آخر تبابعة اليمن(2-2)
توفيق السامعي
وأنا أكتب عن الرجل تعرضت لسيل من الشتائم والاتهامات والهمز واللمز، وكنت أتوقعها تماماً مع أول قطرة من حبر القلم، ولا يضيرني ذلك في شيء؛ لأن الكاتب المنصف لا يهمه تقييم الناس لذاته أو ما يكتب في قناعة من قناعاته، بل ما يهمه هو أن يعطي للناس حقوقهم وإنصافهم بعيداً عن الانفعالات أو العواطف والتجارب الشخصية، حيث إن سوق نخاسة الأقلام اليوم رائجة جداً وذات ربح وافر، وكثير من الجهات والأطراف والدول تتهافت لشراء هذه الأقلام وتوظيفها، فما سقط الوطن اليوم إلا نتيجة لبيع كثير من هذه الأقلام مبادءها ووطنها بثمن بخس، وكم من زملاء كنا وإياهم كادحين لا نملك شيئاً انتهى بهم المطاف اليوم إلى الثراء الواسع ببيع وتأجير أقلامهم، وبقينا كما نحن أولئك الكادحين الذين لا يملكون سوى رواتبهم التي عادت منذ فترة بسيطة بعد أن تقطعت بنا كل السبل.
على المستوى الشخصي لم يصدق ولن يصدق أحد ما تعرضت له أثناء ما كنت مجنداً في الفرقة الأولى مدرع التي كان يقودها علي محسن.
لكن بطبيعتي التي رُبيت عليها وتعلمت عنها أن أحاكم الناس إلى المبادئ وإلى الأفعال والإنجازات والولاء الوطني وقربهم من قضاياهم الوطنية أو ابتعادهم عنها، وكتبت عن علي محسن ناقداً للجوانب السلبية في الرجل – بكل أمانة- منذ عام 1995 وحتى 2010 حينما كان كثير من المتمصلحين والمتملقين المتسلقين يحجون إلى بين أقدامه راكعين طلباً لمصلحة معينة، لكن بالنسبة لي كانت القضايا الوطنية الكبرى هي مقياسي من موقفي من الرجل، ولا أخفي القارئ الكريم فعلاً أنني سعيت للقائه كثيراً، ووسطت خاصة منذ عام 2011 وحتى 2014 حينما كانت هباته تنهال على الكثيرين صغاراً وكباراً، حتى أن بعض الزملاء الذين كان يدعمهم شهريا ومنهم زميل مقرب صرف له أرضية وعطايا شهرية وسنوية، كانوا يخرجون لسبه وشتمه على الرغم من الإحسان إليهم وإكرامه لهم وعطائه إياهم، وقاطعت كثيراً وقاطعوني بسبب نقدي لمواقفهم دون أية مصلحة تذكر، ومع ذلك، ومع كل ما كتبوه عنه إلا أنه كان ذا قلب واسع معهم ولم يحقد عليهم، متمثلاً قول الشاعر المقنع الكندي:
ولا أحمل الحقد القديم عليهمو **** وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
يشهد الله أنه كان طلبي لقاءه من باب مواطن لقائده أو مواطن لمسؤوله ليعينه على خدمة وطنه، فقد كنت على وشك إكمال كتابي التاسع، وكنت أسعى فقط لطباعة بعض هذه الكتب التي أعتقد أنها مفيدة للمكتبة اليمنية حتى لا تذهب سنون البحث هدراً ودون فائدة، خاصة وبعض كتبي كانت استباقية للأحداث أو موثقة لها أملت كثيراً أن تجد حظها للنشر، ومع كل ذلك لم أفلح في شيء ولم أتلق حتى فلساً واحداً منه أو من غيره، فلست ممن يؤجر قلمه وكتاباته لهذا أو ذاك، ففي نهاية المطاف هي شهادة و(ستكتب شهادتهم ويُسألون).
لكني، وكباحث يمني، قرأت كثيراً في التاريخ وفي سير القادة والعظماء وكثيراً من القضايا أو تأسيس الدول والإمبراطوريات وفي الجوانب الفكرية والسياسية، كنت أحاول محاكمة الأحداث اليمنية والرجل إلى مثل هذه الأحداث والقيم والمبادئ والشخوص والنظريات، وكنت أعمل مقارنة بينه وبين كل القادة والسياسيين في البلد سواء قادحيه أو مادحيه، سابقيه أو معاصريه، مقربيه أو النائين عنه، وما وجدت رجلاً آخر تنطبق عليه كثيراً من صفات القادة الحقيقيين غيره اليوم، لذلك أطلقت عليه لقب (آخر التبابعة اليمنيين)، وقررت أن لا أكتب في شخص أو قيادي أو سياسي إلا بعد وفاته ومحاكمته إلى ما قدم، عملاً بالأثر القائل: "من كان متأسياً فليتأس بمن قد مات فإن الأحياء لا تؤمن عواقبهم/ أو لا تؤمن فتنتهم"، إلا القائد علي محسن أردت الكتابة عنه اليوم في حياته نظراً لما قدم لليمن ونظراً للحملات الشرسة التي تقاد ضده بين فترة وأخرى اليوم من كثير من الأحزاب والمناطق والسياسيين والفئات، حيث كان الرجل بوصلة الجميع خاصة منذ عام 2011 وحتى اليوم غذتها المشاريع الطائفية الحوثية الإيرانية وبعض الأجهزة المخابراتية المحلية والإقليمية والدولية في محاولة للنيل منه وتركيعه، والأغرب مع كل هذا أن كل هذه الحملات لم تفت في عضد الرجل ولم تنل من عزيمته أو توهنه وتجعله ينسحب من المشهد ربما لإدراكه أن الغرض من وراء هذه الحملات كان تركيعه وتركيع المشروع الذي يحمله، ووسط كل هذا الزخم كانت كتابات نادرة تكتب عنه منافحة أو موضحة، ووسط هذا السيل من الكتابات وجدتني ملزماً أخلاقيا بما أعرفه عن الرجل الدفاع عنه ليس لشخصه بل لمشروعه الجمهوري الذي أريد له أن يسقط، ومن أراد التأكد من ذلك فلينظر إلى كل تلك السهام كيف تصاعدت نحوه قبيل الانقلاب حتى تآمر عليه الجميع؛ سياسيين وعسكريين رسميين وحزبيين معارضين وسلطويين، والشاهد الأكبر أنه حينما خذل الرجل في 2014 وتنحى قليلاً أو نُحِّي عن المشهد سقطت الجمهورية التي كان عمودها وركنها الركين وحصنها الحصين.
علي محسن - في نظري- ليس ذلك الشخص المعروف بشحمه ولحمه، بل هو رجل الدولة ومشروعها وعمود خيمتها، وكل الذين نالوا منه بحملاتهم الإعلامية المضللة والمحرضة لإسقاطه انتهى بهم المطاف بين يديه وفي أحضانه من كل حدب وصوب.
اليوم أكتب هذا المقال وأبناء محافظتي والمحافظات الوسطى والجنوبية ما زالوا يحمّلون الرجل كل أوزارهم وأوزار سياسة النظام السابق الذي كان جزءاً منه، وكان كل السياسيين والحزبيين اليوم أيضاً جزءاً منه سلطة ومعارضة، كونه كان الرجل الثاني في السلطة، ولا شك أنه كان كذلك، لكن الغريب في الأمر أن كل هؤلاء حملوا الرجل الثاني وتركوا الرجل الأول وكل أجهزته، رغم أن محسن قرب إليه كل مبعد منهم وكل مشرد وآواهم وعطف عليهم وحماهم من بطش الرجل الأول. يعيدون الكرّة مجدداً وظهرت نغمة عنصرية مناطقية جديدة في هذه المحافظات يحملون فيها "جنرال الهضبة" كل الأوزار وخاصة ما يجري في تعز اليوم من خذلان وانشقاقات ومماحكات وأحياناً مواجهات، ورغم طلبي إلى كثير من أصحاب ذلك المنطق العفن أن يكونوا أفضل اليمنيين بعيداً عن هذا الرجل إلا أنهم لا يستطيعون هم أو غيرهم في المحافظات الجنوبية.
لم يستطيعوا أن ينتجوا شخصية بديلة حقيقية وفذة قائدة ورائدة لكي نصدقهم ونمضي في طريقهم، بل همهم المناكفات والمزايدات والقيل والقال في المقايل ومزيداً من التشظي والخذلان والضياع.
يطالبون النائب اليوم بعمل كل شيء وإيجاد الدولة الفاضلة ومدينتها الفاضلة أيضاً في الوقت الذي يعلم الجميع أن الوضع في اليمن اليوم هو أكبر من الدولة وأكبر من الموجودين جميعاً - مع تقصيرهم- لكن إيجاد القائد الحقيقي يتمثل بالتفاف الناس من حوله ومؤازرتهم له، كما قيل في المثل اليمني "لا رجل إلا برجال".
علي محسن مدرسة خرج منها كثير من القادة العسكريين اليوم الذين يتصدون للانقلاب الحوثي والمشروع الفارسي الإيراني في اليمن، فهم في كل سهل ووادٍ وجبل يحمون العرض والأرض ويذودون عن الحمى ويتصدون للصلف الحوثي الإيراني، سلوا عن كل القيادات التي قضت نحبها في الذود عن كرامة اليمن اليوم ممن هم وأين درسوا وعلى يد من تخرجوا وماذا يحملون وبماذا يحلمون، وسلوا الأجيال التي تربت على العقيدة الوطنية التي تدافع عن الثورة والجمهورية أين كانوا ومن أين أتوا؟!
كل الذين قدسوا أشخاصاً وعملوا من أجل أشخاص ومصالح ضيقة انتهى بهم المطاف في صف الانقلابيين مؤيدين لهم وباذلين أنفسهم في سبيل المصلحة الشخصية الآنية ونسوا الوطن ومصالحه.
كثير من الحملات اتهمت الرجل بمصادرة الأراضي والعقارات فلم يستطيعوا أن يأتوا بما ادعوا ليحاكموه بها، وقال لهم في عام 2012 في إحدى المقابلات التلفزيونية لو وجدتم أراضٍ أو عقارات أو أي شيء مما تدعون فهي لكم وحاكموني عليها.
اتهموه بمصادرة ونهب المال العام ولم يجدوا شيئاً، ولم يسعَ كما سعى غيره لتوريث المناصب ومؤسسات الدولة، وسلوا عن أولاده أين هم اليوم وأي رتب يملكون وأي مؤسسات يرثون!!
فبركوا عليه الكثير من القصص وكالوا له العديد من التهم والشتائم بلغت حداً يفوق الوصف طوال سنين مضت أو عقود من التشويه إلا أنهم لم يستطيعوا إدانة الرجل بشيء.
المشروع الإمامي كان رأس حربة المتحاملين على الرجل لإدراكه أنه حصن الجمهورية الأول لذلك ركز عليه كل التركيز وآوى ودعم ومول كل المشاريع الأخرى للنيل من الرجل، ولو عدتم لمقابلة قناة اليمن بعد الانقلاب مباشرة في مقابلاتها لعرفتم الكثير من الشخصيات التي تشفت في الرجل ودعمت الانقلاب وهي تدعي أنها في صف الجمهورية.
كما لو عدتم لتك الحملات الضخمة التي كانت ترى كل شياطين العالم وقضاياه متمثلة في تسليم الفرقة الأولى مدرع كحديقة للثورة للأطفال ونحن نعرف مراميها، وكيف تحولت إلى أهم وكر للمليشيا الحوثية الانقلابية ولم تسلمها لا حديقة ولم تسلم حتى دماء اليمنيين من السفح، وكان يكفي بها واعظاً لكل جاهل أو غاوٍ ليعود عن غيه.
نحن في المشروع الجمهوري والوطني لسنا مثل المشروع الإمامي الذي يقود حملات مضللة ويجعل من لصوص الأرض وقطاع الطرق رموزاً وآلهة وأصناماً تعبد من دون الله، حتى أنهم يجعلون من جهالهم الذين لا يعرفون القراءة والكتابة وأصحاب العقول المتسخة والأثواب القذرة رموزاُ ينسبون إليهم كل المعجزات والهرطقات الثيوقراطية الشبيهة بما كان عند البابوية الكاثوليكية، بينما في المقابل نحن نسفه كل رموزنا، ونسلط عليهم كل حملات الإساءة والكراهية ونسف كل إيجابياتهم والتماهي مع كل حملات الآخرين للنيل من رموزنا وقاداتنا وشخصياتنا حتى نسقطها بأيدينا ثم نعود للبحث عن قيادات تقود مشروعنا فلا نجدها لأن كل قائد يمكن أن يأتي تتم شيطنته بكل وسائل الشيطنة خاصة مع وسائل التواصل الاجتماعي، ومن هنا غزيت الجمهورية وسقطت في قلوبنا حتى سقط الوطن، واستفاد كل لقيط ومتشرد وضال وصعلوك ومتسكع وصاروا قادات المجتمع اليوم، وظهرت الرويبضة وظهر التافهون يتكلمون في كل مكان، ودفع اليمنيون الثمن في وطنهم ودمائهم وأرزاقهم وقوتهم وأمنهم وسلامتهم.
بطبيعة الحال ليس الرجل ملاكاً معصوماً ولا نبياً منزهاً، فهو إنسان كبقية الناس، له إيجابياته وله سلبياته، لكن السؤال الحقيقي كم هي نسبة السلبيات إلى الإيجابيات؟!
لككنا سنظل نطلق عليه صفة القائد الجسور شاء من شاء وأبى من أبى، وعلى المنصفين أن يأخذوا من سيئاته إلى حسناته حتى يستقيم الميزان.
{ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا..إعدلوا هو أقرب للتقوى}.