اليمن و مئة عام من العزلة

2017/05/10 الساعة 06:49 مساءً

.

 

* بقلم : عبدالوهاب العمراني
إذا كان الكاتب اللاتيني (غابرييل غارثيا ماركيث) في روايته الشهيرة مئة عام من العزلة قد قد أسرف في الخيال في بعض رمُوزهها حول صراع الأجيال وتطلعاتهم ، وذاع صيت الرواية في الآفاق ، فالأولى  لقصة حضارة عربية سادت ثم بادت وأقصد هنا العرب العاربة والمستعربة خلال قرن مضى قد تمحورت في جملة من التأملات والرؤى والتي هي أشبه برسومات سريالية تجعل من أعتي الساسة وجهابذة المفكرين يعجزون بل وحتى المنجمون عن تفسير ماجرى ويجري بل ويقفون في حيرة من أمرهم في خير امة أخرجت للناس.
وبداهة لا يُقصد بالعزلة بمفهومها الحرفي ، وإنما المقصود هنا عزلة عربية عن حضارات العالم بعدم تفاعلهم مع ما حولهم زماناً ومكاناً.
بين عام 1917 وعام 2017 حقبة عربية حافلة بالأحداث،واختيار هذا المسافة الزمنية قرن مابين الفترتين لها دلالاتها وأبعادها ، فقد شهدت المنطقة العربية منذ قرن مضى سلسلة من الهزات العنيفة أستهلت بدايات القرن الماضي باستنساخ أزمات أوروبا للمنطقة العربية منذ الحرب العالمية الأولى والمتزامن بأفول نجم الخلافة العثمانية وتكريس (سايس بيكو) ، ومن يتابع تاريخ أوروبا الحديث من وجهة النزاعات الإقليمية يتبين له بأن الحروب الإقليمية فيما بين دول القارة قد ولّت إلى غير رجعة منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي أي بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها ، وتزامن ذلك ببدء استقلال  بعض الأقطار العربية التي كانت لا تزال تحت السيطرة الاستعمارية يومذاك، وتحول بعضها للأنظمة الجمهورية فجأة ، ومنها نهج الأسلوب الديمقراطي شكلاً دون الأخذ بضمون المعنى وجوهره، حينها لم يكن لأصحاب التغيير تحت راية الشرعية الثورة العرب مشروعاً واضحاً ورؤية بعيدة المدى لما ستؤول إليه تطور المجتمعات العربية في غياب التطور الاقتصادي الموازي للتطور السياسي، وكذا مخرجات التعليم الذي أفرز مشاكل اقتصادية واجتماعية لا مجال هنا لسردها.
في جزئية اليمن المنسي خلال نحو قرن من الزمن عاش تعمد حُكامة عزل اليمن الى جانب عزلته الجغرافية بين جبال وصحاري وبحار . ففي عهد الإمامة تعمد الإمام يحي ونجله احمد عزل اليمن خوفا من تيار "العصرنة" والتحديث ولقد كان حكام الخليج والسعودية تحديدا أكثر انفتاحا ورقيا مقارنا بفترة الائمة في اليمن ، بدليل استخراج الثروات النفطية وترسخ نظام الحكم بغض النظر عن نوعية الحكم ومدى تفاعله مع محيطة .
منذ ان عرف اليمنيون بلدهم مستقل قبل نحو قرن  من الزمان كان نحو ثلث هذا الزمن في عهد ملكي عفن ، وقد ثار الشعب اليمني مطلع الستينات على أمل نظام جمهوري عادل ، لكننا عشنا عقودا بعدها على مفاهيم خادعة "جمهورية ودميقراطية والفصل بين السلطات وبرلمان" وكلها مجرد قيم افتراضية ليس إلا !
أربع محطات هي خلاصة قرن كامل عاشها اليمنيون بكل مأسيها .
* فالأولى غداة استقلال الدولة اليمنية بعد رحيل العثمانيين على هامش تداعيات الحرب العالمية الثانية ، لم يستغل حكام اليمن تلك الفرصة التاريخية وهي اقل من فترة علي عبد الله صالح تخللها انعزال وهزائم إمام طموحات السعودية فاستقطع أقاليم يمنية وكرسها سلطة علي عبد الله صالح باتفاقية جده مقابل وعود بدعم حُكمه وتوريث ابنه .
* المحطة الثانية : قيام ثورة سبتمبر التي لم تُهئ لها الظروف المناسبة وكانت بإيعاز مصر عبد الناصر الذي يحاكيه اليوم تدخل الملك سلمان ، وكانت تداعياتها كارثية لمصر في هزيمة يونيو 67 م وعلى اليمن . فلم يتحقق أمل اليمنيين مرة أخرى من التحرر من استبداد النظام الملكي ولم تتحق مبادئ ثورة سبتمبر انتهت تلك الحقبة بتسوية المتناقضين نهاية الستينيات فكان نظام سياسي مُسخ افرز فترة الثمانينات وما بعدها ..
* والثالثة الوحدة اليمنية التي كانت وحدة مصالح للنظامين فوأدت بيد صانعيها .. فالقبائل الماركسية هربت للأمام خشية ثورة شعبية ضدها رغم ان الحزب الاشتراكي وقياداته في عهد حكم الجنوب كان يؤمم أملاك الشعب لمصلحة الدولة تسلم الرئيس السابق اليمن " الموحد " وجنوبه بلد خام ظلم فيه زعيم الفساد وعاث فيه فسادا ونشر فيه ثلاثية القبائل والقات السلاح وادخل الإسلام السياسي والولاء للقبيلة والفساد بكل أصنافه ولهذا يعتبر حكام الجنوب وقتها أوليا من أوليا الله مقارنة بعتاولة ساسة وقبائل الشمال .
* أما المرحلة الرابعة والأخيرة هي التي نعيش فصولها أي محاولة الثورة على أسوا نظام حكم عرفته اليمن منذ قرن مضى .
والذي افسد الفترة الانتقالية رغم انه منح بحصانة لم يكن يحلم بها أي دكتاتور عربي في ثورات الربيع العربي .
المفارقات في واقع الدولة بعد ثورة الرَّبيع العربيّ، وهي المفارقة بين طموح الثورة إلى حلّ مشكل الدولة بتقويض صورتها الاستبداديَّة وتحقيق خاصيَّة الديمقراطيَّة الضروريَّة فيها، وما آلت إليه من اضطراب في قدرتها على توحيد الولاءات الاجتماعيَّة، وتحول الاهتمام من إشكال بين الحاكم والشعب إلى إشكال بين الشعب والوطن فما ذهب الوطن تقطع أوصاله برغبات جهوية ، وتحول الاهتمام أيضاً من قضية الثورة على حاكم مستبد الى قضية إرهاب وإسلام سياسي وطائفية .

تلى فترة العصر الملكي حربا أهلية وانقلابات ، بينما الأربعة العقود الأخيرة تعد اسوا فترات الحكم فخلالها شهد اليمن أكثر من خمسة عشر حرباً .. في جمهوريات العسكر يضل الزعيم يحكم حتى القبر او يقبر الشعب معه ، هذا ما حصل في تداعيات الربيع العربي في نسخته اليمنية ، فالمخلوع صالح سوا في عهد التشطير او ما سموه "بالوحدة" او ما بعد تسليمه خرقة ملفوفة ثلاثية الألوان ولم  يسلم سلطة قد تطبع بطبائع الاستبداد بحكم طول المدة فمن طبيعة الامور ان بقاء أي مسئول لاي مؤسسة صغيرة او بحجم دولة هي بيئة لتحوله الى عاشق المنصب او السلطة ..
أساليب الرئيس السابق وأدواته ومخلفاته انعكست بطريقة ساذجة في "عهد الأيدي" الأمينة وبأسلوب بليد فألا ول داهية وخبيث بذكاء بينما الثاني يحاول تقليده بإيقاع بطئ ولان الطبع غلب التطبع فأن شخصية هادي الغير كارزمية جلبت لليمن الويلات ، اللافت ان عفاش ينعت هادي بالغباء وعدم الدراية بالسياسة وهذا يرتد عليه قبل هادي فكيف تعين نائبا لثمانية عشر عاما بهذه الصفات ، ثم كيف تصر وتفرض رئيس مؤقت في سياق المبادرة الخليجية وهي أيضا بهذه الصفات .. ولإن اليمنيون للاسف بالنظر للبيئة الثقافية وحالة اليأس والقنوط والفاقة والعوز غدا شعباً يُقدس جلاده مثل كثيرا من الشعوب العربية التي وصفها ابن خلدون " ينصاعون ويحترمون الحاكم القوى وإن كان ظالماً".
  كان مطلوباً من هادي ان يكون رئيسا لفترة مؤقتة ليكون محلل لرئيس من بعدي اسمه احمد ولكن كانت الرياح بما لا تشتهيه الدولة العميقة.
"اليوم غدا أمر اليمن ليس بيد هادي ولا صالح بل بيد الإقليم المنقسم بدوره في حجم النفوذ على اليمن ومن ورائهم قوى إقليمية ودولية أخرى" لهذا من يحكم اليمن وعرقل الفترة الانتقالية وجلب عدوان الداخل والخارج هو ظل عفاش في هيئة هادي والحوثيين وهم مُجرد كمبارس في مسرحية سيئة الإخراج ، فكلا من ثلاثية هادي والحوثي وصالح ابحث عن الزعيم وكل من ثلاثية التحالف والإمارات والحراك ابحث عن الزعيم أيضاً ، اليوم ، بطانة الزعيم سيئة وبطانة هادي هي نفسها تقريبا ولكن في زمن غير الزمن وظروف مُختلفة وتجريب المجرب ضربا من الحماقة ..
الحل النظري (الطوباوي) لإحلال السلام في اليمن هو رحيل الثلاثة الفاعلين صالح وهادي والحوثي ، ولان التمنيات شئ والواقع شئ فأن الواقع يفرض معطيات تفرض نفسها على الحلول المستقبلية وهي بداهة كفيلة بأن تجعل اليمن الرجل المريض ميؤس من حالته فالمقدمات فرضت النتائج .
ومن هنا فغنى عن القول بأن هذه الحرب لأكثر من عامين هي تحصيل حاصل ونتيجة وليست سبب.
إنها لعنة الزمان وعبقرية المكان في جمهوريات العسكر العربية المتحالفة مع القبيلة والإسلام السياسي بشقيه تكون العواقب وخيمة فتراكم الفساد والعبث لأربعة لثلاثة وثلاثون عاما افرزت جملة من التعقيدات والتداخلات فقد تعرض المجتمع اليمني لهزة اجتماعية عنيفة بالاستقطاب السياسي بداية والطائفي المناطقي مؤخراً فغدا الجميع يكره الجميع .. فعندما يغادر الحاكم المستبد الفاشل السلطة يأتي بعده الطوفان .. اليمنيون  للأسف فقدوا البوصلة وغابت الحكمة في يمن الإيمان والحكمة !


* سفير وباحث أكاديمي