توعد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بإعادة تشكيل الشرق الأوسط بعد عملية طوفان الأقصى التي أطلقتها كتائب القسام -الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس– في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
وتشير تصريحات نتنياهو إلى أن إسرائيل تريد استغلال التأييد والدعم الأميركي والغربي إلى أقصى قدر ممكن بما يحفظ ويعظّم مكتسباتها من الحرب.
أحداث السابع من أكتوبر لها ما بعدها إذ سوف تعيد تشكيل الشرق الأوسط مستقبلا، وفقا لقواعد الصراع بين المشاريع الكبرى في المنطقة، المشروع الأميركي الغربي الإسرائيلي، والمشروع الإيراني والمشروع التركي.
نوعية العملية
ذات التخطيط الذي استخدمه الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات في حرب السادس من أكتوبر من عام 1973 في يوم الغفران أو يوم كيبور" يوم التطهر من الذنوب"، باغتت القوات المصرية الجيش الإسرائيلي وحققت انتصارا كبيرا استعادت به الأرض المصرية المحتلة.
وبذات أيام الغفران كررت حركة حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي ذات الهجوم النوعي المباغت على المستوطنات والمواقع العسكرية الإسرائيلية في غلاف غزة.
وتأتي نوعية هذه العملية للمقاومة من عدة أوجه:
- حجم الخسارة الكبيرة التي لحقت بإسرائيل: فهي ثاني أكبر خسارة تلحق بالقوات الإسرائيلية بعد حرب عام 73، إذ قتلت المقاومة الفلسطينية أكثر من 1400 وأصابت أكثر من 5132 آخرين، وأسرت ما يزيد على 250 جلهم من العسكريين وبعضهم ضباط في رتب مرتفعة في الجيش.
- عملية المقاومة ضربت الهجرات اليهودية في مقتل: إذ إن وعود الأمن والرفاه والعيش الرغيد التي تروج للمهاجرين لإسرائيل قد تبددت بعد العملية فلا أمن بعد نجاح المقاومة في اقتحام المستوطنات والمواقع العسكرية بهذه الطريقة التي شاهدها كل العالم.
- العملية شكّلت ضربة كبيرة لصورة إسرائيل الاستخباراتية: بعد أن باغتت العملية إسرائيل دون أي تسريب أو توقع مسبق فكانت العملية شاهدا على فشل ذريع للاستخبارات الإسرائيلية.
- العملية أظهرت هشاشة إسرائيل العسكرية فالدولة التي تقدم نفسها للتطبيع مع الأنظمة العربية بالتفوق الأمني والعسكري أظهرت أنها عاجزة عن حماية نفسها وأنها عندما شعرت بالخطر الحقيقي لجأت للحليف الغربي ليحميها في المنطقة، فمن كان يقدم نفسه أنه الحامي للمنطقة والأنظمة الحليفة اليوم يطلب الحماية من أميركا والغرب.
- العملية أعادت الثقة بفكرة المقاومة وجدواها في مسيرة التحرير الفلسطيني، هذه الثقة التي انهارت بسبب حرب النكسة وتكريس فكرة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر على مدار أكثر من نصف قرن، وخاصة بعد أن فشل خيار التسوية الذي اتبعته السلطة الفلسطينية على مدار 30 عاما في تحقيق أي شيء يذكر للفلسطينيين.
سيناريوهات الحرب الحالية
السيناريو الأول:
انتصار إسرائيلي ساحق على المقاومة الفلسطينية: الانتصار الذي تريده إسرائيل هو اجتثاث حماس نهائيا وجعل غزة منزوعة السلاح واسترداد الأسرى، وأي حديث عن بقاء حماس أو بقاء السلاح في غزة والتفاوض على الأسرى يعني بالنسبة لإسرائيل هزيمة منكرة، الانتصار الذي تريده إسرائيل هو انتصار صفري وأن الخصم يجب أن يستسلم وينتهي تماما وهذا هو الهدف الإسرائيلي والأميركي المعلن.
هذا الهدف له ما يدعمه وما يخدم تحققه على الأرض من وجود ضوء أخضر أميركي وغربي باستخدام القوة ضد غزة دون أي خطوط حمراء، والجسر الجوي من الأسلحة الأميركية المتطورة، وبوارج الردع التي تمنع توسع الحرب في المنطقة، والدعم المالي الكبير الذي يقدمه الغرب لإسرائيل حتى بلغ في آخر مطالبات الرئيس الأميركي جو بايدن للكونغرس بالموافقة على تخصيص 14 مليار دولار دعما عسكريا لإسرائيل.
ويقف خلف ذلك، ماكينة إعلامية غربية متعاطفة وداعمة لإسرائيل، ظروف لن تتركها القيادة الإسرائيلية السياسية والعسكرية دون السعي لإنهاء حماس والمقاومة وسلاح غزة للأبد، فهذه فرصة لن تتكرر لإسرائيل من وجهة نظر القيادة الإسرائيلية.
السيناريو الثاني:
بقاء المقاومة وقيادة المقاومة وسلاح المقاومة وبقاء الأسرى تحت يد المقاومة سواء كانوا أحياء أو أمواتا، فمجرد بقاء المقاومة سواء كان ذلك مع خسائر برية إسرائيلية أو دون خسائر إسرائيلية سيمثل فشلا وهزيمة للحملة الإسرائيلية، فكل ما هو دون اجتثاث المقاومة وسلاحها هو انتصار فلسطيني.
هذا السيناريو له ما يدعمه بالتجارب السابقة في حروب إسرائيل البرية فحرب 2006 في لبنان فاجأت الجميع وصمد حزب الله، وخضعت إسرائيل بالنهاية لصفقة تبادل الأسرى وتكبدت خسائر لم تكن تتوقعها.
ويمكن تكرار النموذج اللبناني في الحرب البرية على غزة، ولكن هذا يعتمد على مقدار ما أعدته المقاومة الفلسطينية للحرب البرية، وهذا ما سوف تحكم عليه الأسابيع الأولى للحرب البرية.
ما بعد الحرب
في حال تحقق لإسرائيل السيناريو الأول وحققت نصرا ساحقا واستطاعت احتلال غزة مرة أخرى وإنهاء وجود المقاومة ونزع سلاحها فإن المشهد العسكري والسياسي لصالح إسرائيل في المنطقة سيكون على الشكل التالي:
- خروج نتنياهو منتصرا من الحرب فهذا يعني تشديد قبضة اليمين الإسرائيلي على مقاليد الحكم في أي انتخابات مقبلة ولسنوات طويلة.
- سوف يعمد نتنياهو إلى استثمار الانتصار والسعي لحرب أخرى وتكرار ذات الانتصار في جنوب لبنان على حزب الله مستفيدا من الدعم الغربي والأميركي اللامحدود، وخاصة بعد أن دخل جنوب لبنان في الحرب ولو بشكل محدود حتى الآن.
- تثبيت وتعميق إسرائيل سياسة قوة الردع وسياسة إدارة التوحش العسكري التي انتهجتها في حروبها مع الجيوش العربية وحركات المقاومة الفلسطينية على مدار تاريخ القضية الفلسطينية.
- إضعاف أي فرصة لأي انتفاضة فلسطينية ثالثة في الضفة الغربية، والذهاب إلى الخطة الأهم لدى اليمين الإسرائيلي بالتقسيم المكاني للمسجد الأقصى وتوسيع التقسيم الزماني للمتشددين اليهود وتسريع خطة تهويد المسجد الأقصى.
- انتصار إسرائيل سوف يعني تسليم غزة للسلطة الفلسطينية على الغالب والعمل بشكل متسارع على تنفيذ بنود صفقة القرن بالقوة وبفرض الأمر الواقع، وذلك بضم غور الأردن والمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية التي تستحوذ على أكثر من 43% من أراضي الضفة لإسرائيل وإقامة حكم ذاتي فلسطيني بكنتونات جغرافية غير متصلة مع العمل على البدء بسياسة التهجير الناعم.
- وكشفت دراسة مسربة الخطة الإسرائيلية في توطين مليوني فلسطيني في مصر بقيمة 8 مليارات دولار لبناء مدن للفلسطينيين في سيناء ودفع تعويضات قد تصل إلى 30 مليار دولار للدولة المصرية على أن يتم تجريف غزة بالكامل وبناء مستوطنات إسرائيلية عليها.
- تراجع المشروع الإيراني في المنطقة وتراجع ما يسمى محور المقاومة وتقدم وتفوق المشروع الأميركي الغربي الإسرائيلي، وهذا يعني تسارع دوران عجلة التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني لتصبح إسرائيل القوة الكبرى في المنطقة، وإعادة المشروع التركي إلى مربع التفاهمات مع المشروع الأميركي الإسرائيلي لا مناكفته ومنافسته.
أما في حال تحقق انتصار للمقاومة وهنا أقصد بالانتصار "بقاء المقاومة وسلاحها في غزة والتفاوض على الأسرى"، فإن المشهد السياسي في المنطقة سيكون مختلفا تماما وعلى النحو التالي:
- انتصار المقاومة يعني تجذير حماس لتكون القوة الأولى في القضية الفلسطينية وعلى المجتمع الدولي وإسرائيل أن يتعاملا معها كاللاعب الأهم في تقرير مصير القضية الفلسطينية وتراجع دور السلطة الفلسطينية التي أصبحت هيكلا بلا مضمون ولا محتوى.
- تراجع اليمين الإسرائيلي وانتهاء الحياة السياسية لنتنياهو وحمل الولايات المتحدة الأميركية والتيار الأقل يمينية في إسرائيل على إعادة التعامل مع الرواية والسردية والتصور الأردني الذي ما زال متمسكا ومدافعا عن خيار المبادرة العربية بحل الدولتين وإعادة إنتاج فكرة إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة على حدود السابع من يونيو/حزيران لعام 67 بإقامة دولة فلسطينية على كامل أراضي الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وغزة والغور الأردني.
- إعادة ترتيب الشرق الأوسط وصعود أقوى لإيران في كثير من ملفات المنطقة، مما سوف يخلق تفاهمات عربية إيرانية وتمدد التيار المناوئ للمشروع الأميركي، مع احتمال تقارب تركي إيراني أكبر تدعمه روسيا، تقارب سيعزز مكانة ونفوذ روسيا في المنطقة.
- ارتياح أكبر لدول الطوق وخصوصا الأردن ومصر وذلك بالتخلص من مشروع التهجير وإن كانت تلك الدول تقبل استفادة الإسلام السياسي مرحليا كعرض من أعراض انتصار المقاومة في غزة مع قدرتها على إبقاء الإسلام السياسي تحت السيطرة والإضعاف بمقابل التخلص من هاجس التهجير وإعادة التوطين في مصر والأردن بما يمثله من تهديد إستراتيجي للأمن القومي لبلدان الطوق.
- انحسار موجة التطبيع العربي الإسرائيلي حيث إن التطبيع كان محمولا بدافعية التفوق العسكري والأمني الإسرائيلي، فالخسارة الإسرائيلية سوف تظهر قوة إسرائيل بحجمها الحقيقي بعيدا عمّا تروجه إسرائيل عن نفسها كحليف قوي ومتفوق أمنيا وعسكريا، يمكن التعاون معه من قبل الدول العربية في مواجهة المشروع الإيراني.
حرب مختلفة
نتائج الحرب لا أحد يستطيع التكهن بها، فالدعم الأميركي الغربي لإسرائيل غير محدود ولا مشروط ولم يوضع له سقف زمني ولا يوجد ضغط شعبي غربي حتى الآن يكفي لوقفه، مما يجعل هذه الحرب مختلفة تماما عن مثيلاتها منذ عام 2008 وحتى عام 2023 على غزة.
وفي الوقت ذاته فإن قوة المقاومة البرية لا أحد يستطيع تقديرها حيث إن حماس تنظيم شديد السرية وحجم السلاح ونوعيته الذي تدفق إليها لا يستطيع أحد تقديره، مما يجعل كل احتمالات الحرب مفتوحة.
من المؤكد أن ما قبل السابع من أكتوبر لا يشبه ما بعده، وأننا مقبلون على أحداث وتطورات سياسية كبيرة تجعل كل الأطراف المتأثرة بالقضية الفلسطينية يقظة ومتوجسة ومتخوفة ولا تريد أن يكون حل القضية الفلسطينية لصالح إسرائيل على حسابها.
كل ما جرى حتى الآن في الحرب الإسرائيلية والقصف الجوي لا يغير شيئا على الأرض وأن نتائج الحرب البرية وحدها هي من سيعيد تشكيل المنطقة وتقوية محاور وإضعاف أخرى وتقدم مشاريع وتراجع أخرى. الحرب البرية لطوفان الأقصى قد تكون الحدث الأكبر في القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية.