تواصل دولة الاحتلال الحرب على الشعب الفلسطيني واضعة هدفا كبيرا وهو القضاء على حركة حماس، غير أنه بدا واضحًا منذ البداية أن ليس لدى إسرائيل تصور عن كيفية تحقيق هذا الهدف، بل إنّ هناك شكوكا في إمكانية تحقيقه، كما يؤكد ذلك التقرير التالي المنشور على موقع مركز رؤية للتنمية السياسية.
ولعل رئيس وزراء حكومة الاحتلال الأسبق إيهود باراك أفضل مَن عبّر عن تلك الشكوك، إذ صرّح في مقابلة أنّه لا يمكن القضاء على حماس بشكل كامل لأنها "حركة أيديولوجية، وهي موجودة في أحلام الناس وفي قلوبهم وفي عقولهم".
وهذا الرأي ليس حكرًا على باراك، إذ يمكن القول إنّ حكومة الاحتلال وخبراءها مدركون لهذه الحقيقة.
يتبدى لدى الاحتلال من هنا أنّ المشكلة ليست حماس، وإنما هي قطاع غزة بأهله البالغ عددهم أكثر من مليونين و200 ألف مواطن، ما فتح الجدال حول "اليوم التالي" بعد القضاء على حماس.
وقد كانت الولايات المتحدة الأميركية هي المبادرة لطرح هذا الموضوع عندما أعلن رئيسها جو بايدن خلال زيارته لدولة الاحتلال واجتماعه مع مجلس الحرب الإسرائيلي في 18 أكتوبر/تشرين الأول، عن طرح أسئلة صعبة على قادة الاحتلال.
وقد ورد حينها أنّ بايدن قال لقادة الاحتلال خلال اجتماعه معهم: "ابدؤوا بالتفكير في ما سيحدث في اليوم التالي، كيف ترون بعد شهر أو شهرين أو عام -لديكم كل الشرعية والوقت للقتال- ولكن ماذا سيحدث في اليوم التالي؟".
ولعلّ هذا السعي الأميركي لإيجاد ترتيب لمستقبل غزة جاء بعد أن تبين للولايات المتحدة ودولة الاحتلال أنّ هناك رفضًا عربيًا واسعًا لمسألة تهجير غزة إلى سيناء أو غيرها.
يثير هذا الموضوع عددًا كبيرًا من الأسئلة حول البدائل التي طرحتها دولة الاحتلال بدعم أميركي كامل لحل "مشكلة قطاع غزة"، وكذلك المعيقات التي تواجهها هذه البدائل، وما الخيار الذي تنفذه دولة الاحتلال حاليا على الأرض؟
رغم ذلك فإن دولة الاحتلال عزمت أمرها على التمسك بخيار التهجير حلا نهائيا لما تراه في قطاع غزة من مشكلة دائمة لأمنها وأمن المشروع الصهيوني برمته، وهذا الخيار تنفذه على الأرض دون الإعلان الرسمي عن تبنيه، مع إدراكها للرفض العربي والمصري والأردني تحديدًا، وحجم المخاطر التي ينطوي عليها هذا الخيار.
كتب البروفيسور والمستشرق الصهيوني ميخائيل ميلشتاين مقالًا بتاريخ 17 أكتوبر/تشرين الأول في صحيفة يديعوت أحرونوت بعنوان "من سيحكم غزة.. هذه هي الخيارات، وكلها سيئة". ولعله كان من أوائل من تطرقوا إلى هذه المسألة لدى قادة الاحتلال وخبرائه، مستغلا خبرته المعرفية الاستشراقية التي شكّلها عن المجتمع الفلسطيني.
استهل ميلشتاين مقاله بالتشكيك في إمكانية القضاء على حماس، إلا أنه في حال نجاح الاحتلال في القضاء عليها وهو الأمر غير مؤكد، فإنّ أمامه 4 خيارات لمستقبل غزة، اثنان منها سيئان، واثنان أكثر سوءًا.
أما الأكثر سوءًا والواجب الامتناع عنهما، فهما:
1- احتلال قطاع غزة من جديد، وحكم إسرائيلي مستمر، وهذا الخيار سيكون له ثمن باهظ أمنيا واقتصاديا وسياسيا، وهو شبيه لما حدث مع الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان.
2- القضاء على حكم حماس والخروج سريعًا من غزة، وهذا سيخلف وراءه فراغًا سرعان ما يتحول إلى فوضى خطيرة أمنيا.
والأقل سوءًا:
1- إعادة السلطة الفلسطينية لحكم غزة، ولكن تحقيق هذا الخيار يتطلب أن تتخلص حكومة إسرائيل من تصور أنّ السلطة الفلسطينية عدو أسوأ من حماس.
وأيضا لا يبدو أنّ السلطة الفلسطينية التي تدير الضفة الغربية بصعوبة ستكون معنية بتولي هذه المهمة المعقدة، وإذا قبلت بهذه المهمة "على ظهر دبابة إسرائيلية"، فليس معلومًا كم من الوقت ستصمد.
2- بلورة نظام سياسي بديل يدير غزة بناء على قيادات محلية (رؤساء بلديات، وجهاء، عشائر) بمشاركة السلطة الفلسطينية ودعم خارجي من مصر.
على الرغم من أنّ "ميلشتاين" يبدي ميله للخيار الأخير كأقل خيار سوءًا، فإنه مع ذلك يشكك في إمكانيته أيضا، ما يعنيه ذلك هو أنه كان واضحًا منذ البداية بأن الخيارات المطروحة أمام دولة الاحتلال لمستقبل غزة قليلة وصعبة، إن لم تكن مستحيلة التحقيق.
غير أنّ دولة الاحتلال بدعم الولايات المتحدة الأميركية، ومعها دول غربية من أهمها بريطانيا وألمانيا حاولت طرح هذه الخيارات وغيرها، فمع كل مرة تتبين فيها استحالة أو صعوبة أحد الخيارات تنتقل هذه الدولة إلى خيار آخر.
كان الخيار الأول الذي سعت دولة الاحتلال إلى تنفيذه بدعم أميركي وغربي كامل هو تهجير سكان قطاع غزة إلى سيناء، وكان الحديث حينها يدور حول تهجير مؤقت ريثما تنتهي إسرائيل من مهمتها في القضاء على حركة حماس.
إن طرح هذا الخيار جاء قبل إقدام الجيش الإسرائيلي على التوغل البري في قطاع غزة، وذلك لأنّ قادة الاحتلال كانوا يدركون صعوبة تنفيذ العملية البرية في ظل اكتظاظ القطاع بسكانه، غير أنّ خروج السكان منه يعني حتميًا عدم عودتهم إليه، وهذا هو الهدف النهائي للاحتلال.
لم يعلن أيّ من المسؤولين الإسرائيليين أو الغربيين، لا سيما الأميركيين، صراحة عن فكرة تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء، إلّا أنّ هناك الكثير من التصريحات والدعوات غير الرسمية أو من مسؤولين متطرفين، دعت إلى تهجير سكان غزة.
ومن ذلك دعوة الوزير الإسرائيلي آفي دختر الذي وصف نزوح الفلسطينيين من شمال قطاع غزة إلى جنوبه بنكبة 2023، غير أنّه منذ بداية الحرب، ومع تصاعد الحديث عن الغزو البري للقطاع، بدأت بعض الدوائر الإسرائيلية والأميركية بالدعوة لتوفير ما تسميه "ممرات إنسانية آمنة" إلى سيناء لتجنيب المدنيين الفلسطينيين آثار الحرب.
إضافة إلى اشتمال خطة الدعم المالي لأوكرانيا وإسرائيل التي قدمها الرئيس الأميركي جو بايدن للكونغرس على بند بقيمة 3.495 مليارات دولار، تحت عنوان "مساعدات الهجرة واللجوء"، وهي عبارة غامضة، ولكنها اقترنت مع الجهود الأميركية لإقناع الدول العربية بتهجير أهالي غزة.
تولى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مهمة الترويج لخيار التهجير، وذلك خلال جولة له امتدت من 11 إلى 16 أكتوبر/تشرين الأول، لـ7 دول في المنطقة، بيد أنّه لم يصدر عنه أي تصريحات بهذا الخصوص، وإنّما أعلن في نهاية جولته أنّ الولايات المتحدة تعارض فكرة التهجير.
غير أنّ الرفض المعلن شديد اللهجة المتكرر لدى عدد من الدول العربية لمسألة التهجير، خاصة مصر والأردن، يشي بحجم الضغوط التي مورست على هذه الدول للقبول بفكرة التهجير، ولعلّ أهمها إعلان مجلس الأمن القومي المصري الذي ترأس اجتماعه الرئيس عبد الفتاح السيسي في 15 أكتوبر/تشرين الأول، رفضه واستهجانه لسياسة التهجير.
وأكد المجلس حينها أنّ الأمن القومي المصري خط أحمر، في إشارة إلى أنّ مخطط التهجير يشكل تهديدًا لبلاده، وكذلك صدرت عن الأردن تصريحات متتالية توضح أنّ تهجير الفلسطينيين سواء في غزة أو الضفة يعتبر إعلان حرب على الأردن، وقد جاء أحدها على لسان رئيس الوزراء الأردني بشر الخصاونة.
بعد هذا الرفض العربي الصريح لمخطط التهجير، بدأت الولايات المتحدة على لسان رئيسها الذي زار دولة الاحتلال واجتمع مع مجلس حربها في 17 أكتوبر/تشرين الأول بدعوة الاحتلال للتفكير في اليوم التالي.
وقد طُرحت عدة مخططات منذ ذلك الحين لمستقبل غزة، من الواضح أنّ جميعها فشلت ولم تحظ بأي قبول أو إجماع عربي، ومن تلك المخططات إعادة السلطة الفلسطينية لإدارة قطاع غزة، أو تسليمه للإدارة المصرية، أو تسليمه لإدارة دولية عربية مشتركة، أو تسليمه لقوات الناتو والأمم المتحدة، أو إعادة الاحتلال "الإسرائيلي" للقطاع.
رُفضت كل المشاريع الأميركية والإسرائيلية فيما يتعلق بمستقبل قطاع غزة عربيا وإقليميا، وبالتحديد من مصر والأردن، لأنهما ستكونان الأكثر تأثرًا بتبعات أي سيناريوهات يحاول الاحتلال فرضها في قطاع غزة، حيث جاء أنّ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أوضح لمدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية ويليام بيرنز خلال زيارته للقاهرة في 7 نوفمبر/تشرين الثاني، ما يمكن أن يسمى اللاءات المصرية الأربعة، وهي: رفض تهجير سكان القطاع، ورفض إعادة إسرائيل احتلال قطاع غزة وإدارته، ورفض مقترح الإدارة المصرية للقطاع، ورفض دخول قوات الناتو أو أي قوات أجنبية أخرى فيه.
مع هذا الرفض العربي والإقليمي، أخذت الولايات المتحدة تتراجع شيئًا فشيئًا عن أطروحاتها المتنوعة لمحاولة إيجاد مخرج لدولة الاحتلال من المأزق الغزي، حيث قدّم بلينكن خلال وجوده في طوكيو لحضور قمة مجموعة السبع، ما يوصف باللاءات الخمس، وهي "لا للتهجير القسري للفلسطينيين من غزة، لا لاستخدام غزة منصة للإرهاب، لا لإعادة احتلال غزة بعد انتهاء الصراع، لا لحصار غزة، لا لتقليص أراضي غزة".
بيد أنّه لا يبدو أنّ دولة الاحتلال قد انصاعت لهذه المحاذير الأميركية، فقد أعلن رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو رفضه لفكرة عودة السلطة الفلسطينية إلى حكم قطاع غزة، إذ صّرح أنه لن يقبل بعودة نظام يعلّم أولاده قتل اليهود وكراهيتهم، ويموّل الإرهابيين ولم يدن "الفظائع" في 7 أكتوبر.
وفي المقابل، أكّد إصراره على الاحتفاظ بسيطرة أمنية على قطاع غزة، تشمل "القدرة على دخول الجيش الإسرائيلي" إلى القطاع متى يشاء لتصفية إرهابيين من الممكن أن ينشؤوا في القطاع"، وعارض في الوقت ذاته فكرة تسليم القطاع لقوات دولية.
عاد نتنياهو ليؤكد موقفه بخصوص السلطة الفلسطينية واحتلال غزة في المؤتمر الذي عقده برفقة الوزيرين بيني غانتس ويوآف غالانت في 18 نوفمبر/تشرين الثاني، إذ اختتمه بالقول: "لن أوافق على أن تدخل إلى غزة أي جهة تدفع الأموال للإرهاب والمخربين ولعائلاتهم وتربي الأطفال على قتل اليهود والقضاء على دولة إسرائيل، ودون مثل هذا التحول في طابع الإدارة المدنية التي ستوجد في غزة، فإنها مجرد مسألة وقت حتى تعود غزة للإرهاب ولن أقبل بذلك".
ويشير هنا إلى السلطة الفلسطينية التي تسري دعاية حولها لدى المستوطنين بأنها الوجه الآخر لحماس. ويضيف نتنياهو فيما يتعلق ببقاء سيطرة الاحتلال على غزة: "هناك شرط آخر أضعه لليوم التالي، بأن "جيش الدفاع" سيتمتع بحرية كاملة للتصرف في قطاع غزة في مواجهة كل تهديد، فقط بهذه الطريقة سنضمن نزع السلاح من غزة".
على الرغم من أنّ هناك معارضة أميركية لهذه المواقف "الإسرائيلية"، وتأكيدًا أميركيا على وجود "قيادة فلسطينية واتحاد لغزة مع الضفة الغربية تحت قيادة السلطة الفلسطينية"، فإنّ هناك غموضًا في هذه المواقف، فقد أشار بلينكن إلى الحاجة إلى "فترة انتقالية ما" في نهاية الحرب، وأنّ دولة الاحتلال ستتولى لفترة غير محددة المسؤولية الأمنية الشاملة في غزة.
تحمل هذه العبارات درجة كبيرة من الغموض والمناورة، فهي تستبطن بداخلها إمكانيات كثيرة، من أهمها بقاء الاحتلال الإسرائيلي للقطاع، خاصة أنها تقول "لفترة غير محدودة"، كما أنّ فكرة المرحلة الانتقالية تعني مرحلة إعداد نظام لإدارة غزة لا تستبعد منه أيا من الخيارات المطروحة، على أيّة حال لا يبدو أن هناك اختلافًا كبيرًا في وجهات النظر بين دولة الاحتلال والولايات المتحدة فيما يتعلق بمستقبل قطاع غزة.
بدا واضحًا منذ البداية أنّ كل البدائل المطروحة غير قابلة للتطبيق، حسب ما أوضح ميلشتاين قبل أن يبدأ طرح هذه البدائل.
غير أنّ التناول الكثيف للمخططات الإسرائيلية والأميركية خلال أيام الحرب يثير علامات استفهام كبيرة، فهناك عوائق كثيرة أمام تنفيذ أيّ من هذه البدائل، ومن أهمها:
أمام هذه المعيقات الصعبة جدا، يبدو أن الحديث عن مرحلة ما بعد حماس أو "اليوم التالي" هو حديث بعيد عن الواقع، وغير مؤكد الحدوث إن لم يحدث ما هو عكسه تماما، وقد قال "نتنياهو" في ضوء ذلك: "لن نتحدث عن مستقبل غزة إلّا بعد القضاء على حماس".
تثبت الخبرة الطويلة والتجربة مع الاحتلال الإسرائيلي أنّ سياسته الدائمة هي طرح الخطط والرؤى وإشغال الجميع بنقاشها، بينما ينشغل هو في تشكيل الواقع على الأرض.
فمنذ اتفاقية أوسلو عام 1993 طرح الاحتلال عشرات الخطط والمبادرات، وأعلن التزامه بحل الدولتين، ووقع اتفاقيات وخاض مفاوضات متعددة، ثم أوقف التفاوض وبدأ بطرح مبادرات جديدة، مثل السلام الاقتصادي لنتنياهو، ومخطط ضم الضفة الغربية و"صفقة القرن"، وتقليص الصراع لرئيس الوزراء الأسبق نفتالي بينيت، وخطة الحسم للوزير المستوطن بتسلئيل سموتريتش.
وبينما كان الجميع منشغلا بهذه المخططات والمقترحات، كان الاحتلال يفرض وقائع على الأرض ويعيد تشكيل الأمر الواقع بما يحقق غاياته النهائية المتعلقة بالاستيطان والتهجير بالضفة الغربية.
لا يختلف الواقع الحالي في قطاع غزة، فبينما تُشغل جميع الأطراف في مسألة ما بعد الحرب، يفرض الاحتلال وقائع على الأرض، فالتضارب وعدم الوضوح لدى الاحتلال في مستقبل قطاع غزة لا يتعلق فقط بأنه ليست لديه أهداف قابلة للتنفيذ، وإنما هي سياسة خلق الوقائع من خلال الميدان حتى لا تتعرض لانتقادات تعيق تنفيذ أهدافه.
فعلى سبيل المثال، في بنية السردية الصهيونية حول أحداث النكبة عام 1948، تبرر دولة الاحتلال سبب تهجير الفلسطينيين بأنه جاء بناء على طلب القيادات العربية من الفلسطينيين الخروج من أراضيهم، وأنها لم تكن لديها خطة أو سياسة للتهجير.
الملاحظ الآن أنّ الاحتلال يركز جل مجهوده العسكري على شمال قطاع غزة، ولكن هذا المجهود يضمن تدمير كل مقومات الحياة فيه من بنى تحتية ومستشفيات ومحطات ومنازل وعمارات سكنية وغيرها الكثير، كما أنّه يفرض عليه حصارا قاتلا يضاعفه بارتكاب المجازر الإجرامية.
وفي هذه الظروف ليس أمام الناس سوى النزوح جنوبًا أو انتظار الموت جوعًا وعطشًا وقصفًا، ومن المعروف أنّ الاحتلال سينتقل لتنفيذ غزوه البري للجنوب قريبًا، ما يعني أنه سيمارس نفس السياسات هناك.
وقد بدأ جيش الاحتلال بإلقاء منشورات على مناطق في شمال القطاع، تدعوهم إلى النزوح جنوبًا، والمخطط النهائي هو التهجير.
بطبيعة الحال، ترفض مصر خيار التهجير إلى سيناء رفضًا قاطعًا، ولكن قد لا يحدث التهجير بالصورة المتوقعة، وإنما كما طالب "سموتريتش" بـ"هجرة طوعية" إلى دول العالم.
ومصطلح الهجرة الطوعية هو مجرد تلاعب بالألفاظ، فبعد تدمير كل مقومات الحياة في غزة وحرمان الناس من أبسط حقوقهم لن يكون أمامهم سوى الفرار من هذا الواقع إلى مكان آخر.
وقع الاحتلال في مأزق فيما يتعلق بطريقة التعامل مع قطاع غزة، ومع أنّ حل هذا المأزق بسيط جدًا، وهو تقديم تنازل لتلبية الحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية بإقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة على حدود 1967.
إلّا أنّ الاحتلال تجاهل تمامًا هذا الحل، وأمات إمكانية تحقيقه، والآن تبحث له الولايات المتحدة عن مخرج من مأزقه وقلة خياراته في التعامل مع قطاع غزة.
ومن الواضح أنّ الضفة الغربية خارج كل هذه الحسابات حاليًا، مع أنّ مأزق الاحتلال لا ينحصر في غزة، وإنّما يشمل الضفة الغربية بما فيها القدس أيضًا.
وفي ظل الانشغال بمناقشة المخططات والأطروحات الأميركية والإسرائيلية لمرحلة ما بعد الحرب، ينشغل الاحتلال برسم مستقبل غزة والضفة الغربية من خلال العمل على الأرض وتهيئة ظروف التهجير، تحت مسمى "الهجرة الطوعية"، بـ"كي وعي" الشعب الفلسطيني وإرهابه ودفعه للتسليم لآلة القتل والدمار الصهيونية، ليكون متقبلا لفكرة الرحيل عن أرضه التي لم تعد صالحة للحياة.
مع ذلك، ليس من الضروري أن ينجح الاحتلال في مسعاه هذا أيضا، فالمعيقات التي واجهت كل البدائل التي طرحت سابقًا، بما فيها التهجير، تواجه هذا الخيار غير المعلن أيضًا، فكل شيء مرهون بنتائج الحرب ومدى قدرة دولة الاحتلال على المغامرة بدفع الجبهات الأخرى والدول العربية إلى خط المواجهة. ولكن ذلك يستدعي الوقوف في وجه هذا المخطط أيضًا، واتخاذ إجراءات لوقف القتل والتدمير الممنهج الهادف إلى إبادة الفلسطينيين وتهجيرهم.