موسى المقطري
ما أن تعود ذكرى انطلاق ثورة 14اكتوبر 1963م المباركة إلا ويعود الحديث عن تاريخ النضال المستلهم طاقته من الذات اليمنية التي ترفض الخضوع والاستبداد والذل وتعشق الحرية والانعتاق ، وفي سبيل ذلك توالت التضحيات سواء في جنوب اليمن أو شماله ، وامتزجت دماء اليمنيين لتشكل لوحة تلاحم عجيبة تتجاوز حدود الجغرافيا إلى بدهيات التاريخ الذي يجعل كل من يعيش ويعتاش في هذه الارض المباركة مسؤلاً عن تحريرها والدفاع عنها ، بعيداً عن اسمه أو مسقط راسه او أي من المحددات التي صنعتها سنوات الصراع العقيم وعقود التشتت والانقسام المشؤمة .
رغم أن شرارة الثورة ضد المستمر البريطاني انطلقت يوم 14 أكتوبر في جبل ردفان إلا أن هذه الحقيقة لا تهمل تاريخاً من المقاومة للاستعمار البريطاني امتد منذ اليوم الأول الذي هاجمت فيه قوات "هينس" عدن ، وبالرغم من استبسال المقاومين في الدفاع عن المدينة ومنع احتلالها لكنهم خسروا المعركة بسبب فارق الإمكانات الهائل بينهم وبين قوات الامبراطورية البريطانية "التي لا تغيب عنها الشمس"
لم تتوقف جهود اليمنين لتحرير عدن وسجل التاريخ هجوماً على المحتلين يوم 21 مايو 1840م وأخر في 5يونيو 1840م ، وتوالت عمليات المقاومة خلال سنوات الاحتلال ، وتنوعت بين اغتيال ضباط أو جنود انجليز ومهاجمة مواقع عسكرية بريطانية وصد توغل القوات الغازية في المناطق المحيطة بعدن ، إلا أنها لم تتخذ طابعاً منظماً يضمن تحقيق مكاسب عسكرية على الأرض ويؤسس لمشروع تحرري منسق ومنظم حتى بدأت تباشير ثورات التحرر العربية خلال العقدين الخامس والسادس من القرن العشرين وكانت من آثارها إعادة إذكاء روح النضال لدي اليمنيين في عدن فاتجهوا إلى إلى تأسيس "نادي الشباب الثقافي" عام 1953م ، ثم تكون مؤتمر عدن للنقابات عام 1956م الذي تغير اسمه عام 1958م إلى المؤتمر العمالي ، ورافق ذلك البدء في تنظيم الحركة الطلابية عام 1954م وانطلاق الإضرابات الطلابية والعمالية والخروج في مظاهرات ضد المحتل في عدن كأحد وسائل مقاومة الاستعمار البريطاني .
دأب اليمنيون على مقاومة كل محتل لأرضهم منذ حقبات التاريخ الأولى ولم تكن بريطانيا بمنأى عن هذه المقاومة والتي امتدت طوال فترة استعمارها لأرض الجنوب اليمني حتى انطلقت شرارة ثورة 14 أكتوبر التي استندت على تاريخ طويل من النضال والمقاومة وواقع جديد فرضته روح التحرر التي سرت في كثير من الأقطار العربية بالاضافة إلى نجاح ثوار 26سبتمبر في اسقاط الإمامة وإقامة الجمهورية الوليدة والتي شارك في حمايتها ودعمها القائد "لبوزة" وهو الذي تفجرت على يديه شرارة الثورة صبيحة 14 اكتوبر في جبل ردفان وقدم روحه فداء لها مساء نفس اليوم .
من خلال تتبع الأحداث في جنوب اليمن خلال الفترة التي تلت الاحتلال البريطاني الذي داهم عدن في19 يناير 1839م واستمر 129عاماً عملت بريطانيا خلال فترة احتلالها على تصوير نفسها أنها صديقة لليمنيين ، وركزت على تنفيذ مخططها في الاحتلال والسيطرة تحت عناوين ومبررات وسواتر مختلفة ، ولاجل خداع اليمنيين انتهجت اسلوب الصداقة المزيفة فاختارت منهم موظفين لدى حكومة الاحتلال ، وأدرجت بعضهم في مدارسها، وعززت فكرة السلطنات المتفرقة التي بلغ عددها 21 إمارة وسلطنة ومشيخة ودعمت بقائها، وخصصت رواتب وميزانيات للمشائخ والسلاطين .
ولمزيد من تثبيت احتلالها أوهمت مشائخ السلطنات في العام 1954م بانشاء دولة باسمهم في محاولة لاستباق رياح التحرر ، تحت مسمى "اتحاد إمارات الجنوب العربي" ، وهو كيان سياسي أرادت بريطانيا أن تستمر في سيطرتها على الجنوب من خلاله ، وتم إعلانه عام 1959م وكان لهذا الكيان دستور صاغه المحتل ، وقامت بتأسيس جيش موحد من ابناء هذه السلطنات والقبائل يأتمر بأمرها، وذهبت باتجاه ترسيم الحدود مع الامام يحي لفصل اليمنيين بعضهم عن بعض ، وإيهام من تحت احتلالها أنهم دولة مستقلة بينما طوال قرون سابقة ظلت الممالك اليمنية إما متوحدة أو متداخلة دون فواصل ولاحدود ، كما عمدت شراء ذمم كثير من ضعفاء النفوس من أبناء البلد بالمال والوظائف والامتيازات ليبرروا لها استعمارها ، وليحسّنوا وجهها القبيح ويقدموها كمنقذ وصديق .
مع محاولاتها لتحسين صورتها الاستعمارية عمدت بريطانيا - كعادة أي محتل دخيل- إلى ممارسة القمع في حق معارضي وجودها وفتحت لهم المعتقلات وقصفت بالطيران مناطق قبلية أعلنت رفضها للحكم البريطاني ، وأخمدت بالحديد والنار انتفاضات متعددة قامت ضدها ونوّعت في أساليب قمع المتظاهرين وإذلالهم ، كما عمدت إلى التخادم مع الإمامة التي كانت تجثم على شمال اليمن وقدم كل طرف للآخر خدمات تؤمّن لكليهما الاستفراد باليمنيين واطلاق يد الظلم والجبروت على كل محاولات التحرر والانعتاق من مشروعيهما المتشابهين شكلاً ومعنى .
في طريق التخادم البريطاني الإمامي وقع الامام الكهنوتي يحيى حميد الدين مع الاستعمار البريطاني اتفاقية لترسيم الحدود بين الشطرين في العام 1934 ، وهو ما يمثل اعترافاً واضحاً وصريحاً من الامام بأن الجنوب ارض تابعة لبريطانيا ، وبعد اندلاع ثورة 26 سبتمبر قدمت بريطانيا الدعم العسكري لفلول الملكيين في محاولاتهم اجهاض ثورة 26 سبتمبر ، وقام سلاح الجو الملكي البريطاني بقصف مواقع الجمهوريين مباشرة واستهداف متارس وامدادات الثوار وإخوانهم المصريين الذين جاؤوا لمساندة الثورة وحمايتها.
التخادم القديم بين المحتل البريطاني والإمامة مرجعه إلى تشابه مشروعيهما الذي يقوم على الاستبداد السياسي والاجتماعي بغرض نزع قيمة الحرية لدى اليمنيين ، وتتشابه معهم الإمامة الجديدة التي تتخادم مع مشاريع الارتهان الصغيرة وتشجعها في محاولة لتشتيت الاتجاه نحو المشروع الوطني الجامع والذي يقوم على السيادة والاستقلال والحرية ، وهذا التخادم القديم الحديث هو وصمة عار في جبين مرتكبيه الذين تجردوا من كل معاني الوطنية وباعوا أنفسهم بثمن بخس حين فضلوا الاصطفاف ضد الوطن الذي لايناسبه إلا أن يكون حراً محرراً في ولائه وقراره .
مقابل التخادم بين مشاريع الاستبداد ومطامع المستعمرين وتكالبهم على اليمنيين ثمة أشارات امل اكدتها أحداث ستينات القرن الماضي وفيها تأكيد أن جهود المناضلين اليمنيين التحمت لتشكل لوحة مميزة يعجز الضعفاء عن رسمها ، ويمزج ألوانها الأقوياء ، وامتدت ملامحها لتشمل الوطن بشطريه يومئذْ فالنضال لا يعرف حدوداً ، والمناضلون لا يؤمنون بالتجزئة للوطن الواحد ، ولاجل ذلك التحم ثوار سبتمبر بثوار اكتوبر ، وساند كل فريق الأخر ، والتقى الطرفان تحت راية واحدة في ميادين مواجهة الإمامة الكهنوتية في شمال الوطن ، والاحتلال البريطاني في جنوبه .
يُجمع من عاشوا أو أرخوا أحداث ثورتي سبتمبر واكتوبر أن كلٍ منهما كانت السند للأخرى ، فثوار سبتمبر اتخذوا من عدن مركزاً لمعارضة حكم الإمام ، ومن هناك كانوا يعدون العدة لاسقاطه ، وبالنقابل اتخد ثوار 14 اكتوبر من تعز والبيضاء مواقعاً للتدريب ، ومنافذا للتموين ، ومنطلقا لمقاومة الاستعمار البريطاني ، وفي عام 1963م وفي العاصمة صنعاء القريبة العهد بالحرية انعقد "مؤتمر القوى الوطنية" الهادف لتوحيد جهود اليمنيين في محافظات الجنوب المحتل لطرد المحتل ، ومن تعز التي كانت أحد عواصم الإمامة وتنفست الحرية تم في العام 1965م الاعلان عن قيام "الجبهة القومية" والتي عقدت مؤتمرها الأول وقتها وأعلنت عن مواصلة مشروع الكفاح المسلح لنيل الحرية وطرد المحتل ، وهكذا توحدت الجهود وتكاتفت لتتوج برحيل الإمامة في الشمال والمحتل في الجنوب واللذان تخادما كثيراً ليحافظ كل منهما على الآخر .
إعتاد اليمنيون على الاشتراك في ملاحم النضال راضين مختارين تجمعهم هممهم العالية المتقدة ، وتتشابك أيديهم وهم يزحفون نحو الحرية ، وتمثل ثورة 14 اكتوبر 1963م محطة في رحلة اليمنيين النضالية ، وصفحة ناصعة في كتاب الكفاح الذي لازال مفتوحاً تتعاقب عليه الأجيال ، ويتشارك في رسم صفحاته اليمنيون من مختلف المشارب .
ونحن نعيش ذكرى ثورة 14 اكتوبر المجيدة لزاماً أن ندرك أن المشاريع الاستعمارية وإن تغيرت أساليبها وأسمائها إلا أنها ليست مقبولة من الشعوب التي تعشق الحرية ، ومهما حاولت تجميل وجودها فإن صفة القبح ستظل بها لصيقة ، وهو ما يجعل فكرة ومشروع المقاومة فعلا مشروعاً ومقبولاً بل مستحباً يحمل بعداً وطنياً وقومياً يرتكز على حق الشعوب في أن تكون حرة في أوطانها ووحيدة في التحكم بقرارها وثرواتها .
ولابد أن نتذكر أن السيادة الوطنية الشاملة والتحرر من المتحكمين بمصير الشعب والأرض هما ما يجب ان نركز على توطيده اليوم ونحن نناضل لاستعادة الوطن من أيدي الانقلاب ، وأن نتعلم من تاريخنا الحافل بروح النضال العابر للحدود المصطنعة أن الثورات لا يكفي تحقيقها، لكن ينبغي حمايتها من المتسللين لواذاً، والمتسلقين من خلف الجُدُر، ودعاة الوطنية الذين يعلوا صوتهم حين نحتفل بالنصر، وكانوا قبله قابعين في غياهب الانبطاح متمرغين بذل الاستكانة ولابسين رداء الخذلان ، ولعل ما نحتاجه اليوم لانقاذ وطننا واستعادته بهياً زاهياً هو إعادة تقييم الخطاب الوطني وتحويله نحو النموذج الجامع الذي يبني ولا يهدم ، ويجمع ولا يفرق .
دمتم سالمين ..