حين ذهب الأتراك لاختيار ممثليهم في السلطة المحلية من مختار أصغر قرية إلى عمدة أكبر مدينة، كانت إحدى غرف الإنعاش في جزيرة العرب تنهي طقوس تسليم شعب بأكمله من يد شخص إلى آخر وفق صك أقرته الأسرة الحاكمة منذ أكثر من قرن،
و في الوقت الذي كان نحو أربعين مليون تركي يقفون أمام صناديق الاقتراع لانتخاب مسئولي البلديات كانت دبابات السيسي قد قلبت كل الصناديق و أبقت على صندوق الموت وحده مفتوحا على آخره، و لا تزال الدبابات نفسها تواصل الزحف حاملة على ظهرها "سيسي" المذبحة من كرسي الدفاع إلى كرسي الرئاسة، غير مكترثة بما أمامها، بل إنها سدت كل الطرق ما عدا طريق السجون فقد أبقته سالكا، و سيبقى كذلك ما بقي الانقلاب.
و في اليوم الذي كان الشعب التركي يرسم معالم مستقبله كانت طائرات النظام السوري توزع براميل البارود المشتعلة على من بقي من السوريين، لتضمن أن الأنقاض و الخرائب لن تخرج من بين ركامها من يعارض الأسد،
و ما بين الربيع المزهر في تركيا و مشاهد الاستبداد العربي تتجلى الفروق قوية واضحة لا لبس فيها، بين من يختار حكامه بمحض إرادته و لفترة محددة، و بين من يرى نفسه مالكا للبلاد إلى يوم الدين، و حاكما للشعب إلى ما لا نهاية، أما إذا داهمه الموت فـ"ولي العهد" جاهز لاستلام التركة كما لو كانت الدولة إقطاعية خاصة يتناقل الأبناء ملكيتها عن الآباء.
الفرق واضح بين من يختار مصيره بنفسه و يضع معالم نهضته بيده، دون أن يكون هناك وصي يقرر كل شيء نيابة عنه، و من يرهن قراره و قدرته و إمكاناته لـ"صديق يؤمن له عرشه"، أو حليف يدعمه في الحرب على شعبه.
يتحالف الحكام الأتراك مع شعبهم للبدء في مسيرة البناء، و مواصلة العمل في خدمة بلدهم و رفع اسمها و علمها في أعلى القمم، بينما يتحالف الحاكم العربي – ما قبل الربيع أو بعد الانقلابات- مع جيوش ينخرها الفساد و قيادات تشربوا كؤوس الإذلال و المهانة على أيادي أعدائهم، و شتان بين من يتحالف مع شعبه و من يتآمر عليه.
وشتان بين يسخر إمكاناته و قدراته في مصلحة بلده و شعبه، ليرفع من مستواها، و يعلي ذكرهما، و بين من يسرق كل ثروات البلد و ينهب مواردها ليبقي على نفسه حاكما إلى الأبد- و أسرته مالكة بلا حدود,
و إن الفرق واضح بين من يرتقي باقتصاد بلاده من مستوى تحت الصفر إلى مستوى يليق بكبار عرفوا معنى الدولة، و أدركوا ما تعنيه المسئولية.
كم أنفق بنو "سعود" من الأموال و أهدروا من الثروات و هم يحيكون المؤامرات على أمتهم و شعوبها من أجل الحفاظ على موقعهم في أحط منازل العبودية و العمالة و الارتزاق؟
و كم قتل الأسد و سيقتل من السوريين من أجل الحفاظ على ماء وجه كرسيه المتهالك؟
و كم سيقتل السيسي من المصريين كي يضمن الوصول إلى رئاسة ممهورة بدماء آلاف الأبرياء قتلوا و أضعافهم معتقلون و مثلهم جرحى و مشردون و مطاردون، و البقية تأتي قتلا و إجراما و إرهابا و عنفا و قمعا، من أجل إرضاء شهوة عسكري أرعن و مخبر لئيم.
يذهب الأتراك – متفقين و مختلفين- إلى صناديق الاقتراع و يعودوا و هم مطمئنون على مستقبلهم و واثقون من قدرتهم على تحقيق آمالهم. بينما يخسر الحاكم العربي كل شيء وهو في طريقه للارتهان للشرق و الغرب ليرضي نزوته المريضة في الحكم و رغبته السخيفة في السلطة – حتى لو كانت اسمية فقط، و هناك فرق بين ما يخسره الطرفان و ما يكسبانه، و هل يكسب حكام العرب شيئا غير لعنة الله و الشعب و التاريخ.
شتان بين من يدير بلده بتفويض من شعبه و عن ثقة و استحقاق و كفاءة و نزاهة و أمانة، و بين من يملك شعبا بالطريقة التي كان يعرفها جهلة "قريش" حينما يتملكون العبيد و الجواري في أسواق النخاسة بمكة و يثرب و الطائف.
عندما وجـّه أردوغان للخصوم الأشقياء "صفعة عثمانية" موجعة، شعر "أوغاد الصحراء" أن وجوههم القبيحة ليست بمنأى عنها، مع العلم أنه لم يخترعها من تلقاء نفسه، لأن "الصفعة العثمانية" مصطلح تاريخي معروف لمن وقفوا على شيء من تاريخ الامبراطورية التي تربعت فوق ثلثي العالم مئات السنين، و كان أول من عرف بها الصدر الأعظم "حافظ باشا" في القرن السابع عشر الميلادي، و يتعلمها الجنود أثناء التدريب على القتال ليقوموا بها في اللحظات الحاسمة عند اشتداد المعركة، و قد تفضي هذه الصفعة إلى فقدان العدو توازنه و صوابه إن لم تقتله في الحال.
و حين لوح بها أردوغان قبل ساعات من الاقتراع وضع المعنيون، و بينهم العبيد القابعون في قصور القمع و الاستبداد أياديهم ذليلة مرتعشة على مواضع الصفعة المرتقبة، لأنهم يعرفون أن أردوغان إذا قال صدق.