسألة وظيفية حيوية بالنسبة للإمارات.
*إظهار التكامل مع الهدف السعودي العام المتمثل في مواجهة الخطر الإيراني والتهديد الذي يشكله الحوثيون على أمن المملكة، وعلى أمن الملاحة الدولية في خليج عدن ومضيق باب المندب على نحو خاص.
وبطبيعة الحال لدى الإمارات أسبابها التقليدية للخوف من التوسع الإيراني خاصة في ظل مساعي إيران لامتلاك سلاح نووي ومحاولاتها الهيمنة على المنطقة، وأسباب أخرى اقتصادية وتجارية للشعور بالقلق على الأمن البحري في خليج عدن والمحيط الهندي ومضيق باب المندب، فاقتصادها البحري يعتمد على أمن الخطوط الملاحية في تلك النطاقات، كما كانت بحاجة لإعادة بناء نفوذها البحري وتأكيده في تلك المنطقة.
إن الأهداف التي تصورت الإمارات أن بالإمكان تحقيقها بإعادة نظام صالح إلى اليمن، والتي لم يكن ممكنًا التخلي عنها، أعيد تكييفها للبدء بتحقيقها تحت عباءة التحالف مع السعودية، ولكن مع قيمة مضافة حصلت عليها الإمارات باجتراح موقف الدفاع عن أمن الشقيق الأكبر، وتلبية حاجته لحلفاء موثوقين، وقد تجسدت تلك القيمة بحصول الإمارات على صلاحية الإدارة العسكرية والمدنية لعدن بعد تحريرها بما في ذلك الميناء ومصافي تكرير النفط ومطار عدن الدولي، الأمر الذي أتاح لها تحويل عدن إلى مرتكز لمشروع نفوذ إماراتي أخذ ينمو ويتشعب بمرور الوقت.
ثالثًا: طبيعة الدور الإماراتي في اليمن؛ سياسات النفوذ ودوائر السيطرة.
ما نطلق عليه الدور الإماراتي في اليمن هو مجموع السياسات والعمليات الموجّهة لبناء نفوذ خاص بالإمارات في اليمن، وليس فقط المشاركة في عمليات تحالف دعم الشرعية، والتي لم يعد للإمارات دورٌ فعليٌ فيها حتى خلال الأشهر القليلة التي سبقت إعلان سحب قواتها من اليمن في يوليو/ تموز 2019م، وبالإمكان مقاربة الدور الإماراتي في اليمن من خلال ثلاث مراحل زمنية مرتبطة بديناميات النزاع على النحو الآتي:
مرحلة تأسيس النفوذ: دُشنت هذه المرحلة مع بدء عاصفة الحزم (مارس/ 2015م) وانتهت بانتهاء مشاورات الكويت في اغسطس/ آب 2016م؛ حيث أسهمت الإمارات بدور فاعل في تحرير عدن (يوليو 2015م) بمساندة المقاومة الجنوبية، وبمشاركة وحدة خاصة من الحرس الرئاسي الإماراتي في معارك عدن الصغرى والبريقة.
ولما كانت مهام العمليات في عدن والمدن الجنوبية الأخرى المحررة خلال العام نفسه (لحج، الضالع، أبين) قد أوكلت إلى الإمارات، فقد اتخذت الأخيرة سلسلة من التحركات والخطوات – الأحادية في الغالب- بقصد التأسيس لنفوذ خاص بها في المحافظات الجنوبية، كانت أهمها إنشاء وتدريب قوات الحزام الأمني في (عدن وأبين ولحج والضالع) بذريعة مواجهة “الفراغ الأمني” في تلك المحافظات.
وجدير بالإشارة أن الإمارات أنشأت تلك القوات بعيدًا عن أنظار الحكومة، ودون التنسيق مع وزير الداخلية اليمني الذي كان قد وصل إلى عدن على متن طائرة سعودية في يوليو 2015م، للإشراف فيما يبدو على ترتيبات الأمن في عدن ثم في المدن المحررة.
ومن خلال قرارات صادرة عن الرئيس هادي في ديسمبر 2015م تمكّن قادة جنوبيون موالون للإمارات من الوصول إلى هرم المواقع الإدارية والأمنية في العاصمة المؤقتة عدن ومحافظات جنوبية أخرى[35]، وقد أسبغت قرارات التعيين -بصورة غير مباشرة- قدرًا من “الشرعية” على النفوذ الإماراتي في تلك المرحلة. وفي أبريل 2016م تمكنت الإمارات من طرد تنظيم القاعدة من مدينة المكلا بساحل حضرموت دون مشاركة سعودية أكيدة، لتنشئ على إثر ذلك قوات تابعة لها في المكلا (النخبة الحضرمية).
امتلكت الإمارات خلال هذه المرحلة زمام المبادرة على الأرض، وتحلّت بقدر كبير من الحيوية العسكرية، فتولّت فعليًا مهام التخطيط والقيادة لعملية تحرير المدن الجنوبية المتاخمة للعاصمة المؤقتة عدن، وشاركت في تحرير أجزاء من محافظة مأرب، وأنشأت مقرًا للقيادة العسكرية الإماراتية هناك. وعلى الصعيد الإنساني نشط الهلال الأحمر الإماراتي في المحافظات الجنوبية المحررة، وبدأ بتنفيذ أعمال مساعدات وإغاثة واسعة أكسبت الإمارات سمعة جيدة في تلك المرحلة.
صفوة القول.. حقّقت الإمارات خلال هذه الفترة وجودًا مهمًا على الأرض وفي بعض مفاصل السلطة في المحافظات الجنوبية، ويبدو أنها كانت مطمئنة بأن هذا القدر من الوجود والحضور كافٍ لتأسيس قاعدة نفوذ ملائمة يمكن تعظيمها بوسائل سياسية، وليس من خلال المزيد من التحركات الأحادية على الأرض. وفي يونيو 2016م أعلنت الإمارات للمرة الأولى عبر وزير الدولة للشؤون الخارجية أن الحرب قد انتهت بالنسبة لها، وأن دورها هو تمكين اليمنيين في المناطق المحررة، ومع أن هذا التصريح لم يكن يعني تخلي الإمارات عن نفوذها في اليمن، فإنه من المرجح أنها كانت جادة في الإبقاء على نفوذها عند الحد الذي كان قد وصل إليه؛ وذلك وفقًا للمؤشرات الآتية:
تزامن الإعلان الإماراتي مع الجهود التحضيرية لإطلاق مشاورات شاملة في الكويت بين الحكومة الشرعية وتحالف الحوثيين وصالح، كما جاء في سياق النقاشات الأمنية بين السعودية والحوثيين في الظهران لإنهاء المواجهات على الحدود، وهذا كافٍ لإقناع الإمارات بوجود حل سياسي شامل وقريب ينهي النزاع، ويرتب لمسألة سحب القوات الأجنبية.
*لم تشهد فترة انعقاد مشاورات الكويت (أبريل – اغسطس 2016م) تحركات إماراتية أحادية لتعزيز نفوذها أو خطوات يفهم منها تحدي السلطة الشرعية على الأرض.
*دعمت الإمارات صيغة الحل السياسي المطروحة في مبادرة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جون كيري، والقائمة على تفويض الرئيس هادي صلاحياته لنائب توافقي، وأيدت قيام نائب الرئيس ورئيس الوزراء خالد بحاح بهذا الدور.
*بقاء الرئيس السابق صالح في المشهد وحضوره بصورة مباشرة أو غير مباشرة في أي تسوية سياسة كان عنصر اطمئنان إضافي للإمارات بشأن عدم تعرّض نفوذها في اليمن للتقويض.
مرحلة تعظيم النفوذ: بدأت هذه المرحلة عقب فشل مشاورات الكويت وامتدت حتى إعلان الإمارات سحب قواتها العاملة في اليمن، وقد شهدت تصعيدًا إماراتيًا باتجاه توسيع دائرة السيطرة والنفوذ؛ لتشمل المزيد من المحافظات الجنوبية ومناطق الساحل الغربي لليمن، واعتمدت الإمارات على أساليب متنوعة لتحقيق ذلك، منها افتعال الصدام مع الرئيس هادي والتصعيد ضد حكومته، وتوظيف ورقة “انفصال الجنوب” عبر تشكيلها المجلس الانتقالي الجنوبي، وتكوين قوات تابعة لطارق صالح ونشرها في بعض مناطق الساحل الغربي، كما نفّذت إنزالًا لقوات وآليات عسكرية في جزيرة سقطرى أثناء وجود الحكومة في الجزيرة بداية العام 2018م.
على الصعيد السياسي تمكنت الإمارات فعليًا من إنهاء الدور القطري في تحالف دعم الشرعية بزعم تعامل الدوحة مع الميليشيات الحوثية والقاعدة؛ وبذلك أضعفت احتمالات إعاقة التوسع الإماراتي من قبل قوى محلية مقربة من قطر، كما رفضت التقارب مع حزب “الإصلاح” الإسلامي بعد تصفية الحوثيين حليفها الرئيس السابق صالح.
مثّلت هذه المرحلة ذروة النشاط الإماراتي من أجل توسيع النفوذ وتدعيمه بأدوات محلية موالية، وأسفر نشاطها عن سيطرة إماراتية مباشرة أو شبه مباشرة على موانئ وجزر يمنية عدة، ونتج عنه أيضًا سيطرة الموالين لها في قوات المجلس الانتقالي على أربع محافظات جنوبية هي عدن ولحج وأبين وسقطرى، وتقويض كامل لسلطة الحكومة اليمنية في العاصمة المؤقتة، وإضعاف مركزها السياسي على المستويين المحلي والدولي.
مرحلة تثبيت النفوذ: نجحت بعض القوى الدولية (في طليعتها بريطانيا وروسيا) في منع سيطرة القوات اليمنية المدعومة من التحالف على مدينة الحديدة أقصى الساحل الغربي لليمن، وتوصلت الحكومة مع الحوثيين في ديسمبر 2018م إلى اتفاق أنهى التصعيد في الحديدة (اتفاق ستوكهولم)، وكانت من نتائجه غير المباشرة وضع حدٍ لطموحات الإمارات في التوسع باتجاه الحديدة، وبالتالي فقد تركز اهتمام الإمارات عقب اتفاق ستوكهولم على تأمين ما تحقق لها من مكاسب جيوسياسية خلال المرحلتين السابقتين، دون خوض معارك جديدة لتوسيع النفوذ في إطار حرب لم يعد من معنى للمزيد من التورط فيها بنظر الإمارات؛ حيث كانت قد وصلت إلى “نقطة تراجع المكتسبات”.
نهاية يونيو 2019م أعلنت الإمارات سحب قواتها وعتادها الحربي من اليمن، مع تأكيد بقائها ضمن التحالف، ولكن في إطار استراتيجية “السلام أولًا” والتركيز على محاربة الإرهاب. وترددت تصريحات رسمية لمسؤولين إماراتيين مفادها أن القوات التي دربتها الإمارات في اليمن، والتي وصل عددها إلى 90 ألف عنصر، قادرة على تثبيت الاستقرار.
وفي أغسطس/ آب 2019م شنّت الإمارات غارات جوية ضد القوات الحكومية أثناء المواجهات مع مسلحي المجلس الانتقالي بزعم الدفاع عن النفس ضد هجمات إرهابية وشيكة، وكانت الغارات إشارة واضحة إلى عزمها التدخل مباشرة ضد الحكومة رغم إعلان الانسحاب، في حال تعرّض نفوذها للخطر.
رابعًا: الإمارات والسعودية في اليمن؛ المصالح وسياسات النفوذ.
مصالح جوهرية متقاربة
في مقدمة المصالح والأهداف السعودية من تدخلها العسكري في اليمن يقع منع التمدد الإيراني إلى اليمن، والحيلولة دون بروز قوة عسكرية يمنية موالية لإيران على غرار حزب الله اللبناني، تستطيع تهديد الأمن القومي للمملكة، والإضرار باستقرار المنطقة.
وتلتقي الإمارات مع هذه المصالح السعودية من زوايا مختلفة، فالتمدد الإيراني في اليمن يعني بالنسبة للإمارات تهديد منطقة خليج عدن ومضيق باب المندب والبحر الأحمر؛ حيث تكمن المصالح الاقتصادية والتجارية البحرية للإمارات، وتزدهر طموحاتها بتكوين نفوذ بحري واسع في المرافئ والمضايق الواقعة على امتداد هذه المنطقة البحرية الهامة، ومن هذه الزاوية لا تقل المخاوف الإماراتية من النفوذ الإيراني في جنوب اليمن عن المخاوف السعودية من نفوذ إيراني مشابه في الشمال، بل تبدو مخاوف الإمارات أكثر عمقًا ومدعمة بقدر هائل من الخبرة التاريخية السيئة مع النفوذ الإيراني في الخليج العربي، فمن المعلوم أن احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث الواقعة على المدخل الشمالي للخليج العربي، حرم الإمارات من النفاذ المباشر إلى مضيق هرمز الاستراتيجي، وربما كان من بين الأسباب الجيولولوتيكية التي دفعت بها إلى البحث عن نفوذ بحري في نطاقات مائية أخرى، وبالتالي فمن مصلحة الإمارات إبعاد إيران عن البحرين العربي والأحمر، وهذا لا يلتقي فقط مع المصالح السعودية وإنما كذلك مع السياسة الدولية لأمن هذا المجال المائي الحيوي.
علاوة على ذلك يحمل البلَدان (السعودية والإمارات) تطلعات مشتركة لبناء النفوذ في منطقة القرن الإفريقي، وهذا يقتضي منهما القيام أولًا بقطع الطريق على أي تمدد إيراني في خليج عدن والبحر الأحمر، لقد “كانت الأولوية بالنسبة إلى السعودية والإمارات إبعاد النفوذ الإيراني عن جوارهما القريب. بيد أن القرن الإفريقي اكتسب أيضًا أهمية استراتيجية بسبب النزاع اليمني، وقد أظهر هذا الثنائي النافذ والطموح [السعودية والإمارات] اهتمامًا مطّردًا بممارسة نفوذ جيوسياسي في المنطقة”.
في السياق نفسه تعارض الإمارات مساعي الهيمنة الإيرانية على المنطقة، ويعدّ الحفاظ على أمن السعودية وبقاء كيانها متماسكًا أمرًا مهمًا لجهة عدم الإخلال بالتوازن الإقليمي بين أكبر قوتين إقليميتين في منطقة الخليج العربي (السعودية وإيران)، ولعل من المهم التذكير بأن موقف الإمارات كان حازمًا بالتدخل إلى جوار السعودية في البحرين دون أي حسابات إماراتية متعلقة باكتساب نفوذ في هذه الدولة الخليجية الصغيرة التي تُعدّ جزءًا لا يتجزأ من أمن السعودية القومي.
وانخرطت الإمارات في استراتيجية “الضغوط القصوى من خلال العقوبات الاقتصادية” التي اتبعتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب منذ مايو/ أيار 2018م كوسيلة لكبح التهديدات الإيرانية في المنطقة والحد من طموحاتها النووية، غير أن الإمارات لم تكن على ثقة بنجاعة هذه السياسة، وظل انخراطها محدودًا رغم أن حجم تجارتها مع إيران انخفض في العام 2019م إلى 3.5 مليار دولار.
وبينما يُنظر إلى الاعتبارات الاقتصادية متمثلة في المصالح والمبادلات التجارية الضخمة التي تربط الإمارات بطهران كسبب وراء الحذر الإماراتي من المشاركة النشطة في سياسة الضغوط القصوى[44]، يذهب البعض إلى أن السبب الأهم هو الخشية من أن يؤدي الانخراط الكامل في التصعيد مع إيران إلى عواقب مباشرة على أمن الإمارات، خاصة وأن الالتزام الأمريكي بحماية أمن دول الخليج كان غامضًا ولا يحظى بالمصداقية. كما أن الهجمات الصاروخية المنفلتة تمثل خطرًا محدقًا بالإمارات فـ “الإمارات أصغر وأكثر ضعفًا من السعودية، أمام الهجمات الصاروخية تحديدًا”.
وقد تعمّق هذا الاتجاه الإماراتي في حساب العواقب الأمنية من وراء التصعيد مع إيران، عقب الهجمات التي تعرضت لها ناقلات النفط الأربع في ميناء الفجيرة مايو/أيار 2019م، والتي رفضت الإمارات اتهام إيران بالوقوف وراءها، رغم أن تقارير أمريكية أكدت ذلك، وفي أغسطس/ آب 2019م وقّعت الإمارات الاتفاق الأمني البحري مع إيران؛ ليزور ولي عهد أبوظبي الرياض بعد ذلك بأيام لتأكيد أن الإمارات تنسّق خطواتها مع الرياض.
يخضع السلوك الإماراتي فيما يتعلق بالتعامل مع إيران لاعتبارات اقتصادية وأمنية معقدة، يُعتقد أنها تلقى تفهّمًا سعوديًا، وعليه يمكن القول إن الدور الإماراتي في اليمن لا يتصادم مع المصالح الحيوية للسعودية رغم اختلاف النظرة لمدى التهديدات الإيرانية وطريقة التعاطي معها، فمنع التمدد الإيراني والحفاظ على أمن المملكة والخليج يمثل مصلحة أساسية مشتركة لكلا البلدين؛ بدوافع ومستويات مختلفة بعض الشيء لكنها أساسية وأكيدة.
سياسات نفوذ مشتركة
عادة ما يجري تعليل ضعف الحضور السعودي في قيادة المعارك البرية خلال عمليتي “السهم الذهبي” (2015م) و”الرمح الذهبي” (2017م)، بعامل انشغال السعودية بتأمين حدودها الجنوبية مع اليمن.
ومع تأكيد أن الإمارات جنت من كلا العمليتين مكاسب جيوسياسية واقتصادية هائلة بالسيطرة على موانئ هامة على البحر العربي وخليج عدن ومضيق باب المندب، فإن من الصعب التسليم بكفاية هذا العامل في تفسير التوجه السعودي بإطلاق اليد الإماراتية في اليمن، سيما وأن الكثير من المكاسب الجغرافية آلت إلى نوع من السيطرة المشتركة بين البلدين، ففي سقطرى وميون ثمة سيطرة مشتركة إماراتية- سعودية على الجزيرتين لا تخطئها العين، وهذا ينطبق أيضًا على محافظتي شبوة وحضرموت النفطيتين.
إن تصدّر الإمارات لقيادة العمليتين العسكريتين المشار إليهما يعود إلى خشية السعودية من أن يثير وجود قواتها وسيطرتها على أجزاء من الأراضي اليمنية حساسية لدى اليمنيين جراء النزاع الحدودي التاريخي بينها وبين اليمن، أو أن يولّد أحقادًا على السعودية بسبب استحواذها على المزيد من الأراضي اليمنية تحت غطاء الحرب ضد الحوثيين.
لقد كانت السعودية حذرة في مسألة الوجود البري لقواتها في اليمن منذ الوهلة الأولى للحرب، ففي حين شاركت قوة إماراتية في معارك تحرير عدن على النحو الذي سبقت الإشارة إليه، فإن مشاركة السعودية في قتال الحوثيين بعدن اقتصرت على إنزال فرقة خاصة في مدينة كريتر مطلع مايو 2015م مكوّنة من خمسين عنصرًا يمنيًا كانوا يخدمون في القوات المسلحة السعودية، واكتفت السفن الحربية السعودية ومعها المصرية بدكّ مواقع الحوثيين من عرض البحر، إضافة للغارات الجوية السعودية الكثيفة بطبيعة الحال.
في الواقع لا تتوفر معلومات كافية يمكنها تعزيز ما تذهب إليه هذه الورقة من أن السيطرة الإماراتية على الموانئ والجزر اليمنية هي سيطرة سعودية بالدرجة نفسها، وأن السعودية قررت لأسباب تاريخية أن تقف في خلفية المشهد العسكري البري، مستفيدة من ولع الإمارات بلعب أدوار استثنائية وطموحاتها الجامحة لتكوين النفوذ.
مع ذلك تقدّم محافظة المهرة صورة واضحة لنهج استخدام السعودية للإمارات كـ “مخلب قط” وليس فقط شريكًا أصغر في السيطرة على الأراضي والموانئ اليمنية لمنافع مشتركة سعودية/ إماراتية، فقد شهدت نهاية العام 2015م طلائع الوجود الإماراتي في المهرة تحت ستار تدريب قوات الأمن في المحافظة، لكن الغرض الفعلي من وصول “الممثلين الإماراتيين” إلى المهرة في ذلك الوقت المبكر كان التمهيد للسيطرة على المهرة المتاخمة لسلطنة عُمان، وربما بالآليات نفسها المتبعة إماراتيًا في محافظات جنوبية أخرى (إغداق الأموال لشراء الولاءات، وتنظيم زيارات إبهار إلى الإمارات، وإنشاء حزام أمني أو قوات نخبة وما شابه).
غير أن الوجود الإماراتي أثار حساسية عمانية شديدة؛ نظرًا للعلاقات التاريخية غير الودية بين البلدين، وترجم إلى استنهاض حملة تصعيد شعبية ورسمية في الوسط الاجتماعي الذي تمتلك فيه عمان نفوذًا تقليديًا، اضطرت معه الإمارات لتصفية وجودها في المحافظة، لتبدأ السعودية بممارسة النفوذ المباشر في المهرة بعد أن فشلت الإمارات، وذلك عبر نشر قواتها والاستيلاء على المواقع الحيوية في المحافظة كمطار الغيظة وميناء نشطون، ومعبَري صرفيت وشحن الحدوديين مع عمان في نوفمبر 2017م، إذ لم يكن بمقدور السعودية التخلي عن هدف إقامة النفوذ في هذه المحافظة التي يمكن عبر أراضيها مد أنبوب نفط سعودي إلى موانئ بحر العرب، يؤمن للسعودية وللإمارات معًا استمرار تصدير نفطهما في حال أغلقت إيران مضيق هرمز.
تضيف جزيرة سقطرى مثالًا آخر على نهج تبادل الأدوار السعودية الإماراتية في المراحل الأولى من الحرب، أي قبل الانسحاب الإماراتي من الحرب، فقد قبلت الحكومة اليمنية بعد إنزال الإمارات قواتها في الجزيرة وسيطرتها على الميناء والمطار في أبريل 2018م، بوجود قوات سعودية كنتيجة للوساطة التي قادتها الرياض بين الحكومة والإمارات، وانتهت بتخفيف الوجود العسكري الإماراتي في الجزيرة بعد تقديم الحكومة شكوى لمجلس الأمن، ورغم ذلك استمرت الإمارات في ممارسة سياساتها الناعمة لاستقطاب السكان المحليين في الجزيرة وواصلت سياسات التجنيس، وكوّنت قوات تابعة للمجلس الانتقالي وسلّحتها بالآليات والمركبات المدرعة تحت نظر القوات السعودية، وفي يونيو/ حزيران 2019م تمكنت قوات الانتقالي من طرد القوات الحكومية الموجودة على الجزيرة وإنهاء الوجود الرسمي للحكومة دون أن تحرك القوات السعودية المرابطة على بعد أمتار ساكنًا.
نهج متماثل بتعبيرات مختلفة.
في يوليو/ تموز 2019م أعلنت الإمارات على لسان بعض مسؤوليها سحب قواتها من اليمن، وكان الغريب في الأمر أن تصريحات المسؤولين الإماراتيين القائلة بأن بلدهم أنشأ ودرّب الآلاف من العناصر المسلحة خارج إطار القوات النظامية لحكومة معترف بها دوليًا لم يثر استهجان أي من القوى الدولية أو الأمم المتحدة أو يستدعي دهشتها، أما الأغرب من ذلك فهو صمت السعودية على قيام دولة أخرى بتشكيل جيش جرار من المقاتلين (نحو 90 ألف مقاتل) لا يتبع الحكومة المدعومة منها، ويوجد في نطاق مصالحها الحيوية، فهي إما أن تكون مغلوبة على أمرها إلى حدٍ لا يمكن تخيله، أو أنها ضالعة في تشكيل تلك القوات، أو موافقة على ذلك بالحد الأدنى وهذا هو المرجح، فوفق استراتيجية توزيع النفوذ بين البلدين “تولّت الإمارات تدريب وتمويل قوات عسكرية جنوبية، معظمها يطالب بالانفصال عن الشمال، فيما عمدت السعودية إلى العمل مع بعض الوحدات العسكرية في الجيش اليمني، التي حاربت الحوثيين ورفضت سيطرتهم قُبيل وبعد سقوط صنعاء”.
في الواقع، لا يُعدّ تشكيل قوات خارج الجيش النظامي اليمني نهجًا إماراتيًا صِرفًا، فمنذ وقت مبكر عقب “عاصفة الحزم” شرعت السعودية في عملية تجنيد واسعة ليمنيين بغرض القتال في حدودها الجنوبية، وأنشأت ألوية عسكرية غير تابعة لوزارة الدفاع اليمنية، أوكلت قيادتها لسلفيين مدنيين لا خبرة لهم بالمجال العسكري، ومن هذه الألوية لواء الفتح المتمركز في منطقة كتاف بصعدة بقيادة ردّاد الهاشمي.
وفي العام 2016م شرعت الإمارات والسعودية في خطة مشتركة لتشكيل ألوية العمالقة الجنوبية خارج قوام الجيش الوطني اليمني، وهذه الألوية تمثل قوة ضاربة يصل تعداد ألويتها إلى 12 لواءً، وشكّلت رأس حربة في عملية الرمح الذهبي التي لم يكن للجيش الوطني فيها سوى مشاركة رمزية.
ومن الواضح أن لهذه الألوية ولاءات متداخلة سعودية وإماراتية، فجزء منها خاضع من الناحية المراتبية العسكرية لقيادة طارق صالح رجل الإمارات في الساحل الغربي، بينما هناك ألوية أخرى في جبال الوازعية وموْزع غرب تعز وفي الصبيحة بلحج تبدو أقرب للسعودية.
خامسًا: مستقبل الدور الإماراتي في اليمن.
ترتبط قدرة الإمارات على تحقيق نفوذ راسخ ومستدام في اليمن بمدى فاعلية الإدارة المشتركة السعودية – الإماراتية للخلافات التي تتقاطع بصورة مباشرة مع تصوراتهما لمستقبل تقاسم النفوذ في اليمن، إضافة لقدرة البلدين على تنسيق مصالحهما واحتواء التباينات في سياساتهما على المستوى الإقليمي.
وبوجه عام ثمة مؤشرات توحي بتضاؤل قدرة البلدين على إدارة خلافاتهما وتنسيق مصالحهما بصورة غير تنافسية، ما يضع حدودًا أمام الدور الإماراتي في المستقبل. وأهم تلك المؤشرات:
الفشل المتكرر في تنفيذ اتفاق الرياض الموقّع بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي، وهو فشل يعكس في الحقيقة عجز السعودية والإمارات عن إنجاز تفاهمات نهائية لتقاسم النفوذ في جنوب اليمن؛ حيث تضغط الإمارات من أجل سحب القوات الحكومية، وتحديدًا المحسوبة بنظرها على الإصلاح، من المحافظات الجنوبية، وفق استراتيجية تهدف لإيجاد جنوب يمني بلا إسلاميين كشرط لتأمين النفوذ الإماراتي وضمان استمراره في المستقبل.
لقد عمدت الإمارات في وقت سابق إلى التسليم بحق السعودية في التعامل بالطريقة التي تراها مناسبة مع “الإصلاح” ولكن في حدود شمال اليمن الذي يمثّل ساحة نفوذ سعودية تقليدية إلى حد كبير، أما في جنوب اليمن الذي يضم مناطق النفوذ الإماراتي المكتسبة فاتبعت الإمارات سياسة استئصالية لا هوادة فيها مع “الإصلاح”، إذ أوعزت للمجلس الانتقالي إعلان “الإصلاح” تنظيمًا إرهابيًا، وحظر أنشطته في محافظات جنوب اليمن في يوليو/ تموز 2017م، كما أدارت مخطط اغتيالات واسع لتصفية قيادات “إصلاحية”، وملأت السجون والمعتقلات السرية بالكثير من أنصاره، ثم ضغطت لتضمين اتفاق الرياض بنودًا خاصة بسحب جميع القوات المحسوبة على الإصلاح من المحافظات الجنوبية.
بالنسبة للسعودية يعني إخلاء الجنوب من قوة الجيش و”الإصلاح” الوازنة للانتقالي تسليم مقاليد الجنوب للإمارات، وهذا ما لا يمكن للرياض القبول به. أما من الناحية الواقعية فيمتلك الإصلاح مرتكزات وجود اجتماعي حقيقية تجعل من الصعب اقتلاعه من الجنوب. وهكذا فإن تحديد مستقبل الجنوب وترسيم دوائر النفوذ فيه لن يكون قرارًا إماراتيًا، وإذا ما تجرأت الإمارات وشجّعت حلفاءها في المجلس الانتقالي على إعلان الانفصال فسيعني ذلك المخاطرة بالدور الإماراتي برمته.
تداعيات الانسحاب الإماراتي من اليمن منتصف العام 2019م، وكما بات معلومًا فقد انسحبت الإمارات من الحرب في اليمن لا من اليمن كساحة نفوذ؛ لذا فقد كان انسحابها يحمل نوعًا من المطالبة الضمنية للسعودية بتثبيت صيغة لتقاسم النفوذ المتحصّل عن حرب وضعت أوزارها تمامًا من وجهة النظر الإماراتية، وباتت تستدعي توزيعًا “عادلًا” وواضحًا للمكاسب.
أما السعودية فيبدو أنها تعارض هذا التوجه الإماراتي وترى أنه سابق لأوانه، خاصة وأن نهاية العمليات العسكرية الكبرى في اليمن لا تعني بالنسبة إليها نهاية الحرب، فهذه الأخيرة تنتهي فقط بتسوية سياسية تعكس رؤية المملكة الأمنية وتعيد علاقتها بكيان الدولة اليمنية الجديد إلى ما كانت عليه قبل الحرب والثورة في اليمن (فبراير 2011م).
من جهة ثانية، شكّل الانسحاب الإماراتي من العمليات العسكرية ضد الحوثيين في اليمن نقطة البداية فيما يُعتقد أنه شعور سعودي بتناقص الحاجة للإمارات. لقد نجحت السعودية في منع سقوط مدينة مأرب التي بدأ هجوم الحوثيين عليها بعد الانسحاب الإماراتي بأشهر قليلة (ديسمبر 2019م)، علمًا أن مأرب هي المحافظة اليمنية التي شهدت انسحابًا إماراتيًا فعليًا وكاملًا في يوليو 2019م، شمل تفكيك منظومة صواريخ الباتريوت الدفاعية، وإنهاء الوجود الإماراتي في معسكر صحن الجن الاستراتيجي الذي يضم غرفة العمليات الرئيسية للتحالف، وإيقاف التمويل والإمداد المالي والمادي لجبهات مأرب وصنعاء المحاذية.
وعلى الصعيد نفسه تمكنت السعودية من احتواء الضغوط الناجمة عن التغيّر في استراتيجية إدارة الرئيس الأمريكي بايدن تجاه الحرب في اليمن، ونجحت إلى حد بعيد في إعادة تأكيد دورها كشريك استراتيجي للولايات المتحدة، دون الحاجة إلى الدبلوماسية الإماراتية التي لعبت في السابق دورًا أساسيًا في التقريب بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والإدارة الأمريكية السابقة.
وتقدّم السياسات الإقليمية السعودية المغايرة في الآونة الأخيرة كالمصالحة مع قطر، والتقارب مع تركيا رغم محدودية نطاقها، دليلًا أوليًّا على أن ولي العهد السعودي شبّ عن الطوق الإماراتي، أو أنه في الطريق إلى ذلك، وهذا نهج قد يتعزز مستقبلًا في السياسة السعودية بعد تربّع ولي العهد عرش المملكة رسميًا.
وعلى أية حال فإن “دور المرشد” الذي قام به ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد طيلة الأعوام السابقة يتعرض للتراجع، بالتزامن مع تراجع التأثير الإماراتي في أجندة السياسة السعودية.
التوجّه السعودي لإقامة اقتصاد سياحي وخدمي منافس للإمارات، وطلبها مطلع العام 2021م من الشركات الأجنبية العاملة في الخليج والشرق الأوسط نقل مقراتها الإقليمية الى المملكة بحلول العام 2024م، ما ينذر بسباق محموم بينها وبين الإمارات على اجتذاب المستثمرين والشركات، إضافة للخلاف مع الإمارات حول توزيع حصص إنتاج النفط في إطار منظمة أوبك بلس.
إجمالًا.. هناك الكثير من المصالح والتهديدات المشتركة التي لاتزال تحتّم على البلدين الإبقاء على علاقاتهما بعيدة عن التوتر، لكن ما هو واضح أن البلدين يفقدان باطراد قدرتهما على إدارة الخلافات وتنسيق سياساتهما المتعارضة. لقد عملا لسنوات في اليمن من أجل تكوين نفوذ مشترك إلى حد ما، غير أن انسحاب الإمارات من الحرب في اليمن دون تفاهمات جذرية مع السعودية، عجّل بخلافات ذات علاقة بمستقبل نفوذ البلدين وتحديدًا في جنوب اليمن.
مع ذلك يمكن القول إن دور الإمارات واستقرار نفوذها في اليمن مرهون بالتفاهم على نحو خاص مع السعودية، فالأخيرة تملك ورقة الشرعية اليمنية التي ما يزال بالإمكان استخدامها في الوقت المناسب لإضعاف النفوذ الإماراتي، خاصة وأن الإمارات أوجدت لها خلال السنوات المنصرمة الكثير من الأعداء في اليمن والخليج والمنطقة العربية عمومًا، وهي بحاجة إلى المظلة السعودية لتجنب ويلات الانتقام.
كما أن الدور الإماراتي في اليمن يرتكز في الغالب على أدوات هشّة، فالفصائل المسلحة الموالية للإمارات بعضها منقسم وتخترقه ولاءات جهوية متعارضة ومحفزة للصراع الداخلي كما ثبت من مواجهات الشيخ عثمان في عدن بين فصائل الانتقالي (يونيو/ حزيران 2021م)، وبعضها الآخر يفتقر بشكل كامل إلى الحاضنة الاجتماعية في المناطق التي يسيطر عليها (قوات طارق صالح) ويسهل زعزعتها إذا ما أرادت السعودية ذلك.
إن إدراك الإمارات لحدود اللعب مع “الشقيق الأكبر” في اليمن لا يعني الامتثال للإرادة السعودية أو التكيف مع سياساتها، وإيقاف حالة الحرب بالوكالة التي يشنها من وقت لآخر أتباعها في المجلس الانتقالي ضد الحكومة وبصورة غير مباشرة ضد السعودية، وإنما يعني المزيد من الحذر في إدارة العلاقة معها لتجنب انهيارها، بالتوازي مع محاولة استعادة زمام التأثير في السياسة السعودية التي من الواضح أنها لم تحسم بعد خياراتها بصورة نهائية في اليمن والمحيط الإقليمي.
المصدر:
منتدى السياسيات العربية