تلجأ القوى والاحزاب السياسية في دول العالم الى ابراز اهتمامها وتبنيها للقضايا المعيشية والوطنية في خطابها السياسي وبرامجها الحزبية وانشطتها الميدانية بهدف كسب مزيد من الانصار والمؤيدين وللفوز في الانتخابات،لكن غالبا ما تتحول تلك القضايا في دول العالم الثالث الى مجرد شعارات فضفاضة تتلاعب بالمشاعر ودغدغت احلام الكادحين وتتاجر بالقضايا الوطنية والنضالية لكن دون أي ترجمة حقيقة لها على ارض الواقع .
-تتصدر جماعة الحوثي القوى والكيانات اليمنية التي تمارس هذا السلوك فهي شديدة الحرص على رفع شعارات براقة وترديد هتافات حماسية في انشطتها وفعالياتها المختلفة وفي تصريحات قيادتها تعبر فيها عن هموم الناس والقضايا الوطنية مع تركيزها على القضايا الاكثر حساسية واثارة للمشاعر لدى الرأي العام وبالذات ماله علاقة بمعيشة المواطن ومعاناته اليومية أو في التباكي المتكرر على انتهاك السيادة الوطنية،أو الحديث عن نصرة القضية الفلسطينية.
-رغم أن هذه القضايا كانت هدف وشعار عشرات الفعاليات التي نظمتها الجماعة في الفترة السابقة،لكنهاماتزال في مرحلة الشعار ولم تسفر عن أي نتائج ملموسة على الارض،واذا كان هناك شيء قد تحقق من ذلك فلا يمكن مقارنته بالمكاسب السياسية التي حققتها الجماعة جراء مزايدتها بتلك الشعارات،وهذا في الغالب حال شعاراتها المرفوعة حاليا للأسف الشديد.
-عبرت الشعارات المرفوعة والهتافات التي رددها انصار الحوثي خلال اعتصامات ومسيرات الايام الماضية داخل العاصمة وعند مداخلها عن الثلاثة أهداف التي اعلن عنها زعيم الجماعة في خطابه الاخير( اسقاط الجرعة،اسقاط حكومة الوفاق،وتنفيذ مخرجات الحوار) وهى أهداف تدغدغ مشاعر غالبية اليمنيين لما توحيه من رغبة في تخفيف المعاناة المعيشية للمواطنين والتخلص من حكومة فاسدة وفاشلة والرغبة في يمن جديد يتسع لجميع ابناءه دون تمييز او إقصاء،والامر الهام هنا هو معرفة مدى جدية ومصداقية الحوثي في مسعاه لتحقيق تلك الاهداف؟أم انها مجرد شعارات وادوات ضغط على النظام للتوصل الى تفاهمات وابرام صفقات سرية معه وتحقيق مكاسب سياسية لصالح جماعته؟هذا ما ستكشف عنه الايام المقبلة .
-في مسيرة الرابع من اغسطس الجاري وضع الحوثي هدفين ) المطالبة بإسقاط الجرعة ونصرة غزة(لكن في الواقع لم يتحقق أي من الهدفين فلا الحكومة تراجعت عن الجرعة ولا نصرة غزة تبلور عنه شيء ملموس استفاد منها اشقائنا الغزاويين فلا جمع لهم مال ولا مساعدات هم بأمس الحاجة إليها ولا أرسل لهم سلاح،ولم يتحقق شيء يستحق الذكر،والسبب بسيط لانهما كانا مجرد شعارين لدغدغة العواطف والمشاعر لا اكثر.
- كان الهدف الحقيقي من تلك المسيرة استعراض قوة الجماعة وحجم أنصارها داخل العاصمة،وإبراز ذلك أمام النظام بما يعزز من قدرة سيدها في ممارسة الضغط على الرئيس هادي للتجاوب مع مطالبه خاصة ما يتعلق بتشكيل حكومة جديدة يستحوذ فيها على ثلث مقاعدها ونسب مماثلة في كل مفاصل النظام ومؤسساته المدنية والعسكرية،والقبول بالجماعة كشريك رئيسي في النظام ولاعب سياسي على الساحة لكن مع الاحتفاظ بسلاحها وهيمنتها ونفوذها على المناطق التي يسيطر عليها مسلحيها بما فيها أجزاء من العاصمة نفسها وبصورة مشابهة لوضع حزب الله في لبنان وربما يكون ذلك لسنوات فقط قبل ابتلاع الدولة برمتها وفرض قوانينها وتوجهاتها ومعتقداتها على الجميع والنظام برمته .
- من الواضح ان هادي رفض التجاوب مع تلك المطالب،بل وجدد دعوته للحوثيين لتسليم السلاح و التحول إلى حزب سياسي وممارسة نشاطهم تحت مظلة النظام الجمهوري والوحدة،طبعا هذا الموقف لم يعجب الحوثي ولم يحقق له هدفه من تنظيم تلك المسيرة،بل أن مطالبة هادي والحكومة الحوثيين الاسبوع الماضي تسليم عمران للجيش قد اثار غضب زعيم الجماعة بشده وكان وراء قرار التصعيد الحالي واختيار المواجهة المباشرة مع النظام،ويعزز من هذا الطرح تذكير سفراء الدول العشر في بيانهم الاخير الحوثي بما جاء في دعوة مجلس الامن في 11يوليو من تسليم السلاح والمناطق التي سيطروا عليها للدولة والتحول الى حزب سياسي...
-لهذا عادت الجماعة من جديد للمطالبة بإسقاط الجرعة بعد ثلاثة اسابيع من اقرارها واستخدامها كيافطة وشعار رئيسي لحشد البسطاء واكثر الفئات تضررا من الجرعة في مواجهتها الحالية مع النظام ،لكن أعتقد جازما أن اسقاط الحكومة هو الهدف الحقيقي من التصعيد الحالي للحوثيين وليس الجرعة او إسقاط العاصمة مع الحرص في تبرير موقفهم الى فساد وفشل الحكومة وليس من اجل الاستحواذ على ثلث الحقائب الوزارية كما طالبوا به من قبل اكثر من مرة.
-لإضفاء مصداقية على موقفها لجأت الجماعة الى رفع شعارات تطالب بتشكيل حكومة كفاءات من أكاديميين ومتخصصين على أن يكونوا من المستقلين وليس من الحزبيين،وفي الغالب سيتم تشكيل حكومة جديدة موسعة من جميع الاحزاب والقوى الرئيسية على الساحة ،وربما يعمد الحوثي الى ترشيح عدد من الاكاديميين والمتخصصين لشغل الحقائب المخصصة لجماعته في الحكومة،وتقديمهم كشخصيات مستقلة لكنهم في الحقيقة من الموالين له والمطيعين لأوامره وتوجيهاته.
- من الغريب مطالبة الجماعة تنفيذ مخرجات الحوار الوطني وتحديده كثالث اهدافها المعلنة من التصعيد الحالي،وهى التي أعلنت عن تحفظها على مخرجات الحوار ورفض ممثلوها في المؤتمر التوقيع على الوثيقة النهائية الصادرة عن مؤتمر الحوار،ما يضفي غموض على موقفها من هذه القضية،ويكشف أن ما ترفعه الجماعة من شعارات في مسيراتها واعتصاماتها، لايعبر بالضرورة عن أهدافها الحقيقية .
-كان لافتا مجيء التصعيد الميداني للحوثيين بعد ساعات من وصول جمال بن عمر الى بلادنا،وظهر ذلك وكأنه تحدي او لامبالاة من قادة الجماعة بالمجتمع الدولي ومجلس الامن،لكن الأمر لا يخرج عن كونه مناورة خطيرة تقوم بها الجماعة بهدف التأثير على الموقف الدولي بما يصب لمصلحتها،فأحد الاهداف الغير معلنة لهذا التصعيد الميداني هو وضع الوسيط الأممي بنعمر والدول الراعية في صورة الوضع الداخلي الجديد والتغير الكبير الذي طرأ على موازين القوى على الأرض بعد سقوط عمران،ويبدو ان قيادة الجماعة ترى أن من شأن ذلك تسهيل مهمة إقناع بن عمر والرعاة الدوليين بإعادة النظر في مواقفهما لمعروفة من التسوية السياسية والأسس التي قامت عليه أو إقناعهم بأنها لم تعد صالحة أو منسجمة مع الواقع الجديد على الأرض وضرورة إدخال تعديلات جوهرية عليها .
-يبدو ان الدول العشر ادركت ذلك فجاء ردها في رسالة وجهتها الى الحوثي في اليوم الثاني من التصعيد الميداني ،والقارئ لما جاء في البيان يلاحظ استخدام الدول العشر لاسلوب يجمع بين الترهيب والترغيب،فمن جهة شدد السفراء على ادانة المجتمع الدولي وعدم قبوله لاعمال العنف والتحريض واعتبروا لهجة الحوثي مناهضة لعملية الانتقال السلمي وتمس من هيبة الحكومة الشرعية وذكروه ببيان مجلس الامن في يوليو الماضي،وفي الجهة المقابلة أعربوا له عن ايمانهم بقدرته على وضع مصالح اليمن قبل أي طموحات أخرى وتحدثوا عن دور الجماعة في تشكيل مستقبل اليمن.
-المهم هنا أن هذا الاسلوب يعزز من فرص الحوثي في الحصول على مبتغاه بإبرام صفقة سرية مع النظام تحت اشرافهم وتحقيق مكاسب معينة لجماعته خاصة مايتعلق بتشكيل حكومة جديدة واستيعاب رؤيتهما لمقدمة في مؤتمر الحوار وبالذات إعادة النظر في عدد الاقاليم التي اعتمدت لتقسيم البلاد،ولانه من الصعب العودة إلى نظام الاقليمين الذي أيدته الجماعة ،فقد يتم التوصل إلى حل وسط ومراضاة الحوثي بضم الجوف وحجة إلى إقليم ازال الذي تسيطر الجماعة على جزء كبير من مساحته .
-لكن ربما الامور لن تجري بالصورة التي يخطط لها الحوثي وقد تتسبب في نتائج عكسية وارتدادات سلبية على جماعته خاصة أن الغرور والثقة الزائدة بقدرات جماعته وعدم اكتراثه بالعواقب التي قد تصيبها جراء تعجله في استخدام وتثوير الشارع في مواجهة النظام والقوى السياسية الأخرى والمجتمع الدولي ،قد يتسبب في تفجير الوضع الداخلي في العاصمة وربما جعلها ساحة رئيسية للحرب المذهبية،كما أنه قد يدفع خصومه الى تناسي خلافاتهم او على الاقل تأجيلها والاصطفاف في خندق واحد لمواجهته وهاهي الدعوة التي اطلقها هادي يوم 19/8 للقاء وطني عاجل يمكن اعتبارها الخطوة الاولى نحو ذلك،إضافة إلى مخاطرة الحوثي بالوقوع تحت طائلة العقوبات الدولية وربما تصنيف المجتمع الدولي لجماعته كمنظمة إرهابية،وهذا يمكن استشعاره من مضمون بيان سفراء الدول العشر الاخير.
-غرور الحوثي برز جليا في امهاله النظام ثمانية ايام لتنفيذ شروطه قبل اللجوء الى خيار اخر في تلويح متعجرف بخيار العنف والقوة وفي التحرك لخنق العاصمة وتطويقها من ثلاث مداخل،إضافة الى حديثه وكأنه ممثل الشعب اليمني ومتحدثا باسمه بل وزعيما له،وتحريضه الفج والمتكرر لعناصر المؤسسة العسكرية بالتمرد على النظام،ويبدو أن سقوط حاشد وعمران بيد الجماعة في زمن قياسي لايتجاوز الاربعة أشهر كان السبب في اصابة زعيم الحوثيين بالغرور وشعوره بالقوة والاعتقاد أنه أصبح ند للنظام وقادر على الاصطدام المباشر به.
-الغرور منع الحوثي من اكتشاف الحقيقة من كافة جوانبها،فسقوط حاشد وعمران في يده بهذه السهولة لم تكن قوة جماعته وما تملكه من قدرات وأسلحة السبب فيه بقدر ما هو ناتج عن عوامل عديدة منها عدم تدخل الجيش ضده واستفادته من صراع وتصفية حسابات بين مراكز القوى الرئيسية في البلاد وعقود من الظلم والمعاناة بسبب غياب الدولة وسطوة النافذين وعوامل خارجية كلها صبت لصالحه و وسهلت له من مهمة السيطرة على عمران ،لكن الاكيد أن الوضع مختلف تماما بالنسبة لإسقاط العاصمة .
-في مسير ة رفض الجرعة ونصرة غزة مطلع أغسطس الجاري خسر الحوثي حلفاءه في جبهة الإنقاذ بعد انكشاف جزء من وجهه الحقيقي وما فيه من نزعة اقصائية وتهميش للحلفاء قبل الخصوم، واذا كان رفعه لشعارات محل اجماع كثير من اليمنيين،قد تمكنه من الاحتفاظ بتأييد المخدوعين فيه من أنصار المؤتمر الشعبي والاحزاب اليسارية والشباب المستقل.
-فقد مال الكثير من هؤلاء الى الحوثي بصورة تلقائية رغم مشروعها العنصري المتخلف على اعتبار جماعته قوة مضادة لخصمهم الإصلاح ومراكز القوى فيه التي اساءت بظلمها وفسادها وجبروتها لحزبها قبل ان تسيء للآخرين ويلحق اذاها جميع ابناء الوطن بلا استثناء،لذا جاء الميل من باب النكاية بالإصلاح ودون ادراك بالعواقب الوخيمة التي ستلحق بهم وبالوطن عموما جراء ذلك ،وهؤلاء ينطبق عليهم المثل القائل"كالمستجير من الرمضاء بالنار" .
-لكن الشعارات المرفوعة والاهداف المعلنة في التصعيد الراهن لن تفلح في اخفاء حقيقة الخطر الكبير الذي باتت تمثله الجماعة على النظام خاصة مع اختلاقها للذرائع تلو الذرائع لتبرير لجؤها الى السلاح و التوسع والسيطرة ،فحتى لو تجنب الحوثي هذه المرة محاولة اسقاط العاصمة في يد أنصاره فان المؤكد تكرار لجوئه الى التصعيد داخل العاصمة وغلق منافذها كلما اراد تحقيق مكاسب معينة او فرض ارادته على الحكومة تجاه قضية من القضايا ومع تنامي مضطرد في قوته وارتفاع موازي في غروره فأن النتيجة المتوقعة في نهاية الامر ابتلاعه للدولة بكاملها.
- غرور الحوثي دفعه للتخلي عن المبرر الاهم الذي استخدمه لتحييد الجيش وتبرير الحرب التي يشنها على انها ضد الاصلاح والميليشيات التابعة له،فمع تصعيده الراهن في العاصمة ومطالبته اسقاط الجرعة والحكومة ،يكون قد وضع حدا لذلك ووضع جماعته في مواجهة مع النظام والدولة بكاملها ومن خلفها الدول الراعية للمبادرة ومجلس الامن الدولي.
-غرور الحوثي يكشف عن وصول مسيرة الجماعة الى اقصى نقطة يمكنها بلوغها في مسيرة الصعود الى قمة الهرم
،ويبدو أن الجماعة لن تمكث طويلا في القمة وتستعجل الهبوط الذي قد يكون سريعا ومميتا، فهل ستتسبب رعونته واستعجاله في فرض أجندته في تغيير سياسة الجيش الحالية القائمة على الحياد وفي الموقف الدولي من جماعته؟وهل ستكون إحداث الأيام القادمة بداية النهاية للجماعة؟ أم مهادنة وتأجيل حتى يزداد خطورة ؟ ربما من يدري كل الاحتمالات مطروحة،لكن ما أنا متأكد منه أن تصعيد الحوثي قد يؤدي الى تغيير الحكومة على الارجح ،لكنه لن يؤدي إلى إسقاط الجرعة كونها أصلا ليست من أولوياته والأيام كفيلة بإثبات ذلك