في غفلة من الزمان، أضحى المكان فضاءا مكشوفا، وحيازته صارت ممكنة أكثر من أي وقت مضى، فالنظام حينها أصبح محشورا في بؤرة كشفت سوأته وهوانه، بعد مطالبات عديد فئات شعبية بإسقاطه. وبينما انشغلت عامة اليمنيين بتحقيق هكذا غاية، كانت جماعة الحوثي تقضم أجزاءا من أراضي الجمهورية، لتضمها إلى أخرى سبق لها حيازتها، في مسلك يناقض توجهاتها المعلنة ومقتضيات انضمامهاس الباكر للحركة الشعبية العارمة.. لكنها اختطت لذاتها نهجا مغايرا، وأخذتتعزف لحنا نشازا، وكأنما تؤدي صلاتها منفردة وخارج الأوقات الخمسة.
التوجهات المعاكسة للجماعة الحوثية، صارت ميزة لصيقة بها، فبعد انهيار رأس النظام، كان لها قدما في الحوار الوطني، وأخرى خارجه، فيما مسلكها خارج الحوار يشي بدلالة قاطعة أنها لا تقيم له وزنا، ولا تتغيا منه خيرا، خاصة وهي استمرت في مطامحها التوسعية مدفوعة بآمال متضخمة في السلطة دونما اعتبار لقضايا وطنية دونها أخلاقية، فلم تكتف بـ (صعدة) رهينتها التليدة، لتتجه نحو (الجوف) شرقا و (حجة) غربا، في حين أن عينيها ظلتا ترصدان (عمران) التي ما انفكت تحاول حيازتها، فهذه المحافظة، الطريق السريع لقلب اليمن صنعاء، مركز الدولة ومكمن مهابتها، حتى إذا ما صارت على مرمى حجر منها، احجمت عنها، لا لأنها في حوزتهم سلفا ولا حاجة لابتلاعها، كما صرح زعيم الجماعة السيد المعتبر، إنما لاعتبارات أخرى، دولية وإقليمية تعي الجماعة تماما أنها ستضعها تحت عصاها الغليظة المؤلمة.
جماعة الحوثي لا يعوزها شيء من ذكاء، فهي تدرك عواقب الإفصاح الفج عن رغبتها في سلطة لم يحن بعد أوان اقتطافها، لكن يمكن الاكتفاء بمكانة متميزة في منظومة الحكم الجديدة، تجعلها على مقربة منها، كيما تصبح قادرة عليها في آماد لاحقة بعد تجاوز الخطوط الحمراء.. ولذلك تستخدم الحروب العبثية المكثفة أداة لها في محاولة لإعادة النظر في تقسيم أقاليم الدولة الاتحادية القادمة، لما يضمن منفذا بحريا لها على سواحل محافظة حجة، وموارد نفطية يمكن للمحافظة الأخرى المجاورة (الجوف) ان توفره لها، حتى يستقيم عودها وتضمن إمدادات ذاتية تغذي مراميها للسلطة، وهو حق لا ننكره عليها، لا باعتباره حقا تاريخيا، بل لأنها تتوسل القوة والسلاح للوصول إليه، في زمن لم يعد فيه منهج القوة والغلبة مستساغا وان جرى تغليفه برمزية مخاتلة، تعتسف الدين وتقتات من التاريخ.
منذ بدايات حرب النظام السابق ضد هذه الجماعة، كنت شديد التعاطف معها، فلم استطع الاقتناع بأن دولة ما تشن حربا على جزء من شعبها لمجرد ترديد شعار أيا كانت مواقفنا من اتجاهاتها، وبينما كانت الحروب تشتد ضراوتها، كان تعاطفي يزداد بالدرجة ذاتها. غير أن حالة عاطفية كهذه انقلبت ضدا بعد تحولها من موقف المعتدي عليه إلى المعتدي الآثم ومع ما ترتكبه من حماقات ستودي بها والبلاد معا .. فالجماعة تبدو كما لو أنها تحفر لذاتها هوة عميقة لا فكاك منها، وعوض أن توقف الحفر، تستمر بفعلها الأخرق، منخدعة بقوة ظاهرية، يحجب الغرور إدراك حقيقة هشاشتها، فالجماعة الحوثية لا قوة ذاتية لها، فقط هي تتغذى من قوى خارجية، محلية وإقليمية، لا يمكن الارتهان لها ولا الاعتماد عليها، إذ سرعان ما تزول مع تغير حسابات تلك القوى.