بعد كل ضربة جوية أميركية تجد نفسك إزاء سيل من بيانات الشجب والتنديد, فالبرلمان في هذه البلاد يستهجن، الحكومة تستنكر، الأحزاب تشجب, أشياخ القبيلة والمذهب يجدون في فعلة الأميركيين آذانا صاغية لخطبهم الرعنة الساخطة.
ما تقوم به طائرات ماما أميركا- بلا شك- جرائم فظيعة, مروعة, منتهكة لكل القوانين والمواثيق والاعراف الوطنية والدولية والانسانية.. فمثل هذه الفظائع هي انتهاكات جسيمة لسيادة الدول ولمبادئ وقيم العدالة المجرمة قتل الآدمية على هذا المنحى الهمجي البربري المشاهد اليوم في اليمن.
وإذا كان لزاماً علينا رفض هذه العنجهية الأميركية المتدثرة رداء محاربة الإرهاب والإرهابيين؛ فإننا بالمقابل نرفض استغلال البعض لمآسي الضحايا الأبرياء الذين وقبل أن يكونوا هدفاً لصلف القوة الأميركية هم أيضا قربان لوجود جماعات إرهابية منتهكة لحياتنا وسيادتنا ونظامنا ولتعايشنا المجتمعي ووالخ.
أود أن أسمع الآن ذلكم الصخب الحاصل عقب كل ضربة، أسأل وبحيرة ودهشة: أين ذهبت وتوارت تلكم الأصوات المستنكرة المنددة الحريصة جداً على سيادة البلد؟ لماذا وكيف صامت واختفت إزاء معركة يقودها هذه المرة جيش الدولة وأمنها وليس قوات المارينز او طائرات دون طيار؟.
بلادنا باتت مأوى آمن لجماعات الارهاب العالمي، وطننا صار قبلة لفرق القتل والدمار والدم والترويع والخطف والفوضى والجهل والتخلف والارهاب العابر للحدود والمطارد في أصقاع الدنيا، ومع ما يمثله الإرهاب وجماعاته من خطر على وطننا ودولتنا واقتصادنا ومجتمعنا وتطورنا مازالت المعركة المخاضة من الجيش والامن دون المستوى المطلوب من الدعم والنصرة المعنوية والمادية والاعلامية والاخلاقية والقانونية والشعبية .
إننا إزاء تنظيم إرهابي لا يتورع لحظة عن القتل والتخريب والخطف والتدمير لكل مقدرات البلد ولاستقراره واستثماره ونهضته.. تنظيم عولمي كونته عقود من الاستبداد والقمع والفقر والجهل والحروب والاخفاقات والاحباط وسواها من الاشياء التي تم استغلالها سياسيا من الانظمة الوطنية والدولية.
نعم.. محاربة الارهاب لا يكون بالدبابة والطائرة وإنما بالفكر باعتباره السلاح الأمضى والأجدى لاستئصال شأفة الارهاب وجماعاته.
ونعم.. ما يجري الآن في أبين وشبوه والبيضاء ومأرب أعده حرباً على جماعات إرهابية خارجة عن نظام وقانون الدولة كما وأعتبرها معركة يخوضها جيش الدولة إنابة عنا جميعا كشعب وسلطة وسيادة وسكينة وتنمية ودولة واجبها يحتم عليها حماية مواطنيها وبسط سلطتها ونفوذها على كامل مجتمعها وإقليمها.
على الجيش حسم معركته الدائرة مع قوى الشر والإرهاب بكونها جماعات مسلحة خارجة متمردة مخربة محاربة للدولة ومؤسساتها وقوانينها ودستورها ووظيفتها وسلطتها وجيشها وأمنها.
فبُعيد تطهير مناطق البلاد من هذه الجماعات المتطرفة المناهضة لفكرة الدولة المدنية الحديثة، بل ولكل مفاهيم وقيم العصر؛ ستبدأ المعركة الحقيقية على الارهاب.
وعندما نقول إن محاربة الارهاب لا يكون بجيش وقوات أمن فإننا ندرك بأن هذه الحرب مازالت مؤجلة وبانتظار انهاءها كلوثة خبيثة اصابت مجتمعنا وديننا ودولتنا وتعليمنا واقتصادنا وحياتنا .
وهذه بالطبع ستكون معركتنا القادمة كمجتمع واحزاب ونخب واعلام وفقهاء وحكومة وقضاء وجامعات ومدرسة، فكل مؤسسات الدولة يجب ان تكون داعمة ومشاركة ومنظمة وفاعلة في المعركة المنتظرة والمؤجلة زمنا بسبب الاستغلال السياسي الفج والبشع لهذه الجماعات الدينية.
فضلا عن وجود أطراف سياسية ودينية وقبلية وعسكرية داعمة وحاضنة وإن لم تكن كذلك فصلتها وثيقة ومرتبطة أساسا بقناعات فكرية عقدية ترسخت لديها خلال حقبة ماضوية ومازالت أسيرة لها كما وتجعلها مؤيدة وداعمة لما اعتبرته جهاداً وتمكيناً لدولة الإسلام ولشريعته وخلافته.
هذا الارهاب لم يكن إلا صناعة سياسية ومخابراتية إبان الحرب الباردة المستعرة اوارها بين الغرب الرأسمالي والشرق الاشتراكي.. انتهت هذه الحرب بسقوط أحد القطبين وهيمنة أحدهما الذي عُدَّ لحقبة الداعم والممول والمُستغِل أيضا لجهاد الجماعات الدينية.
ما بين هذا السقوط والهيمنة نشأ وتكون الإرهاب وجماعاته العابرة للحدود برخصة رسمية وفتوى جهادية، وما ان انتهت امبراطورية الشر "الاتحاد السوفيتي" المحتل لبلد اسلامي "افغانستان" حتى بدأت حرب أخرى على تنظيم ارهابي يحسب له نقل المعركة من تخوم الدول الشيوعية الملحدة المارقة عن رأسمالية ادم سميث قبل رب السماء الى صميم المجتمعات الاسلامية.
والى روح دين الاسلام ذاته الذي لم يتعرض في تاريخه لمثل هذا التشوه والانحراف الناتج عن ارهاب وعنف الفرقة الضالة وتأويلاتها وتفسيراتها وممارساتها الخاطئة الباطلة المتزمتة الجامدة العاجزة عن مجاراة الحضارة الانسانية وفقا وادواته ووسائله.
وحين عجزت عن مجاراة العصر انكفأت على نفسها مستلهمة تراث أشياخ الحقب السالفة او اللاحقة ممن انتجت مخيلتهم مكتبات كاملة في وجوب الطاعة العمياء للحكام وفي مساءلة الضم والسربلة أو الوضوء أو البسملة أو عورة المرأة والرجل.. فيما أهملت قرونا فقه السلطة والعدل والحرية وشراكة المجتمع المسلم في الثروة والحكم وووالخ من المسائل الهامة والضرورية لنهضة وتطور وتحضر المسلمين الذين بات يستلزمهم الآن أكثر من القضاء على جماعات تكفيرية ارهابية خارجة على الدولة.
فواقع الحال يستوجبه القضاء على الأفكار الظلامية المستوطنة عقول كثير من الفئات المجتمعية التي للأسف اعدها ضحية حقبة تاريخية ومازالت حتى يومنا فريسة للأفكار المتزمتة القاتلة لروح دينها وتعايشها وتفكيرها وتقدمها ورقيها وعصرنتها.