وداعاً يحيى السنوار

2024/10/21 الساعة 11:36 صباحاً

نقَّبوا عليه تراب غزة، فقد كان المطلوب الأول لهذا العالم العاهر! كانت تهمته أنه كان حرّا، وهذا الكوكب العبد لا يربكه شيء أكثر من أن يرى حرا بيده بندقية!

طالما آمن أن هذه الأرض غابة، وأنه لا شيء فيها بالمجان، وأنه لن يأتي أحد إليك ليقول لك: هذا حقك فخذه! تريد شيئا، قم وخذه رغما عن العالم كله، واركل قانون الغاب بحذائك!

مهما صرخت لن يسألك أحد ما بك، ومهما نزفت فلن يلتفت أحد إلى جرحك، ومهما شجبت وأدنت فلن يستمع إليك أحد!

فقط في اللحظة التي يصبح لديك فيها صاروخ وبندقية ورصاص وقذائف الياسين، سيصبح صوتك مسموعا، ووجهك سيزين الصفحات الأولى من الجرائد!

نقبوا عليه تراب غزة! كانوا يبحثون عنه في الأنفاق، فقد أخبروا العالم كله أنه يحتمي بالأسرى كي لا يقتل.. ثم جاءت الصورة الأخيرة لتهزهم، وتهزنا، وتهز العالم كله معنا!

حين صوروه بأنه الطريدة، ثم اكتشفوا أخيرا أنه كان الصياد! وحين اعتقدوا أنهم يبحثون عنه، واكتشفوا أخيرا أنه هو الذي كان يبحث عنهم!. وجدوه في الصفوف الأولى واقفا بين يدي الموت، غير عابىء به ولا بهم ولا بالعالم كله! وستبقى صورة موته مدهشة تماما، كما هي صورة حياته!

بندقيته في يده، ومسدسه على خصره، وجعبته على صدره، مصحفه رفيقه، وسبحته في جيبه، وورقة الأذكار زاده، ودمه شاهد عليه!

قدم إلى الله عذره.. شُقّت جمجمته، وفُدغ رأسه، نزفت يده، وتهشمت ركبته، لم ينحن، وظل يقاتل حتى آخر ثانية، وعندما سقطت بندقيته رماهم بالخشب!. هزمهم في موته، تماما كما هزمهم في حياته!

أخذ يحيى الكتاب بقوة، فلم يترك عذرا لأحد!

فإن لامه أحد عن الدماء، فهذا هو دمه.. وإن لامه أحد على الهدم، فها هو تحت الردم.. وإن لامه أحد على الجهاد، فها هو جهاده!

إن لامه أحد على كل هؤلاء الشهداء، فها هي شهادته.. وإن لامه أحد على العمر، فها هو عمره أفناه مطاردا، وأسيرا، ومطلوبا، ومقاتلا، ومحرضا، وشهيدا! وإن لامه أحد على التعب، فها هو قد أمضى عمره منهكا!

إن لامه أحد عن الذين لم يكن لهم قبور، فها هو جثمانه بيد عدوه، زهد في كل شيء حتى في أن تكون له جنازة تليق به، وما عند الله خير وأبقى!

كفوا الملامة، فإن من سوئها أن يلام المرء لأنه كان رجلا!

‏لا تبكوه، فالرجل لا يُبكى حين يلقى أمنيته، وإنما يُبكى حين تفوته، وما كان لمثله أن لا يقع على ضالته وتقع عليه!

‏ثم إن لم تكن هذه أمنية كل واحد منا فعلى أي شيء نسير في هذه الطريق؟ وعلى أي شيء نرفع الأكف ندعو: اللهم خذ من دمنا حتى ترضى؟ وعلى أي شيء نتعاهد صباح مساء أننا لن نترك الساح، ولن نلقي السلاح؟

لم يصبنا العدو في مقتل، فمَقاتلنا لم تكن يوما مخبوءة، منذ زمن ونحن نُقدِّم قبل الجند قادتَنا!

‏هذه الحركة ولادة، وهذا الثغر مستخلف، ولولا مُضيُّ صاحب بأس قد سبق، ما عرفنا بأس الذين لحقوا!

السلام عليك يا أبا إبراهيم!

السلام عليك يوم تبعث حيا على ما متَّ عليه، بندقيتك في يدك، وجعبتك على صدرك، وسبحتك في جيبك، وجروحك تثعب دما كيوم أُصبت!

السلام عليك يوم تقف بين يدي ربك برأسك المشقوق، وإصبعك المقطوع، وعظمك المهشم، وتقول: أرضيت يا رب؟!

أما أنتم يا أحبابه وإخوانه وقومه:

إن النبأ عظيم، فلا ترثوه، كل الكلمات الآن بلهاء، رثاؤه أن تموتوا على ما مات عليه!

في الخالدين يا أبا إبراهيم.. في الخالدين!