في سياق حديثه عن الفيدرالية وردا على سؤال مذيع الفضائية اليمنية يتحدث القائد الناصري الأستاذ عبد الملك المخلافي عن ثلاثة أنواع من الفيدرالية: الفيدرالية التركيبية، وقال إنها تتمثل في اندماج دولتين أو أكثر في دولة اتحادية، والفيدرالية التنظيمية وهي تتمثل في إعادة تنظيم الدولة إداريا على اساس محافظات أو ولايات، والفيدرالية التفكيكية وقال إنها تتمثل في الفيدرالية بإقليمين.
وبما إن الأخ المخلافي كان يتحدث عن مخرجات الحوار الوطني، وبما إن البرنامج اسمه "ما بعد الحوار" فإن مفهوم الفيدرالية التنظيمية، سيعني الفيدرالية بستة أقاليم، خصوصا وإن الأخ المخلافي كان من قرأ بيان وثيقة الضمانات التي قيل أنها "ضمانات الحل العادل للقضية الجنوبية"، والتي شددت على خيار الأقاليم الستة، فإن الأخ المخلافي بهذا يمكن أن يكون العراب الرئيسي للفيدرالية التنظيمية "فيدرالية الأقاليم الستة".
يبدو أن بحث المخلافي للحصول على الدكتوراه (الدرجة العليمة التي لم نعلم بها إلا من مذيع الفضائية اليمنية) لم يعلمه أن يميز بين الأشياء بما تحتويه من فوارق جوهرية تجعل الشي يختلف عن نقيضه وإنه لا يمكن الجمع بين النقيضين أو أن يكون الشيء ونقيضه يحملان نفس الاسم، أو بعبارة أخرى أن لا يكون الشيء مرة هو نفسه ومرة أخرى هو نقيضه.
مضت سنوات منذ أن تعرفت على الأخ عبد الملك المخلافي وغالبا بعد استقراراي في صنعاء في العام 2003م وقد عرفت فيه متحدثا لبقا ومحاورا بارعا لكنه من ذلك النوع الذي يضع الهدف حيثما تقع رصاصة الزعيم، فطوال فترة حكم علي عبد الله صالح ظل الأخ عبد الملك وآخرين من قادة المعارضة يمثلون الأداوات التي يسلطها "الزعيم الرمز" على أحزاب المعارضة سواء جاءت هذه الأداوات على شكل وساطة أو على شكل الموقف الناقد لمواقف المعارضة، أو على شكل نصيحة تخرج من مطابخ الرئاسة، ويبدو أن الأخ عبد الملك يكرر نفس الوظيفة مع الأخ عبد ربه منصور هادي، ناسيا أن زمن مدح الزعيم ومغازلة أهواءه قد ولى وأن أي تصرف من هذا النوع إنما يقدم صاحبه لا على إنه سياسي محترم بل مجرد موظف تلميع لأدوات القائد، فعبد الملك للأسف ما يزال يتصرف كالطباخ الذي يعرف نوع الوجبة التي تعجب ذوق سيده فيسبقه في تقديمها له قبل أن يطلبها منه.
أعود إلى حكاية التفكيكية والتنظيمية: فالسيد المخلافي يقدم للناس كلاما وكأنه يحتوي شيئا من العلمية بقوله أن الفيدرالية بستة أقاليم هي فيدرالية تنظيمية، وظيفتها فقط تنظيم الإدارة وليست لوضع الحدود بين الأقاليم، ويمكن لأي إقليم أن يندمج مع أي إقليم آخر إن رأى ذلك.
وإذ يبخل علينا بأي توضيح لتفاصيل النوعين الآخرين من الفيدرالية سوى بالقول إن الفيدرالية بإقليمين هي فيدرالية تفكيكية فإن لم يقل لنا كيف تكون إحداهما تجميعية والأخرى تفكيكية، ولم يقل لنا كيف تكون الفيدرالية بإقليمين تفكيكية بينما الفيدرالية بستة أقاليم تنظيمية ؟
ومع التحفظ على هذه الثنائية العقيمة، (التفكيكية والتنظيمية) فإن ما يمكن أن نقوله للصديق المخلافي إنه لو المسألة هي تفكيك فإن الفيدرالية السداسية هي أكثر تفكيكا من الفيدرالية الثنائية، لأنها ستكون تفكيكا على ستة، بينما الثنائية (إن صح إنها تفكيكية ) ستكون تفكيكا على اثنين، لكنه العقم الذي لا يرى في الأشياء إلا ما يرى السلطان، وما عداه هو الباطل الزهوق، أما الفيدرالية سواء كانت ثنائية أو ثلاثية أو رباعية، فإنها شكل راق من أشكال نظام الحكم يتم فيها توزيع السلطات بين المركز والأقاليم على النحو الذي يسمح ببناء هوية وطنية واحدة ولا يلغي حق الأقاليم في التمايز والتباري والإبداع والتنافس الخلاق.
وفي اليمن حيث جرى الاتحاد (الاندماجي الفاشل) في العام 1990م بين دولتين معروفتين أخفقتا في تحقيق الاندماج الوطني، ونشبت بينهما حرب عرف نتائجها القاصي والداني فإن المطلوب اليوم هو معالجة نتائج هذه الحرب ورد الاعتبار للطرف الذي جرى سحقه وقهره وتدمير كيانه في هذه الحرب وليس تنظيم عملية الإدارة التي إذا ما أتت فلن تكون إلا جزءا من المعالجة الشاملة للقضية، وأقل ما يمكن تقديمه للجنوب (الشريك الآخر في المشروع الوحدوي الموءود) هو منحه حق الدخول في الدولة اليمنية الاتحادية الجديدة كإقليم متكامل واحد وليس تقسيمه إلى إقليمين بالعودة إلى مشروع المحميات (الشرقية والغربية) الذي مات وشبع موتا بثورة 14 أوكتوبر وقيام جمهورية اليمن الديمقراطية في الثلاثين من نوفميبر 1967م ويرغب البعض إعادة بث الحياة فيه من خلال تقسيم الجنوب إلى إقليمين شرقي وغربي.
ولعلم (الزميل المخلافي) إذا كان قد قدم أطروحته للدكتوراه في العلوم السياسية إن مفردة فيدرالية (وهي الصيغة العربية للمفردة اللاتينية Federation) هي الترجمة اللاتينية لمفردة "اتحاد" أو اتحادي، وعادة توجد في العالم آلاف الاتحادات النقابية والمهنية والتعاونية والسياسية، وهي جميعها عبارة عن انخراط طوعي لمجموعة من البنى أو التنظيمات، أو المؤسسات، أو الجمعيات أو النقابات في كيان اتحادي، يجمع بين انخراط الأعضاء في العمل من أجل الأهداف المشتركة التي هي في الغالب جوهر نشاط المجموعة المنخرطة في هذا الاتحاد، مع الاحتفاظ الجزئي بالهيئات والبنى الداخلية لكل من الأعضاء المنخرطة.
ولأن موضوعنا هنا هو الفيدرالية السياسية فإننا سنكتفي بالإشارة إلى ما جاء على لسان الكاتب جيمس برايس صاحب الباع الأطول في التنظير للفيدرالية إذ يشير إلى شرطين رئيسيين لتشكل الدولة الفدرالية أولهما وجود عدة دول "وثيقة الارتباط ببعضها محليا وتاريخيا وعرقيا أو ما شابه يجعلها قادرة على ان تحمل- في نظر سكانها- هوية وطنية مشتركة". والشرط الثاني هو "الرغبة الوطنية في الوحدة الوطنية " ولم يشر أحد من كل الذين كتبوا عن الفيدرالية إلى فيدرالية تفكيكية، إذ كيف يكون الاتحاد تفكيكي أيها الزميل العزيز؟؟
في اليمن هناك ظاهرة المثقفين الكسالى، الذين يرغبون من ناحية بالتظاهر بالمعرفة والقدرة على الأتيان بأفكار جديدة، لكنهم لا يكلفون أنفسهم عناء القراءة والبحث والتمحيص والمقارنة والمفاضلة ووضع الاستنتاجات في ضوء عمل طويل ومدقق ومعلل علميا، بل يفضلون اختصار الطريق من خلال المجيء بمفردات براقة في شكلها لكنها فارغة المضمون، أو حتى متناقضة في داخلها مثل القول بـ"الفيدرالية التفكيكية"، وبهذا يتخلصون من عناء الدراسة والتعب والتحليل والغوص في بحر المعلومات المترامي الأطراف، من ناحية ومن ناحية أخرى يوهمون سامعيهم أو قراءهم بأنهم يقولون شيئا جديدا ذا قيمة معرفية حقة بينما هم لا يقولون إلا ترهات لا معنى لها ولا مضمون، لان الأمر أما إن يكون اتحادا، والاتحاد (الذي هو الفيدرالية) هو دائما صيغة تجميع أكثر من طرف في كيان واحد وأما أن يكون تفكيكا وبالتالي يفقد صفة الاتحاد (الذي هو الفيدرالية)، أما إن يجتمع التفكيك والاتحاد في عبارة واحدة فهذا أمر لا يختلف عن مقولة "الشمس السوداء" أو "الجمرة الجليدية" أو "بيضة الذئب" أو "لبن العصفور" وهو ما يظهر لأول مرة عند الأخ عبد الملك المخلافي.
أعرف أن الكثير من الناصريين اليمنيين سيشعرون بالعار وهم يسمعون زعيمهم السابق، وممثلهم في مجلس الشورى اليمني يتحدث بهذه الهراءات الفارغة وأشفق عليهم وهم يعضون على شفائفهم كتما لغضبهم من هكذا زعماء لكنني أعرف أن الكثير من شرفاء الناصريين في اليمن سيصارحون عبد الملك بأنه يهذي كثيرا بما لا معنى له وأنه بهذا ينفر من صفوف الناصري العشرات وربما المئات ممن ظلوا يراهنون على دور محترم لتنظيمهم في مؤتمر الحوار.
ولكي لا أطيل كثيرا سأعود إلى التأكيد إلى أن موضوع الأقاليم جاء في سياق التصورات التي قدمت لحل القضية الجنوبية وليس لإعادة تنظيم شكل الدولة، ولأن أصحاب الشأن والمعنيين بالقضية الجنوبية هم المواطنون الجنوبيون فإنهم وحدهم أصحاب الحق في اختيار الحل المناسب لقضيتهم، لكن القوى السياسية تستطيع أن تقارب مزاج الشارع الجنوبي يتقديم عدد من الحلول والخيارات القريبة من مطالبه وليس بالقول له أن مطالبه هي انفصالية أو تفكيكية وإلا ما الفرق إذن بين علي عبد الله صالح وبين عبد الملك المخلافي؟
أرجو أن لا يقول لي أحد أن هذا الهذيان يأتي بسبب ولع الناصريين بالوحدة؟ فكل أنصار التقدم والتنمية والنهوض والحرية هم أنصار للوحدة، لكن الوحدة القائمة على العدل والتقدم والمواطنة المتساوية والكرامة الإنسانية، وليست وحدة السلب والنهب والضم والإلحاق والإقصاء والتهميش، ولن يستطيع لا عبد الملك المخلافي ولا غيره أن يكون أكثر وحدوية من قائد الأمة العربية جمال عبد الناصر، لكنه (أي عبد الناصر) تخلى عن الوحدة مع سوريا عندما وجد أنها قد تحولت إلى بذرة عداء وكراهية بين الشعبين (المصري والسوري).
أقول هذا مؤكدا التقدير العالي للعديد من مناضلي الحركة الناصرية في اليمن، وأخص هنا زملاءً جمعتني بهم جبهات عمل مشترك نستطيع أن نفاخر به كالزملاء سلطان العتواني ومحمد الصبري وعلي اليزيدي وحاتم أبو حاتم، ود عبده غالب العديني ود عبد الله دحان ود محمد العسلي ومحمود امذيب ومحسن المنصب، وغيرهم ممن لم يسعفني الحيز لذكر أسماءهم.
ولله في خلقه شؤون
برقية شعرية:
* يقول فيلسوف اليمن وشاعرها المرحوم الأستاذ عبد الله البردوني:
ما أصدق السيف! إن لم ينضه الكذبُ وأكذب السيف إن لم يصدق الغضبُ
بيض الصــــــفائح أهدى حين تحملها أيدٍ إذا غلـــبت يعــــــلو بها الــــغلبُ
وأقــبح الـنصر نصر الأقـــــوياء بلا فهمٍ سوى فهم كم باعوا وكم كسبوا
أدهــى من الجــهل عـلمٌ يطــمئنُّ إلى أنصاف ناسٍ طغوا بالعلم واغتصبوا
قالوا: هم البــشر الأرقــى وما أكلوا شيـــــئا كما أكلوا الإنسان أو شربوا