أجرت جماعة الحوثي في الآونة الأخيرة مناورة عسكرية تكتيكية على الساحل الغربي لليمن، تحاكي ما وصفته الجماعة بـ "حرب المدن"، وذلك ضمن مجموعة من الإجراءات الاحترازية، تحسباً لأي تحرك عسكري داخليٍ ومدعومٍ من الخارج أوسع نطاقاً قد يؤدي إلى تقويض سلطتها على المناطق الخاضعة لسيطرتها، وإضعاف قدراتها العسكرية إلى حدّ كبير.
ترمز هذه المناورة بوضوح إلى المخاوف المتزايدة لدى الجماعة من إمكان أن تكون هدفاً تالياً لإسرائيل والغرب، بعد أن شكَّلت المناطق الخاضعة لنفوذها، خلال الحرب الدائرة في قطاع غزة ولبنان، مصدر تهديدٍ حقيقياً خطيراً ليس فقط لأمن إسرائيل، بل وللاستقرار والسلم في كلٍ من البحر الأحمر وخليج عدن، وهي الممرات التجارية المهمة للمنطقة والعالم التي تقلصت حركة الملاحة عبرها إلى النصف تقريباً، وتسبب ذلك في خسائر فادحة على مستوى الاقتصاد العالمي كله.
ذلك أيضاً أتى في ظل مزيدٍ من الهواجس والتساؤلات بشأن ما يمكن أن يكون عليه "اليوم التالي اليمني" خصوصاً إذا قررت إسرائيل ومعها الولايات المتحدة توجيه ضربات أخرى لإضعاف قدرات الحوثيين رداً على هجماتهم، وهو أمر يبدو محسوماً لدى عديدٍ من المراقبين والمحللين في اليمن والغرب.
صحيح أن التطورات المتسارعة للأحداث في قطاع غزة ولبنان، ولا سيما بعد الهجوم الإسرائيلي على إيران، لا تضع أمام المراقبين والمحللين مجالاً لتصور أكثر دقة بخصوص ما يمكن أن تؤول إليه مجريات تلك الأحداث على مستقبل العلاقة بين إسرائيل وإيران وحلفاء طهران في كل من سوريا ولبنان والعراق واليمن.
غير أن منطق التطورات الجارية بشقيها العسكري والسياسي يقول بوضوحٍ إنه لا إمكانية للعودة إلى ما كانت عليه الأمور قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وما تلاه من تطورات وأحداث جسام.
ربما لا حديث اليوم في المنطقة العربية أهمَّ من ذلك المدى الذي يمكن أن تبلغه العملية العسكرية الإسرائيلية في كلٍ من قطاع غزة وجنوب لبنان، نظراً لضخامة هذه العملية وكثافتها وعنفها وكلفتها الضخمة والآثار المترتبة عليها في الحاضر والمستقبل، والأهداف الاستراتيجية التي تأمل إسرائيل أن تكسبها بعد تلك الكلفة.
قبل بضعة أيام، ومع احتمال التوصل إلى حلول دبلوماسية للحرب في قطاع غزة ولبنان، كانت هناك نقاشات سياسية واسعة في أوساط العديد من النخب اليمنية والعربية بشأن إمكانية أو عدم إمكانية الذهاب إلى "شرق أوسط جديد" وفق التصور الإسرائيلي الذي كان رئيس وزراء إسرائيل الراحل شيمون بيريز قد "بشَّر" به قبل نحو ثلاثة عقودٍ من الزمن على الأقل من خلال كتابه الشهير في هذا الموضوع.
يرى عديدون أن ثمة ثلاث مراحل لهذه الحرب للوصول إلى ذلك، وهناك من يعتقد أن أهداف كلٍ من المراحل المشار إليها مرتبطة ببعضها بعضا، وكل واحدٍ من هذه الأهداف يمهد الطريق لما بعده.
في المرحلة الأولى، على المدى المنظور، تقول إسرائيل إن هدفها هو القضاء على القدرات العسكرية لحركة حماس في غزة وحزب الله في لبنان وإضعاف تلك القدرات لدى ما بات يوصف بساحات أو "جبهات الإسناد" ويقصد بها الفصائل الشيعية في العراق، وجماعة الحوثيين في اليمن.
ولكن ما هي قدرات إسرائيل على تحقيق هذه الأهداف في ضوء ما لا تزال تواجهه في نظر بعضهم من مقاومة شرسةٍ لحملتها العسكرية الحالية؟.
الهدف الرئيسي لهذه المرحلة على ما يبدو هو تمهيد الطريق إلى مرحلة ثانية تليها، وهي إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل هجوم حماس على إسرائيل في السابع من شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام 2023، أي الرجوع إلى خطط التطبيع والاعتراف المتبادل بين إسرائيل وبعض البلدان العربية ذات الأهمية الإقليمية بالنسبة لإسرائيل، وهي الخطط التي كانت وشيكة التنفيذ لولا أن هجوم السابع من أكتوبر قد حال دون المضي قُدماً في إتمامها، بحسب التفسير الإسرائيلي، وليس لأن هناك "قضية فلسطينية" يجب العودة، وفقاً لحماس ومناصريها، إلى التذكير بأهمية حسمها على أساس "حل الدولتين" وغيره من القرارات الدولية ذات الصلة.
أما فيما يخص أهداف المرحلة الثالثة لهذه الحرب، من منظورٍ تحليلي، فتتعلق بالذهاب إلى تحقيق حلم إسرائيل في "شرق أوسط جديدٍ" كما تخيله شيمون بيريز من خلال كتابه.
الأرجح، كما يرى مراقبون، أن يذهب الوضع العربي الراهن إلى "شرق أوسط جديد" تصبح بعض دوله مجالاً حيوياً لإسرائيل، وسوقاً لبيع منتجاتها العلمية والتكنولوجية المتقدمة وغيرها.
ماذا عن الموقع المحتمل لليمن؟
يجري اليوم طرح السؤال عن مستقبل اليمن في الترتيبات الجيوسياسية والأمنية المتوقعة لمرحلة ما بعد الحرب في اليمن المنقسم كله وليس فقط في مناطق نفوذ جماعة الحوثي.
في ما يخص هذا البلد، وهو من بين أهم الدول من حيث الموقع والسكان في جنوب غرب آسيا، فمن المستبعد في نظر كثير من الخبراء والدارسين أن يكون جزءاً من الشرق الأوسط (الجديد) على الأقل في المدى المتوسط إلا في حال إعادة تفكيكه وتذويب بعض مكوناته المتصارعة ضمن الكيانات الأكبر المرشحة لأن تشكل المكونات الرئيسية الأكبر في المنطقة وفي مقدمتها السعودية وعُمان وإثيوبيا.
غير أن حسابات الحقل هنا قد لا تتطابق مع حسابات البيدر، فاليمن كما هو معروف بلدٌ معقد التكوين، مسلحٌ، وعر التضاريس الجغرافية وصعب المراس تاريخياً من وجوه عدة.
الأرجح أنه ما لم يستقر حاله المضطرب اليوم، فمن غير المستبعد أن يؤدي تزايد التدخلات الخارجية في شؤونه إلى مزيدٍ من الاحتراب الأهلي الداخلي الذي قد يجعل منه بحكم موقعه على بحرين مهمين، العربي والأحمر، وسيطرته على مضيق باب المندب أكبر مهددٍ لأي مشروعٍ لإقامة أي شرق أوسط جديد.
واقع اللا حرب واللا سلم الهش
أخفق التحالف السعودي - الإماراتي في إخراج اليمن من مأساة حرب الأعوام العشرة الماضية، وألقى به الصراع في حضيضٍ من الانحطاط والتمزق والفقر والفوضى.
كان من نتيجة ذلك أن تعذرت استعادة دولته وإرجاعه إلى الاحتكام لضوابط التعامل بين أطراف الأسرة العالمية، وبالتالي إلى انزلاق أجزاء منه في جنوب البلاد إلى منافساتٍ إقليمية غير محسوبة النتائج، واصطفاف شماله الخاضع لسيطرة الحوثيين إلى جانب إيران في حربٍ لا ناقة لليمن فيها ولا جمل إلاَّ من نواحٍ عاطفية وإنسانية ليس إلا.
إلى أين تتجه البوصلة؟
ثمة احتمالان أساسيان، أولهما أن تضطر الحركة الحوثية إلى مراجعة سلوكها في الداخل والخارج بما يفضي إلى القبول بفكرة العودة إلى مرجعيات الحل السياسي مع خصومها في الداخل مع الأخذ بعين الاعتبار ما طرأ على الواقع من تغيرات، وبما يجنبها الوقوع أكثر في دائرة الاستهداف، ويحول دون مزيد من التدخلات الخارجية.
لكن هذا الاحتمال يبدو الأضعف في ظل تفكك المعسكر المناوئ لها وشعور الجماعة أنها أصبحت قوة إقليمية وعالمية يجب الاعتراف بها.
أما الاحتمال الآخر وهو الذي يبدو مرجحاً أكثر، وهو أن تعود البلاد إلى الحرب مجدداً - حرب أهلية أكثر ضراوة وعنفاً، لا يمكن التكهن بمداها ونتائجها، تزيد من عزلة اليمن وتخبطه وحده في مأساته دون تدخل أو عون من جيرانه وأصدقائه في المنطقة والعالم.