قبل أن أبدأ رسالتي هذه إلى الأستاذ محمد سالم با سندوه رئيس مجلس الوزراء أشير هنا إلى أن علاقة ود وعمل مشترك تربطني بالأستاذ العزيز رئيس الوزراء علاقة أساسها الاحترام والعمل المشترك الذي خضناه معا على مدى أكثر من سنتين، منذ انعقاد ملتقى التشاور الوطني الذي أسفر عن انتخاب لجنة الحوار الوطني برئاسة الأستاذ باسندوه، كما إنني أقدر التاريخ الوطني المجيد لشخصية نضالية تاريخية شقت طريق النضال الوطني النقابي والسياسي والعمل المسلح ضد الاستعمار منذ أواخر الخمسينات من القرن الماضي، لكن كل هذا لا يعفيني من الحديث بصراحة مع الأستاذ الكريم عندما يتعلق الأمر بأداء الحكومة ومتسوى القيام بمهماتها، لأن الشان العام (وعمل الحكومة هو شأن عام) لا علاقة له بالمواقف الشخصية وعلاقة الود أو الخصام، وعندما نتناول عمل الحكومة التي يرأسها الأستاذ با سندوه فإن الكثر من المشاعر المختلطة تنتابنا نحن المحبين لباسندوه بشخصه وللعديد من وزرائه.
أوردت هذه المقدمة لأنني وبعد مقالة سابقة لي طالبت فيها بتشكيل حكومة تكنوقراطية، غير حزبية تلقيت سيلا من رسائل العتاب معظمها من أناس عزيزين يعرفون مدى الاحترام الي نكنه للأستاذ با سندوه، واعتقد البعض أن ما كتبته يمثل موقفا شخصيا من الأستاذ با سندوه ووزرائه رغم أنني كنت قد أوردت الكثير من الأسباب لهذه الدعوة وأذكر بها هنا بإيجاز، وهي: انتهاء الفترة الانتقالية في 21 فبراير2014م، وبدء فترة جديدة يمكن الاتفاق على تسميتها لكنها تنهي فترة حكومة الوفاق وتنقل القضية إلى مساق آخر خصوصا بعد انتهاء أعمال مؤتمر الحوار الذي قد لا نتقف مع بعض نتائجه، لكنه أنهى مرحلة تاريخية ووضع الأساس لمرحلة جديدة، كما أشرنا في سياق المقالة المذكورة إلى فشل كبير شهدته معظم الوزارات لا يمكن اتهام رئيس الوزراء بأنه السبب فيها، لكن هذا الفشل الذي يعود سببه إلى طبيعة تشكيل الحكومة وتناقض الأجندات التي يعمل بها كل وزير (أو كل فريق من الوزراء) لا يعفي رئيس الوزراء من المسئولية المباشرة عن كل هذا الفشل الذي تعيشه اليمن في معظم مجالات الحياة.
عندما صعد الأستاذ با سندوه رئيسا للوزراء كان مؤشر سمعته السياسية مرتفعا وينظر إلى اسمه بإعجاب خصوصا من قبل الطيف الواسع من المواطنين المؤيدين للثورة الشبابية السلمية، وهذا ينطبق على الكثير من الوزراء المحسوبين على أحزاب اللقاء المشترك وشركائه، لكن أي استقراء للرأي العام اليوم سيبين نتائج معاكسة لسمعة الكثير من هؤلاء عند يوم توليهم الوزارة، ذلك أن البيئة التي يعمل فيها هؤلاء هي بيئة غير إبداعية وغير ملائمة للابتكار والتفوق بل وغير ملائمة للقيام بالمهمات التقليدية للوزير فما بالنا ببلد يعيش وضعا استثنائيا منذ أكثر من أربع سنوات، منذ اختراع نظرية قلع العداد.
اليمن تتدحرج اليوم نحو الانهيار وإذا كان علي عبد الله صالح ونظامه قد عجزا عن إيصال اليمن إلى الدولة الفاشلة فإن الوصول إلى ذلك قد يتحقق في ظل حكومة الوفاق، ولا أدري على ماذا يتسابق الإخوة في الأحزاب الحاكمة، عندما يلهثون وراء المواقع الحكومية ويتضح أن الفشل هو المخرج الوحيد الذي يصل إليه من تم إيصالهم إلى مواقع مهمة لا علاقة لتخصصاتهم بها.
ليس أمام اليمنيين إلا خيارين لا ثالث لهما: إما حكومة تكنوقراط (غير حزبية) مدعومة من قبل كل القوى السياسية تتولى تنفيذ مخرجات الحوار الوطني والتهيئة للاستفتاء على الدستور الجديد والانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة، وعلى وجه السرعة، وإما تكليف حزب واحد بتولي تشكيل الحكومة وسيكون على بقية الأحزاب مساندة هذه الحكومة ومواصلة الرقابة عليها للقيام بالمهمام القادمة دون التدخل في قضايا الانتخابات والاستفتاء، التي ستكون من مهمة هيئة مستقلة غير تلك التي شكلها علي عبد الله صالح لتولي مهمة قلع العداد بعد أن سقطت هذه المهمة والى الأبد ودون التخلي عن مبدأ النقد الهادف والبناء للممارسة الحكومية بطبيعة الحال.
وبقي علي أن أسجل هنا ملاحظة طالما وددت الإشارة إليها وهي أن معظم الذين ينتقدون الاستاذ با سندوه لا يذكرون اسمه إلا مقترنا بالبكاء، الذي هو واحد من الأفعال الغريزية لدى كل البشر، وفي تصوري أن هؤلاء يتناولون أهم الخصال النبيلة في الأستاذ با سندوه، إذ إن البكاء ليس عيبا أخلاقيا ولا علاقة لها بأداء الوظيفة العامة، ولم يشترط الذين اختاروا با سندوه رئيسا للوزراء، لم يشترطوا عليه أن لا يبكي، وفي نظري أن الكائنات المتوحشة، وأصحاب العقليات الهمجية وحدهم من لا يبكون، أما البكا فحسب علم النفس إنما يعبر عن رقة المشاعر وشدة حساسية التأثر بالمواقف المؤلمة (وأحيانا المبهجة) والذين ينتقدون باسندوه لأنه يبكي إنما ينتقدون أنبل وأصدق ما فيه.
مرة أخرى بقاء حكومة الوفاق الوطني لن يمنح أعضاءها ورئيسها إلا المزيد من اللعنات والرفض وقد يضطرون غدا إلى ترك مواقعهم بالإكراه بدلا من التخلي عنها اليوم طوعا، وتمكين الرئيس من تشكليل حكومة كفاءات وطنية غير حزبية، لكنه (اي بقاء هذه الحكومة) سيلحق بالبلد وأهلها مزيدا من الأضرار الكارثية لأن الحكومة بتركيبتها الراهنة وبطريقة تشكيلها تقوم على فلسفلة الحماية المتبادلة بين الفاسدين، وهي بذلك تدفع الناس إلى الترحم على زمان علي عبد الله صالح، الي يشارك ممثلوه بنصف الحكومة وأكثر من ثلاثة أرباع الجهاز التنفيذي والقضائي والأمني والعسكري، ويتحمل با سندوه كل أوزار الفاسدين من وزراء صالح ومن وزراء المشترك على السواء.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
برقيات:
* ما أقدمت عليه السلطات الأمنية في محافظة عدن من إيقاف صدور صحيفة "عدن الغد" الورقية يؤكد أن شيئا لم يتغير في الجنوب وإن عقلية تكميم الأفواه ومحاربة أنصار الحقيقة ما تزال كما كانت منذ 1994م، وإن الذي تغير ليس السياسات بل الأفراد أو كما يقول الإخوة في صنعاء أن "عز الدين أبشع من أخيه".
* إطلقوا "عدن الغد" وارفعوا الحجب عنها لتبرهنوا أنكم لستم شركاء في القمع والفساد والعبث بالمال العام، وإلا فإنكم تخافون من انكشاف حقيقتكم فتنفضحون من حيث تعتقدون أنكم تستترون.
* يقول الشاعر العربي الفلسطيني محمود درويش:
خارج الطقس، أو داخل الغابة الواسعة
وطني! هل تحسّ العصافير أنّي لها
وطن ... أو سفر؟
إنّني أنتظر
في خريف الغصون القصير
أو ربيع الجذور الطويل
زمني! هل تحسّ الغزالة أنّي لها
جسد ... أو ثمر؟