لا أعرفهم !

2018/09/21 الساعة 05:40 مساءً


 
-      ســام الغُــباري
 
التفت موظف صغير في إدارتي قائلًا : أنت قبيلي ، وليس من حقك أن تصبح مديرًا عامًا ! ، سألته بإستنكار : وأين ينبغي أن أكون ؟ ، أجاب دون تردد : في القرية ! ، صُدمت كأنه صفعني ، وأضفت : وماذا أفعل هناك ؟ ، "عمل أبوك وجدّك" ، وما هو عملهما ؟ . "فلاح" !  . ومن ينبغي أن يكون المدير العام ؟ أجاب : أنا !
 
- حدث ذلك في أواخر سبتمبر 2014م، كنت في اجتماع مصغر بموظفي الإدارة العامة للإعلام بجامعة ذمار ، وكان "علي الوريث" موظفًا متعاقدًا ، ظل خلال سنوات تعاقده يناديني "يا أستاذ" ،  فأتواضع قائلًا : نحن أخوة وزملاء . ذات يوم قلت له : إننا في هذه الجامعة عائلة واحدة ! ، وجاءني الرد سريعًا : لا يا أستاذ أنت من الحدأ ! ، وضحك .. لم التفت إلى مقاصده وخلتها طرفة من نوادره الذكية . إلا أنها كانت تعبيرًا عن سلوك غير مرئي ، منهج دراسي تعلّمه الهاشميون في مدارس غير رسمية يفرزهم على اساس طبقي. شهوة جامحة في السلطة ، وتدمير أي شيء يعترضهم ، على أن يبقى الشبق حبيس صدورهم ، ويُدفن الوحش في سرائرهم ، حتى يفور التنور وتظهر العلامات ويؤذن إمامهم ببدء مراسم الجحيم .
..
هل قرأت عن ذلك المنتقم الذي حفر قبر عدوّه بإبرة ؟ سألني صديقي الزائر في السجن ، ولما بدت له حيرتي ، اتخذ وضعًا مسرحيًا ،وحكى  : كان يا ما كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان رئيس من سنحان اسمه عفاش ، حكم اليمن لثلاثة وثلاثين عام ، أزاح آل البيت الأطهار ، مصابيح الهدى الأعلام ، فأعطى للقبائل حقها في التعليم والمنح والمال ، فاجتمع الآل في سقيفة التاجر "غمضان" وقرروا إنهاء حُكمه الغضبان ، فأرسلوا إليه رجالًا يُظهِرون له الود ويبطون الكُره ، برامكة يتآمرون عليه ، ليشقوا عصاه بتوليفة من الأشرار الذين جالسوا عياله ليكشفوا الأسرار ، فصاروا عيونهم وآذانهم ، وفريق آخر غادر إلى احزاب المعارضة ، وآخر إلى عائلة الحمران ، وفريق خامس تسللوا في الجيش والجامعات وكل المؤسسات ، وسادس في الإعلام ، وفريق يؤسس جيشًا سريًا من العقائديين الغلمان ، وعلى كل هاشمي أن يرسل من عياله إثنان ، يتعلمون أصول التطرف والجنان ، وفي كل خطوة يحفر أعداءه قبره بالإبرة ، نكشة نكشة.
ضرب صاحبي كفيه ببعضهما . وأضاف ، وفي 21 سبتمبر أدرك بنوهاشم الصباح وسكت اليمنيون عن الكلام المباح . ضحكت لمسرحيته الهزلية  ، وسألته: كيف مصير عفاش يا مرتاح ؟ ! ، صوّب سبابته نحوي وأطلق صوت رصاصة من فمه ، مردفًا بحسم : الرصاصة الأخيرة في رأسه .
 
- حدث ذلك فعلًا ، كما تنبئوا له أن يستمر أربعين عامًا ، تلك كانت قصيدة سمعتها في صغري من عجوز هاشمي حدثني بشغف عن نهاية الأحمران وصراعهما ، وكنت ألوي رأسي في ضيق محاولًا الفكاك من "شعوذته" ، لكنها لم تكن طلاسم ساحر على أية حال ، بل مؤامرة استمرت 56 عامًا حتى سقطت الجمهورية وقُتل الرئيس صالح في آخر أيامه الأربعين من سنوات الحُكم والزعامة . !
 
- أغار "شرف عباد وعلي الوريث وطالب النهاري وعبدالكريم زبيبة ومحمد السوسوة وأحمد يحيى الديلمي" على جامعة ذمار ، وتحرك محمد طه الوشلي إلى مكتب الصحة ، وعبدالكريم الحبسي وأحمد الوشلي على إدارة التربية والتعليم ، وعباس مجلي اقتحم مكتب الضرائب ، وعصام الغيلي أسقط قوات النجدة ، ومحمد شرف عباد إلى صندوق النظافة ، وسيطر عيال الديلمي والشامي والوشلي على هيئة مستشفى ذمار العام ،  والعميد عبدالله وهاس سلّم الأمن السياسي بهدوء ، ومحمد حمود اليوسفي ومحمد المنصور وعبدالله الديلمي افتتحوا مكتبًا للحوثيين في النيابة حتى وصل فضل المطاع الذي أصبح رئيسًا لها ، وتحركوا جميعًا لإحتلال بيت المحافظ "يحيى العمري" ، خرج الهاشميون من بيوتهم وأقبيتهم تساندهم أطقم ممتلئة بالملثمين من القرى الهاشمية ، اقتحم هاشميو الأرياف مدينتي ، سرقوا طابعتي ونهبوا مخازن الورق ، وفي صباح اليوم التالي توزعت آلاف النسخ الورقية للحديث عن ذكرى مولد النبي ، كتبوا عنه بحبر مسروق وأوراق منهوبة ، قالوا أن كل شيء على وجه اليمن ملك لأبناء محمد المصطفى !.  احتل هواشم المدن مؤسسات الدولة ، فيما تحول البقية إلى مخبرين يرصدون أنفاس أصدقائهم ويحصون منشوراتهم وتعليقاتهم ، ومع تعيين "حمود عباد" محافظًا لذمار اكتملت دائرة الإنقلاب ، فعمد إلى تقوية قبضة الهاشميين بتولية عبدالله إدريس مهام إدارة الأمن ، محسن لقمان أيضًا اسقط المنطقة الغربية الأمنية لذمار ، وأرسل الهاشميون مشرفًا قبليًا على رأس المشايخ المهمين يسومونهم سوء العذاب ويجرعونهم ذُل الهوان ، وفي غضون أسابيع قليلة أصبح كل شيء مختطفًا .
 
- حسن يحيى الديلمي اقتحم منزل جاره النائب عبدالعزيز جباري ، ومحمد ابراهيم راوية قاد حملة أمنية لإختطاف العميد غسان الكولي  ، ومحمد عبدالله الديلمي صاحب العينين الرماديتين صار قاتلًا ، حمل بندقيته لأول مرة في ظهيرة يوم مشمس ، اعتلى برميلاً أسودًا كُتب عليه : الأمنيات لكم وليست عليكم ، وأطلق الرصاص على أبرياء أوقعهم سوء حظّهم في طريق إثباته لرجولته ، فسقط رجل عجوز بين أبنائه الذين غادروا المدينة مقهورين ومشبعين بالثأر لحين ميسرة .
 
هؤلاء الذين ذكرتهم كانوا أصدقائي ، لكني لم أعد أعرفهم ، إنه زمن الخيانة ، لم أتخيل أن ما شاهدته في أفلام الرعب قد يتحقق ، وأن أولئك "الزومبي" المتعطشين للدماء سيصبحون حقيقة يطاردوننا في شوارع المدن والقرى ، طالما سألت نفسي في طريق العبور إلى المنفى : إلى أين سيأخذني عنادي ؟ لماذا لا أصير زومبيًا مثلهم ؟ كنت أفكر في العودة من مصير محفوف بالمخاطرة الكاملة ، غفوت على نافذة الباص الكبير ورأيت نفسي مهاجرًا نحو النور ، حتى أيقظني صوت زومبي في آخر نقطة أمنية بطريق حرض ، سألني من أنا ؟ فناولته جواز سفري المزيف ، تصفحه بالمقلوب وسألني إلى أين ؟ أجبته : سأستقبل إبن خالي العائد من العمرة وأعود ، سأل مرة أخرى : من يكون أبن خالك هذا ؟ أجبته كذبًا : عبدالقدوس المتوكل ؟ سألني أيضًا وقد انفرجت أساريره : هل أنت من آل البيت ؟ أجبت بلا تردد : نعم . فتركني بابتسامة ثقة ، ظن أني منهم ، مصاص دماء لا ألوي على حياة أنسان ولا أراعي قداسة روح بشرية ، توهم أني كأصدقائي الذين أغمدت الهاشمية نصلها في أدمغتهم فشطرته نصفين ، نصف فقد قيمة العقل ونصف عديم الرحمة ! .
 
- وقت هبوطي أرض المملكة العربية السعودية أدرت رأسي إلى الوراء ، غرقت عيناي في ظلام بلادي وحولي توهج نور دولة أخرى ، جئتها لاجئًا من خيانات الأصدقاء ، وفجيعة الرصاص الغادر ، تركت نفسي وأحلامها ، أملًا في عطف الله ومحبته إنه بي رؤوف رحيم .
 
- في السنة الرابعة من الهجرة .. لم أزل ذلك الإنسان الذي أنجاه بارئه العظيم من أصدقاءه "الزومبي" ، وسأظل ممتنًا لإلهي الحبيب بكل شيء .
 
 
 
#نكبة_اليمن_21سبتمبر