الجُنُونُ في الرُكُونِ:

2025/05/04 الساعة 08:33 صباحاً


كَلَّمنَاهُم ليلا ونهارا. نَصحنَاهم سِرا وجَهرا. وعظنَاهُم ظهرا وعصرا. سَرَدْنا عليهم أنباءً وأخبارا. استَخلصنا لهم دروسا وعِبَرا. فما زادَهُم ذلك إلا فِرارا. واستكبَروا استكبارا. وللركونِ كانوا أشدَ إصرارا. سألنَاهُم ألَمْ تَقْرَؤُوا قَولَ اللهِ تعالى: "وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ". قالوا بلى. ولكن خَشِينا جَمْعَ الناسِ لنا، وتوافُقَهُم ضدَّنا، وعزمَهُم حربنَا، فقررنا سلامَةَ أهلِنَا، وحِفظَ مُنجَزاتِنا. وعزَمنَا مُسَايَرتَهُم فيما أعدوه لنا ولأُمَّتِنا، لعلَّ كَيدَهُم يُصْرَفُ عنا، ومَكرَهُم لا يَحِيقُ بِنا. قلتُ: واليوم قد زالتِ الغشَاوَةُ عن البَصَرِ. وذابَ عن السَمعِ الوَقَرُ. ولكن بعد أن نالوا عبرَ ركونِكُم ما يريدون. وحققوا بقربِكُم ما يأمَلُون. وأَمِنُوا بِصَمتِكُم ما يحذرون. فماذا يا أربابَ السياسةِ وأعلامَ المجتمعِ كان يعني لكم الوطنُ والشعبُ، والهويةُ والجمهوريةُ، وتُربَتُنا الغَالِيَةُ، وسمَاؤنَا العَالِيةُ، وكرامةُ الأحرارِ وشرفُ الحرائرِ؟. كيف رَضيتُمْ بالمَهَانةِ والتبعيةِ لِمَنْ لم يُسَطِرْ لَهم التَارِيخُ مَلْحَمةً، وأنتم من بكم قد علا الإيمانُ، وفُتِحَتِ البُلدانُ. وأنتم يا دُعَاةَ الخلافةِ والسلفيةِ كيف تأولتم "شَيْئًا قَلِيلًا"، ولماذا قليلا؟. ألا يعني ذلك أنَّ مَنْ تنازلَ لهم اليوم قليلا، فسيهبُهم غدا كثيرا؟. ولو كان حتى نبيا، فكيف بِمَنْ هُمْ دونهم من الحُكامِ والولاةِ، والعلماءِ والدُعَاةِ. أين ما عَلَّمتُمُ الناسَ إيَّاه من خُطَبِ المنبَرِ ومواعظِ المِحرَابِ.. عن ثباتِ ابنِ حنبل، وصمودِ ابن جبير، وطاعةِ ابن مسعود، وشموخِ قُطْب، وصَبرِ بلال، وتجرُدِ صهيب، وبذلِ عثمانَ، وإقدامِ نَسِيبَةَ، وفدائيةِ كعب، وإيثارِ أبي طلحةَ، وتضحيةِ الخَنْسَاءِ، وعزةِ عاصم، وَولاءِ خُبَيْب، وعبقريةِ خالدٍ، وبَيعةِ عكرمةَ، وزُهدِ أهلِ الصُفَّةِ. أَذَهَبَ كلُ ذلك عنكم أدراجَ الرِياحِ عند أولِ هَفَّةٍ؟. أم لم يعُدْ ذلك يُشَكِلُ عندكم قناعةً ويُمثلُ لكم طاعةً؟. يا أيُّها الساسةُ والدعاةُ ما أقسى ما سيعانيه مَنْ سيأتي بعدَكُم في تَرمِيمِ البُنيَان، وفي تجدِيدِ الولاءِ للوطنِ وترسيخِ الثقةِ في الكيانِ. كيف ستسمو بكم الإنسانيةُ ويعلو الإنسانُ.. وأنتم قد بعتموهم في نخاسةِ الملوك والشيوخِ بأبخَسِ الأثمانِ. وكيف ستظلُ مَآثرُ النضالِ الثوري والجهادِ الشرعي خالدةً في الأذهانِ، والناسُ ترى ما أنتم عليه من التثاقلِ والذَوبَانِ. هل بقي لديكم جميعا شيءٌ من صَحوةِ الرجالِ ونَهضةِ الأبطالِ؟!. فهذا وقتُهَا وهذا أوانُهَا.. فبادروا وإلا فأدبروا. 
أبو الحسنين محسن معيض.