الرئيسية - عربي ودولي - غزة.. عندما "تلتصق" أشلاء الأب على كتف طفله.. تنهار الطفولة أمام ثقل الموت

غزة.. عندما "تلتصق" أشلاء الأب على كتف طفله.. تنهار الطفولة أمام ثقل الموت

الساعة 07:50 مساءً



�نا عدن | متابعات
على كتف الطفل أحمد محمد أبو سكران، الذي لم يتجاوز الثالثة عشرة، وقف على بسطة صغيرة بين بضائع بسيطة،التصقت اشلاء لحم والده بكتفه، شعر بالحرارة الغريبة للدم على جلده، وبملمس اللحم الممزق، بينما صمت مفاجئ يحيط بالمكان ويتركه وحيدًا مع الرعب، كل ثانية تمر ثقيلة، كل نفس يلتقطه يذكّره بما حدث، بما فقده، بما لم يعد له.

يرتجف جسده الصغير، يحاول أن يبتعد عن الدم واللحم، لكن جسده يرفض الحركة، وكل خفقة قلب تحمل صدمة الموت القريب، صدمة فقدان والده، صدمة أن جزءًا من حياته أصبح على كتفه، يحاول أحمد أن يفهم ما يحدث، يحاول أن يثبت نفسه، أن يتمسك ببقايا والده، أن يواصل التنفس رغم شعور الرعب والوجع الذي يملأ كل جزء منه.

كل تفصيل يلتصق في ذاكرته: حرارة الدم، ملمس اللحم، رائحة الموت، صوت الانفجار المتأخر في أذنه، الصرخة التي لم تصدر، وكل لحظة تمر تثقل قلبه الصغير، كل حركة تحفر في ذاكرته صورة وحشية الحرب التي عاشها، صورة لن تمحى أبدًا.

"وكالة سند للأنباء" حاورت الطفل "أبو سكران" (13 عامًا)، الذي عايش لحظة لم يعرفها طفل آخر في عمره: مشهد فقدان والده بطريقة وحشية، والدم واللحم يلتصقان بكتفه الصغير، والركام حوله، والخراب في كل مكان، تحدث أحمد عن اللحظة التي تحول فيها يوم عادي على بسطته الصغيرة إلى كارثة ستظل محفورة في ذاكرته إلى الأبد.

يُذكر أن والد الطفل أحمد أبو سكران ارتقى في أواخر أغسطس/آب الماضي، ضمن استهداف مبنى في حي الرمال بمدينة غزة؛ أسفر عن وقوع مجزرة كبيرة وعدد من الشهداء.

"لحمه على كتفي"..

يتذكر أحمد اللحظة قبل القصف قائلًا: "كنت جالسًا على البسطة الصغيرة اللي نبيع فيها أنا ووالدي، كنت زهقان وبدّي ألعب مع الأولاد، لكن والدي قعدني جمبه وحكى لي: "هذا مصدر رزقنا لازم نحافظ عليه" لم أكن أعلم أن هذه الكلمات ستكون آخر ما يربطني به."

ويشعر أحمد بالرعب حين وقع القصف: "سمعت صوت الانفجار يقترب بسرعة رهيبة، شعرت بأن الأرض تهتز، وكل شيء أصبح دخانًا وغبارًا، ورأيت والدي على الأرض، ولحمه متناثر على كتفي، شعرت أن قلبي انفطر، لم أستطع الصراخ، لم أستطع تحريك نفسي، كنت واقفًا وحيدًا وسط الركام والرعب."

ويسترجع أحمد تفاصيل الصدمة: "ظللت أرتجف لساعات، أحاول أن أفهم ما حدث، كل مرة أسمع أصوات الطائرات، تتجدد الذكريات أمام عيني، الدم، الركام، صرخات الناس، شعرت أن جزءًا مني مات مع لحمه على كتفي."

وماذا عن حنان والدك؟، يُجيبنا بعد تنهيدة: "كان والدي دائمًا مبتسمًا رغم الجوع، يحبنا بلا حدود، كان يوصيني على أخواتي، يحذرنا من الخلاف، ويعلمني الصبر، أحب كل شيء فيه، صوته، ابتسامته، حتى صمته في أوقات الشدة."

ويتحدث أحمد عن الصدمة المستمرة: "أشعر بالذنب أحيانًا لأنني نجوت بينما والدي رحل، كل شيء يطاردني في كل لحظة: ارتقائه، لحمه على كتفي، صرخات الناس، شعرت أن حياتي توقفت هناك."

ويعبر أحمد عن صموده رغم الألم: "أحاول أن أكون قويًا لأخواتي، أحضنهم وأخبرهم أن والدي يراقبنا من فوق، لكن قلبي محطم، كل يوم أعيد المشهد في رأسي، وكل مرة أشعر أن جزءًا مني مات مع لحمه على كتفي."

"صدمة الموقف"..

تسترجع الأم مريم لحظة وصول الخبر المأساوي: "وصلني خبر استشهاد زوجي، ولم أصدق أن ابني أحمد سيكون حاضرًا في هذه اللحظة، شعرت وكأن الأرض اختفت من تحتي، ووجهي احتاج للثبات، لكن لم أستطع الوقوف على رجلي، كل شيء حولي صار ضبابًا، والهواء كأنه توقف عن الحركة."

وتصف مريم اللقاء الأول مع نجلها أحمد بعد الاستهداف: "حكوا لي أنه بخير، لكن لم أصدقهم، وقلبي كان يغرق في القلق، لما رأيته، ركضت إليه وحضنته وبكيت بلا توقف، شعرت أن قلبي يحترق على ابني، كنت عاجزة عن حمايته من الصدمة التي ترافقه، لم تكن دموعي كافية للتخفيف عن ألمنا، وكل ثانية كانت ثقيلة كأنها سنوات."

وتوضح مريم الصعوبة النفسية التي يمر بها أحمد: "حين يبكي الأطفال لفقدان والديهم، أرى ألم أحمد يتجسد أمامي بوضوح، يحكي لي تفاصيل الحدث بكل براءة وصراحة، وأنا أشعر بالعجز التام عن حماية طفلي من تلك الذكريات التي تركت في نفسه ندوبًا عميقة."

وتعبر مريم عن الفراغ الكبير الذي تركه زوجها في حياتهم: "كل شيء تغير بعد رحيله، البيت صار صامتًا، والأيام ثقيلة بلا طعم، وقلوبنا محطمة، أحمد يحاول أن يظهر القوة أمامي وأمام أخواته، لكن عيونه الصغيرة ما زالت تحمل صدمة لا يمكن محوها بسهولة، كل حركة، كل صوت، كل لحظة يذكره بما فقد، كأن الحرب لم تترك لنا سوى الألم والصمت."

وتختم مريم حديثها بمرارة: "أحيانًا، حين أراه يلعب أو يضحك بصعوبة، أشعر بأنه يحاول أن يخلق لحظات حياة وسط الخراب، وأن يملأ الفراغ الذي تركه والده، لكن كل مرة أعلم أن القلب لم يلتئم بعد، وأن صدمة الموقف ستظل محفورة في أعماقنا إلى الأبد".
وكالة سند للانباء