كشفت تداعيات الانقلاب العسكري الذي أطاح بأول رئيس منتخب ديمقراطيا في مصر عن إجابات لبعض التساؤلات التي كانت تدور حول عدد من القضايا السياسية والأمنية التي عصفت بهذه المنطقة والعالم على مدى عقدين ونيف بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وانهيار منظومة حلف وارسو الاشتراكية عقب انسحاب القوات السوفياتية منهزمة عن العاصمة الأفغانية كابل عام 1989.
وقد مثلت الهزيمة والتفكك السوفياتي وانهيار حلف وارسو حدثا تاريخيا فارقا كنقطة فاصلة بين مرحلتين، مما استدعى معه إعادة القوى الدولية المنتصرة رسم إستراتيجياتها، وهذا ما فعلته الولايات المتحدة الأميركية كقوة عظمى تقود حلف شمال الأطلسي والمنظومة الرأسمالية.
وهنا بدأت تجليات العقل الإستراتيجي الأميركي في البحث عن عدو بديل يحفظ لهذه القوى هيمنتها وتماسكها وانشدادها نحوه كخطر متربص بها، حسب نظرية المؤرخ الأميركي الشهير بول كيندي في كتابه "صعود وهبوط القوى العظمى"، حيث يرى كيندي أن أي قوى إمبراطورية لا يمكنها الاحتفاظ باستقرارها السياسي ومن ثم ببقائها قوى عظمى إلا بتوحيد طاقاتها المختلفة وتوجيهها نحو عدو مفترض، يشد جهود أبنائها نحوه، ما لم يكن ذلك فإن تلك الجهود والطاقات تنعكس صراعات داخلية تفضي إلى تصدع وتفكك هذه الإمبراطوريات.
وتتسق نظرية كيندي هذه مع جذور الفكر الغربي الواقعي، كما هو الحال عند الفيلسوف الألماني هيغل الذي كان يؤمن بأنه من دون احتمال الحرب والتضحيات التي تتطلبها سيصبح الإنسان لين العريكة ومستغرقا في ذاته، وسيتدهور المجتمع فيصبح مستنقعا لإشباع الملذات الأنانية فتنحل الجماعة وينهار المجتمع نتيجة لذلك.
لكن إلى جانب تلك النظرية الفلسفية، لا يخفى البُعد السياسي الآخر للعقل الأميركي، وهو البعد المتعلق بالخوف الأميركي مما كان قد ينشأ بعد انهيار وارسو في أن تسعى أوروبا للانفصال عن المظلة الأميركية، مما يعني أن الهوية الأوروبية ستشكل خطرا على أمنهم القومي في حال عدم شدها إلى حروب ومخاطر مشتركة، تبقي حلف الناتو متماسكا وتحت القبضة الأميركية.
في البحث عن عدو
على مدى العشرية الواقعة بين انهيار حلف وارسو 1990 وأحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، كان يجري إعداد نظري كبير في مطابخ صناعة القرار الغربي وبين نخبه من كتاب ومفكرين، للعدو الجديد الذي يفترض وجوده كهدف تعاد بموجبه صياغة العقيدة العسكرية للجيش الأميركي تكتيكيا وإستراتيجيا، كأقوى جيش في العالم.
وقد مثل كتاب صمويل هنتغتون "صدام الحضارات" بدرجة رئيسية و"نهاية التاريخ" لميشيل فوكوياما أهم الأدبيات النظرية لما بات يعرف بعدها بالخطر الأخضر، كعدو جديد للمنظومة الغربية بديلا عن الخطر الأحمر ممثلا بالمنظومة الشيوعية الاشتراكية.
ففي صدام الحضارات كان يرى هنتغتون أن الصراع القادم بين الأمم والشعوب سيكون صراعا ثقافيا حضاريا بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي، فيما كان فوكوياما يرى في نهاية التاريخ أن الرأسمالية الليبرالية كمنظومة حاكمة في الغرب هي بمثابة آخر الإبداع البشري الفكري على الإطلاق، وأن الغرب من خلال تلك القيم هو الذي سيسود بفرض قيمه تلك على العالم كله.
وتزامنا مع إعلان تلك النظريات التمهيدية، كان الإعلام الغربي يضخ مصطلحاته المُعدة بعناية عما بات يسميه بالإسلام الراديكالي المتطرف أو الأصولية الإسلامية، وغيرها من المصطلحات التي تلقفتها أجهزة أمن وإعلام الأنظمة الحاكمة في العالم العربي بكل ترحاب، لترددها ببغاوية شديدة الخبث والغباء معا، وكأنها وجدت ضالتها المنشودة، بالتقاء مصلحتها مع مصلحة الغرب في خلق فزاعة الإرهاب والتطرف، ولكل هدفه الخاص به.
وبالتالي فإن مثل تلك الدعوات والنظريات السياسية والإعلامية قد نجحت بالفعل في خلق مسار جديد للصراع الدولي "الحرب البادرة" من الإطار الثنائي الأيديولوجي إلى الإطار الحضاري الثقافي مع كل ما له علاقة بالإسلام كدين تحت مسمى الحرب على الإرهاب.
ملابسات الحقبة الأفغانية
بعد هزيمة السوفيات في المعركة الأفغانية، التي انتصر فيها المجاهدون، كانت أفغانستان حينها على موعد مع الحرب والاقتتال الأهلي الداخلي، كنتيجة طبيعية لغياب المشروع والرؤية معا لدى تلك الجماعات لما سيكون عليه أمر الدولة الأفغانية بعد انسحاب السوفيات.
وقد شكل ذلك الاقتتال بين الفصائل الأفغانية درسا للمراجعة عند البعض ممن شاركوا فيما عرف بالجهاد الأفغاني، حيث ساءهم ما آل إليه وضع المجاهدين، بعد أن كانوا رفاق سلاح ومعركة واحدة، غدوا يقتل بعضهم بعضا.
حينها دار جدل بين عدد من قادة الجهاد حول دورهم ووضعهم في أفغانستان، فكان رأي الأب الروحي للمجاهدين العرب عبد الله عزام هو أن عليهم مغادرة أفغانستان وعدم المشاركة في ذلك القتال كونه بين إخوة مسلمين، وكان يرى أن على المجاهدين العرب العودة إلى بلدانهم والإسهام في العمل السياسي للتغيير السلمي في تلك البلدان وبالآليات الديمقراطية.
وكان أول اختبار لذلك الرأي هو فوز إسلاميي جبهة الإنقاذ الجزائرية بالانتخابات البلدية وبعدها البرلمانية التي تم الانقلاب على نتائجها مباشرة 1992، وما تلا ذلك من سنوات الرصاص المريرة جزائريا، ولكن قبل ذلك كله اغتيل صاحب الرأي نفسه عزام نهاية 1989.
كان بن لادن من بين من اقتنع برأي الشيخ عبد الله عزام حينها، فقرر العودة إلى موطنه في المملكة العربية السعودية، ليمارس حياته الطبيعية رجل أعمال تخرج في جامعة الملك عبد العزيز بنفس تخصصه في إدارة الأعمال، التي كان قد ورثها عن أبيه.
الجديد الذي طرأ على فكر أسامة بن لادن هو خوضه في الشأن السياسي الذي تحرمه عقيدة البلاد "السلفية"، ولكن تسلسل الأحداث سريعا، واجتياح صدام حسين للكويت، واستقدام القوات الأميركية لتحريرها زاد من تعقيدات الوضع في المملكة، حيث كان يرى بعض الإسلاميين أنها قد تنكرت لتعاليم الإسلام باستقدام الجيش الأميركي للأراضي المقدسة.
وضع بن لادن تحت الإقامة الجبرية كغيره من الإسلاميين المعارضين لسياسة المملكة حينها، وسمح له بعد ذلك بالعودة إلى بيشاور الأفغانية لترتيب أموره قبل سفره إلى منفاه الاختياري في السودان مع بداية العام 1991، حيث قرر الإقامة فيها وطرح كل أمواله في مشاريع استثمارية كبيرة في السودان من شركات مقاولات وشركات زراعية وغيرها، وتزامن ذلك مع إعلان تأسيسه للجنة "النصيحة والإصلاح" التي فتح لها مكتبا في لندن، ليعارض من خلالها نظام المملكة الذي طرده من بلاده على خلفيه آرائه السياسية.
لم يرق ذلك للنظام في المملكة ولا للأميركيين، فمارسوا ضغطا شديدا على الخرطوم التي أبدت بدورها تجاوبا بتسليم بن لادن لأي من الطرفين اللذين رفضا تسلمه، حينها لم يكن ثمة من خيار أمام بن لان سوى العودة مجددا إلى أفغانستان كمكان وحيد يرحب به، بعد أن أضاع كل أمواله في السودان، ليبدأ هناك حياة جديدة ومختلفة فكرا وممارسة مع صديقه الجديد أيمن الظواهري، كان أول فصولها الإعلان في فبراير/شباط 1998 عن تشكيل الجبهة الإسلامية العالمية لمحاربة اليهود والنصارى.
تلك الجبهة التي ضمت بعد ذلك في صفوفها كل الذين كانوا قد عادوا لبلدانهم فوجدوا السجون والزنازين والمعتقلات بانتظارهم، لا لشيء سوء تهمة الأفغنة التي لحقت بهم جراء شيطنة الإعلام الغربي وتوابعه لهم، حيث وجدوا تلك الأجهزة التي ساهمت في تجنيدهم هي نفسها التي تحولت إلى أدوات قمع وامتهان لهم ولآدميتهم.
دلالات ومآلات الحادي عشر
تعد حادثة الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 واحدة من أسوأ الحوادث التي عاشها الشعب الأميركي على مدى عقود، وبغض النظر عن أي تفسير لتلك الأحداث فإن ما ثبت حتى اللحظة أن كل المنفذين لتلك العمليات عرب مسلمون، ومن بلدان الشرق الأوسط على وجه التحديد.
صحيح أنه قد سبقت هذه العمليات هجمات مسلحة على عدة أهداف أميركية كسفارتيها في نيروبي ودار السلام في العام 1998، وبعدها البارجة إس إس كول قبالة شواطئ عدن في أكتوبر/تشرين الأول 2000، لكن تبقى أحداث الحادي عشر الأكبر والأخطر لاتخاذ الأحداث بعدها مسارا تصعيديا عالميا، تمثل بتدشين ما بات يعرف بالحرب على الإرهاب.
سقطت بعد أحداث سبتمبر بأسابيع العاصمة الأفغانية كابل ونظام طالبان على يد القوات الأميركية، وبعدها بعامين سقطت بغداد في أغسطس/آب 2003، وبنفس الحجة والتهمة أيضا إيواء العناصر الإرهابية ودعم الإرهاب.
بل الأكثر غرابة في الموضوع هو أن اسم "القاعدة" الذي أصبح عنوانا عريضا لكل ما له صلة بما يسمى "الإرهاب الإسلامي" لم تكن سوى تسمية أميركية خاصة أطلقت على سجل كان قد وضعه المجاهدون العرب مع نهاية حقبة الجهاد الأفغاني ليدونوا فيه أسماء شهدائهم وأحيائهم على حد سواء تخليدا لأدوارهم في تلك المرحلة، ثم جرى تعميم التسمية الأميركية عالميا.
الإرهاب والربيع العربي
بعد عقود من القمع والتهميش والاستبداد السياسي عربيا، ومع اشتداد هذه الممارسات التي ولدت ضغطا فجر المشهد العربي مع بداية العام 2011 ثورات شعبية سلمية عارمة، لا مطلب لها سوى الحرية والكرامة كرمزين للنظام السياسي المطلوب أي الديمقراطية.
وفي غضون العام 2011 كان قد سقط أكثر من نظام عربي استبدادي من تونس إلى مصر فليبيا فاليمن، مع اختلاف نمط سقوطه هنا أو هناك، حسب تطورات الأحداث وطبيعة ظروف كل مجتمع.
لكن القاسم المشترك بين كل تلك الأحداث طابعها السلمي الواضح، هذا الطابع الذي غير الكثير من المفاهيم لدى جماعات الحل المسلح، وأسقط الكثير من النظريات الإصلاحية التغييرية، ما بين العنف والسلم.
ورغم تعقيدات بعض مسارات تلك الثورات، كما حصل في ليبيا وبعدها سوريا، حيث انقلب مشهد الثورة كفاحا مسلحا، فإن تطورات الأحداث الأخيرة بعد الانتخابات التي فاز بها الإسلاميون في كل من مصر وتونس وليبيا، ربما سيساهم في تغير خارطة المفاهيم السلمية التي كانت في بداية تشكلها رأسا على عقب.
فقد أدى العنف الذي مورس مؤخرا بحق الإسلاميين وأنصارهم من مؤيدي الرئيس المصري المعزول محمد مرسي إلى انتكاسه كبيرة في مسيرة التجربة الديمقراطية الوليدة بالانقلاب عليها ومسيرة الكفاح السلمي المدني أيضا، وما يخشى على نطاق واسع هو أن تؤدي تلك الأحداث إلى القضاء على تلك المكتسبات السلمية لثورات الربيع العربي وإلى الأبد.
ويجزم البعض هنا أنه لولا وجود ضوء أخضر غربي لذلك الانقلاب العسكري في مصر وللعنف الذي مورس بحق الإسلاميين وأنصارهم، لما كان يجرؤ العسكر على ارتكابه.
وهذا ما يضعنا أمام تساؤلات عدة حول مدى تورط الغرب فيما يجري، ليس على مستوى الأحداث الدائرة في مصر بل وفي سوريا التي اتخذت منحى أكثر عنفا ودموية في ظل صمت غربي وتواطؤ دولي مريب، يؤشر على أن العنف والإرهاب لا يخرج عن سيناريو الفاعلين الرسميين دوليا، ليكسروا بذلك كل مكتسبات الربيع العربي السلمية.
ولا شك أن في مقدمة تلك المكتسبات هي الديمقراطية، ومن ثم جر أكبر الأطراف الفاعلة ديمقراطيا في الساحة العربية وهم الإسلاميون إلى مستنقع العنف، ليسهل بذلك ضربهم وقمعهم بعد أن يتم شيطنتهم بالإرهاب، ليقضوا بذلك عليهما معا الديمقراطية والإسلاميين وتحت مبرر محاربة الإرهاب المصنوع غربيا.
الجزيرة نت