انتقل إلى رحمة الله الأديب والمؤرخ والسجين السياسي, لعدة مرات, عبد الرحمن سيف اسماعيل، . . .هذا الرجل الذي يخجلك بتواضعه ودماثة خلقه، لكنه يخجلك أكثر بغزارة أفكاره وعمق رؤاه وصدق أقواله ورشاقة قلمه الذي خط به عشرات المقالات والدراسات والمؤلفات والقصائد والأبحاث التاريخية والتحليلية والسياسية.
عبد الرحمن لا يتكلم كثيرا بل إنه لا يتكلم إلا مع من يعرفهم عن كثب ويتعامل معهم بصدق ويقترب منهم بثقة، أما إذا قابلته في الطريق وأنت لا تعرفه أو حتى التقيته في مجلس أو صادفته في مكان عام فلن تجده إلا قليل التكلم زاهدا في الحديث مطيلا للصمت، لكنه صمت الفلاسفة وسكينة المفكرين وزهد المبدعين.
لم يعمر عبد الرحمن طويلا فلقد توفى عما يقارب تسعة وخمسين عاما عاش منها حوالي عشر سنوات يصارع المرض الذي كان يمكن علاجه في أي دولة تحترم الإنسان وتقدر حقوقه، لو أن عبد الرحمن كان مواطنا فيها لكن سوء حظ عبد الرحمن أنه مواطن في اليمن التي ليس للمواطنة فيها أي قيمة، وليس للمواطن فيها أي حقوق، لأن الحالة المرضية لدى عبدالرحمن ليست مستعصية، فضعف عضلة القلب يعتبر اليوم من أسهل الحالات المرضية علاجا، في الدول التي تعتبر الإنسان فيها ثروة، هذا عندما يكون الإنسان أي مواطن عادي أما إذا كان مفكرا ومبدعا وأديبا مثل عبد الرحمن سيف فهو ثروة وطنية كبرى ينبغي وضعها تحت الرعاية الخاصة، لكن في اليمن وحينما يكون المواطن ليس شيخا قبليا ولا قائدا عسكريا ولا زعيما سياسيا (من أنصار السلطة) ولا من الدعاة الدينيين ممن يحرضون على العنف ويصدرون الفتاوي الداعية إلى طاعة ولي الأمر وقتل من يخالفونه الرأي، بل أديبا وكاتبا وصاحب فكرة فإن عليه أن يموت حتى ولو كان مرضه من تلك المقدور على علاجها كحالة عبد الرحمن سيف اسماعيل.
التقيت عبد الرحمن مرات عديدة، مرة جاء ليهدي لي أحد كتاباته، وأخرى لنتشاور في قضايا أدبية وفكرية، وثالثة كنا نتحدث عن معاناته مع المرض وعجزه عن مواجهة هذا الغول الذي يفترسه بصمت، ورابعة وخامسة وسادسة، . . .وفي كل مرة كنت أكتشف أنني أتعامل مع رجل من النوع المتميز والاستثنائي، فهو بقدر ما يتمسك بالسكون والتواضع بقدر ما تكبر داخله شخصية الكاتب والمؤرخ والمفكر المبدع.
كان عبد الرحمن سيف اسماعيل قد زار سجون السلطة أكثر من مرة سواء عن طريق الاعتقال المباشر وإقرار معتقليه بمكان اعتقاله أو من خلال الاختطاف والإخفاء القسري والتنكر لوجوده معتقلا بل وإعلان نبأ وفاته وتأبينه من قبل رفاقه ومحبيه أكثر من مرة، ليس هذا هو الغريب في بلد كاليمن يكون القمع فيها هو القاعدة والحرية هي الاستثناء، لكن الغرابة تكمن في ذلك الكم من الطيبة والنبل والتسامح التي تلمسها في هذا الإنسان رغم ما عانى من قمع أخيه الإنسان ورغم ما كابد على أيدي قادة أجهزة يفترض أنهم وجدوا في مواقعهم لحماية الإنسان وصون كرامته لا للتنكيل به والحط من أدميته، وتتساءل لماذا كان عليه أن يظل ضيفا دائما على سجون النظام، وبالأحرى لماذا هذا النظام لا يقمع قادته ولا يطاردون إلا اصحاب السجايا الأخلاقية الرفيعة ولا يعشق جلادوه إلا التلذذ بتعذيب الأدباء والمبدعين المحترمين من أبناء هذا البلد؟
لم أقابل قط عبد الرحمن دون أن يكون مسبوقا بابتسامته الرائعة الدالة على ما بداخل الرجل من نبل السجايا وسمو المشاعر وعندما كان اعتلال القلب يفترسه كان يشرح لك معاناته وهو يبتسم وكأنه يشرح لك حادثة مضحكة أو قصة طريفة، كانت ابتسامته هي عنوان قدومه وبشارة ما سيأتي به حتى وإن كان ما سيأتي به محزنا.
كانت آخر مرة أقابله فيها هي نهاية العام 2010م وقد عرض علي مجموعة من الأوراق قال أنه طرحها في مكتب الوزير عبد القادر هلال (وزير الإدارة المحلية التي يعمل فيها الفقيد) لغرض الحصول على مساعدة للعلاج لكنه قال لي بأنه لم يتلق ردا حتى تلك اللحظة.
لا أخفي أنني تحمست للقيام بشيء من أجله مع وزير الإدارة المحلية، لكن لا أخفي أيضا أنني أخفقت في القيام بشيء يستحق الذكر، فقد جاءت أحداث الثورة وأربكت مختلف الأولويات وصارت مقابلة أي وزير أصعب من العثور على خاتم سليمان، ولا أعلم بعدها ماذا حل بأوراق عبد الرحمن، لكن المؤكد أن الألم كان قد استفحل بالرجل وتمكن منه، ولم يعد هناك من القول ما يفيد بعد أن غادر الرجل هذا العالم الفاني لتبقى سجاياه الحميدة وإبداعاته الرائعة وقيمه الجميلة وأفكاره الخلاقة والمبادئ التي آمن بها حية في وجدان رفاقه وزملاء مسيرته، ويبقى الرجل حيا خالدا بذكراه الجميلة وسمعته الحسنة وسيرته المعطرة بالنزاهة والصدق والأمانة وتواضع المناضلين وكبرياء الشرفاء المخلصين وصمت الفلاسفة وبتسامة المتفائلين.
رحم الله الفقيد عبد الرحمن سيف اسماعيل وتغمده بواسع رحمته وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان و "إنا لله وإنا إليه راجعون"
خاطرة شعرية:
رفيقي أنت مـــئذنتي وحبري وقلبك شمـعتي وأنا الكتابُ
أحبُّك والجراح تـــعضُّ روحي وفي كبدي وفي رئتي انتحابُ
ولو أنِّي استطعت أهاب حتَّى أهاب الـــموت لكن لا أهابُ
رفيـــقي إنَّ لي صبراً جميلاً وآتٍ كــــــــلُّه عجبٌ عجابُ