أتدرون سر رفض الجنوبيين للفيدرالية المتعددة الأقاليم؟.. الإجابة بديهية ومنطقية وتتعلق بيأسهم وقنوطهم من إمكانية إقامة الدولة في الشمال وعلى وجه الدقة في جغرافية شمال الشمال، فهذا الهاجس القلق اليوم من فدرلة الجنوب والشمال في إطار دولة اتحادية متعددة الأقاليم لم يكن هاجساً وليد اللحظة والمصادفة, أو نتاجاً لفروقات مجتمعية وثقافية يتمايز بها مواطن الجنوب عن مواطن الشمال؛ بل يعد نتاج قرابة ربع قرن من العيش في ظل لا توحد، ولا دولة، ولا مصداقية، ولا ثقة، ولا معالجة جادة لمسألة غياب الدولة المجسدة للوحدة والمسؤولة عن جميع رعاياها, ودونما تفرقة أو تمييز أو ظلم..
فمشكلة الجنوب هي في المحصلة نتيجة لجملة من العوامل, منها ما له صلة بتوحد عاطفي ارتجالي سنة 90م, ومنها ما يتعلق بكارثة اجتياح الجنوب عسكرياً صيف 94م، ضف لهذه السنوات التي سادها الهيمنة الجهوية والقبلية العابثة بمقدرات وتاريخ ونظام ودولة كانت قائمة على مساحة الجنوب..
هنالك أسباب أخرى تقف خلف تمترس شريحة واسعة من الجنوبيين بفدرلة ثنائية, باعتبارها أهون الشرين وحلاً وسطاً يجنب اليمنيين الانزلاق إلى مهاوي الفوضى والعنف.. ومن هذه الأسباب, أيضاً, تاريخ طويل ومرير مازالت الذاكرة الماضوية الجمعية تعيد إنتاجه وتسويقه لجيل الحاضر الذي ما فتئ يخوض معركة استعادة دولة لم يعشها أو يكن طرفاً في إضاعتها أو عقرها قرباناً لتوحد لم يعثر عليه وجدانياً ونفسياً وواقعياً، فالحال أن سفر التوحد صفحاته زاخرة بالقتل والنهب والاستئثار والهيمنة القبلية والسلالية والطائفية, كما أن محاولات النخب الموحدة والثائرة على ظلم الأئمة وطغيانها جميعها أخفقت وتبددت في كنف واقع عصي تستحكم فيه القبيلة والجهة والسلالة والمذهب, وسواها من مفردات ومفاهيم ما قبل الحداثة والدولة.
ما قيمة مثل هذا الكلام وما جدواه ونفعه على الحوار والمتحاورين وفي هكذا لحظات حرجة تعاني من غلالة فقدان الثقة والصدق؟.. الحق أن هذه البلاد وأهلها بمسيس الحاجة لدولة اتحادية ولكن بأفكار جديدة جريئة كاسرة لرتابة الحالة الراهنة ومؤسسة لمستقبل جدير بالتفاؤل والاطمئنان وقيادة قوية صادقة نزيهة مؤمنة قولاً وفعلاً بالدولة العادلة القوية المستقرة.
المعجزات وليدة الرجال المتحدين، قولة صاحبها الزعيم المهاتما غاندي وأجدها فاقدة المعنى في مجتمع ممزق ومفتت وغير متحد على أية غاية مشرفة، فقبل انسلاخ باكستان عن الوطن الأم الهند كان العجوز الهزيل غاندي قد لاذ مستجيراً بالصوم كوسيلة لطالما افلحت بوقف الدم النازف.. توقفت برهة فظاعات الكراهية والحقد المندلعة وقتها بين المسلمين والهندوس استجابة لنداءات زعيم شارفت حياته على النهاية تحت وطأة الإمساك عن الأكل ولأيام متتالية، ومع ما فعله الكهل العجوز لوطنه وأمته تقبل فكرة انفصال باكستان عن الهند متخلياً بذلك عن فكرة استحالة طيران الهند بغير جناحيها باكستان والهند، ما لم يضعه بالاعتبار هو قدرة الهند على التحليق في فضاءات لا متناهية ومن دون باكستان الغارقة في وحل العنف الطائفي والمذهبي ومن دون بنغلاديش المنفصلة تالياً عن باكستان والتي ما برحت ملازمة لثرى الفقر والتخلف.
شخصياً لا أعطي أهمية لمسألة توزيع الجغرافيا مثلما هو انهماكي بماهية الشراكة في السلطة والثروة والقوة وغيرها من الأشياء الجوهرية التي أعدها سبباً في مشكلات اليمن واليمنيين، وقبل هذه بالطبع ماهية النوايا المتوافرة الآن لدى الأطراف المناط بها حل ومعالجة مشكلات المجتمع اليمني في إطار دولة مستقبلية قابلة للاستمرار والاستقرار ومؤهلة لخوض غمار النهضة والرفاهية والرخاء..
فما أخشاه هو سطوة الأخذ بمعيار الظفر الناجز في وغى حرب كارثية منهكة ما انفكت تلقي بثقلها وويلاتها على الحاضر, أو أن يكون معيار الدولة الماضوية قالباً لشكل الدولة المنشودة، فكلاهما لا يؤسسان لغير المحاصصة والهيمنة وتكريس الإقصاء والاستئثار الذي يحسب له إيصال البلاد وأهلها إلى هذه الحالة من التفكك والوهن والتخلف.
كم تستفزني قولة:" الوحدة خط أحمر والوحدة دين وفرض شرعي".. تسأل وبحيرة: لماذا خط أحمر وليس أصفر أو أخضر؟, فعلى الأقل الأخضر والأصفر كإشارتين مروريتين دالتين على الحركة والانطلاقة والاستعداد بدلاً من التوقف الإجباري.. ربما هؤلاء غفلوا تعليقات ساخرة تداولها العامة في الجنوب, فحواها أن الوحدة بات لونها أحمر وذلك نسبة إلى قبيلة آل الأحمر, لا إلى الدم المهرق في سبيل دربها الأحمر.
وكيف الوحدة ركناً سادساً مضافاً لأركان الإسلام الخمسة؟, فحتى دين الله المنزل لم يصادر حق البشر في الكفر والنكران؛ فكيف بتوحد سياسي أو تجزئة, فكلاهما ,التوحد أو التجزئة, هما مشروعان سياسيان وهدفهما الأول والأخير مصلحة ورفاهية المجتمعات المتحدة.
الشيخ/ محمد الحزمي أراه ملبساً الوحدة رداء قداسة وواجباً شرعياً يستوجب التضحية بالنفس والدم والمال، حماسة وحمية لا أعثر عليها حين يتعلق الأمر بدولة عادلة ولائقة برعية العدين المضطهدين في كنف إقطاعيات المشايخ، بودي معرفة موقفه إزاء معاناة الناس في إب وريمة وتهامة جراء التهميش والإقصاء والسلب والعنجهية الممارسة بقسوة وصلف من ذات الفئة المتسلطة على حياة مجتمع خارج سياق الدولة والزمن والحوار.
نعم أريد رؤية هؤلاء الوحدويين جداً وهم يحدثونا عن حقيقة مظلمتهم التاريخية الناتجة عن تمايز وهيمنة واستعلاء ظالم لا يستقيم مطلقاً مع وجود كثيف مبتغاه العدل والإنصاف والمساواة، فجميع هذه الأشياء مطالب مشروعة تستوجب الجهاد بالكلمة والدم والمنية والمال، فبدلاً من استنزاف الوقت والجهد والذهن في مخاوف وهواجس انفصال الجنوب، الصواب توجيه هذه الطاقة في سبيل إقامة الدولة في محافظات شمالية لم تعرف بعد معنى فقدان أناس في الجنوب لهذه الدولة.. فأغلب الظن أن مطالبة الجنوبيين بفك الارتباط أو بفيدرالية ثنائية ليس نزقاً ومحبة بالدولة الشطرية المفقودة, وإنما كرهاً في حالتهم البائسة المراوحة في القنوط واليأس من قدرة النخب السياسية والفكرية والحداثية المتحاورة اليوم في صنعاء على إقامة دولة في مساحة جبل أهلها الحياة خارج اهتمام الدولة وبعيداً عن سلطانها ونظامها ودستورها.