اليوم وقد مضى على 22 مايو 24 عاما وبعد كل ما شهدته اليمن من عواصف وزلازل وما عاناه اليمنيون من آلام وما تعرضوا له من جراح وما حل بهم من كوارث وبعد كل الأحداث المؤلمة التي تلت ذلك الحدث العرائسي الاستثنائي البهيج، بعد كل هذا من الجدير بنا أن نتساءل: لماذا جرى ما جرى؟ وهل كان بإمكان اليمنيين الحؤول دون وصول اليمن إلى ما وصلت إليه من هذه الحالة المزرية على مختلف الأصعدة ؟ وبعبارة أخرى هل كان 22 مايو غلطة تاريخية أوصلت اليمنيين إلى ما وصلوا إليه من الهوان والضعف والتأخر عن اللحاق بوتيرة التطور التي سبقتهم إليها بلدان كانت تقف خلف اليمن في سلم التطور الاقتصادي والاجتماعي؟ وإذا ما كان هناك من خطأ فأين يقع هذا الخطأ؟
قبل 22 مايو 1990م كان الشعب في اليمن موحد المشاعر والإحاسيس والعواطف والتطلعات وعندما كان يتقابل يمنيان في بلاد الغربة كانا يحسان بإنهما عضوا عائلة واحدة فرقتهما الظروف في الداخل وجمعتهما في الخارج، وكان اليمنيون في أحد الشطرين يفرحون لنجاحات وأفراح إخوتهم ويتألمون لمعاناة وأتراح أشقائهم في الشطر الآخر.
قبل 22 مايو 1990 لم يكن هناك جنوبي واحد يقول أنه ليس يمنيا ناهيك عن أن يحقد على مسئول أو موظف أو مواطن شمالي، وبالمقابل لم يكن هناك في الشمال من يقول إن الشمال هو الأصل والجنوب هو الفرع، ولم يكن هناك من يعاير الجنوبيين أن من بينهم مواطنون ذوي أصول هندية أو صومالية أو إنهم منقسمون إلى زمرة وطغمة، واليوم صرنا نسمع هذا من أهم منابر السلطة ومن صحفيين ومثقفين وسياسيين شماليين بارزين.
قبل 22 مايو لم يكن هناك مواطن جنوبي واحد يشكو من سلب منزله أو اغتصاب حقه أو الاستيلاء على وظيفته أو إبعاده من عمله أو حرمانه من حقه في الترقية بسبب جنوبيته، بل لم يكن هناك مواطن يدفع دينارا واحدا أو ربطة قات (وليس مئات الآلاف) حتى يحصل على وظيفة لا ينال عائداتها إلا بعد التنازل عن مستحقات عدة أشهر.
في أواخر الثمانينات من القرن الماضي كان الجنوب على أبواب الانتقال إلى اقتصاد السوق وفتح أبواب الحريات السياسية وحرية التعبير والسير باتجاه مجموعة من المصالحات التي كان يمكن أن تطوي الكثير من الملفات المؤلمة، لكن تسارع الأحداث وسوء إدارة المعطيات والمتغيرات المتواترة من قبل القيادة الجنوبية وتفضيل الذهاب إلى الوحدة الاندماجية قد حال دون تحقيق أي نتيجة مرجوة من الإصلاحات التي بدأ الحديث عنها في الجنوب مع النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي.
قال لي قيادي جنوبي كبير أن بعض دول مجلس التعاون الخليجي قد عرضت عبره على القيادة الجنوبية الالتحاق بمجلس التعاون الخليجي، واستعدادها لتقديم العون للجنوب للحاق بالمستوى المعيشي لدول المجلس، لالكن القيادة فضلت الذهاب إلى الوحدة الاندماجية غير المحسوبة وغير المدروسة مع الجمهورية العربية اليمنية، وهنا سيكون من حق المواطنين الجنوبيين اليوم أن يتساءلوا عن المغريات والدوافع والحوافز والأسباب التي دفعت القيادة السياسية إلى تفضيل الوحدة الاندماجية على أي خيار تنسيقي آخر كالخيار الكونفدرالي الذي تقدم به وفد الشمال في مباحثات نوفمبر 1989م أو حتى الخيار الفيدرالي ناهيك عن خيار البحث في مقترح مجلس التعاون في الالتحاق بعضويته.
لقد خسر الجنوب كل شي بفعل الوحدة الاندماجية ومع ذلك لا يمكن القول أن الشمال (كوطن وشعب ومواطنين) قد كسب الكثير من الوحدة الاندماجية المستعجلة، حتى بعد الحرب التي حسمت لصالح الجيش الشمالي وحلفائه، وحتى بعد الاكتشافات المتواصلة للثروات النفطية والمعدنية في الجنوب، باستثناء بعض المشاريع الخدمية والحصول على فرص عمل خففت من البطالة المتنامية، ذلك لأن كل غنائم الحرب ونتائج عمليات النهب والسلب والعمليات الاستثمارية (المشروع منها وغير المشروعة) قد ذهبت إلى أيدي حفنة ضيقة من المتنفعين والطفيليين وبقي المواطنون في وضع لا يختلف عن تلك العجوز التي ظلت تتضرع إلى الله أن يرزق الشيخ ليتمكن أولادها من العمل لديه بالأجرة.
لا يمكن تخيل السيناريوهات التي كان يمكن أن تسير إليها اليمن لو لم تتم اتفاقية نوفمبر 1989م وإعلان مايو 1990م لكن الأمر المؤكد الوحيد أنه لو لم يتم ذلك لما قامت حرب 1994م البغيضة وكل ما ترتب عليها من تداعيات مأساوية دمرت كل الأحلام والتطلعات الوطنية، ويمكننا بعد ذلك تخيل عشرات السيناريوهات لسير الأمور في الشطرين لو لم تقم الحرب بفعل عدم حصول ماحصل في مايو 1990م، نقول هذا استرجاعا للعبرة وأخذا للعظة وإقرارا لحقيقة مرة لا يريد بعض السياسيين الإقرار بها وهي إن المشروع الوحدوي قد فشل وإن حلم الوحدة قد غدا كابوسا مرعبا على الأقل بالنسبة للجنوب والجنوبيين، وأن من يدعون الدفاع عن الوحدة إنما يدافعون عن الغنائم والمنهوبات التي حققوها بعد العام 1994م.
سيقول الكثيرون إن ما أشير إليه من مأسي وجراح وألام وعواصف وزلازل لا ذنب لـ 22 مايو فيها لكن مايو ليس فقط قيمة زمنية بل إنه سياسات ومواقف وأحداث وأفعال صنعها بشر لهم نزعات وأطماع ومصالح وميول ورغبات، وهؤلاء قد فشلوا في أن يحولوا الحدث العظيم والجميل إلى رافعة يرتقي اليمنيون من خلالها إلى مراتب الرفاهية والأمان والازدهار والحرية والانعتاق من الفاقة والفقر والبطالة والجهل والأوبئة والحروب والانقسامات والدماء، وبالتالي فإن الحدث الذي يفشل في تحقيق الأحلام المعلقة عليه يغدو حصوله أسوأ من عدم حصوله، ولا أتصور أن من يديرون البلاد اليوم يستطيعون أن يبرهنوا قدرتهم على إعادة أنوار الألق لحلم مايو بعد أن عجزوا عن توفير نور الكهرباء لعشر ساعات متواصلة في اليوم الواحد.
برقيات:
* إصرار وزير الدخلية عبده الترب على وضع علامة المساواة بين القاعدة والحراك الجنوبي والحوثيين يبين أن الرجل لم يتحرر بعد من عقدة الولاء الحزبي، وإنه لا يختلف عن أولائك الذين يدافعون عن القاعدة ويدعون إلى الحوار معها، طالما كان الطرفان الآخران (الحراك والحوثيين) من شركاء مؤتمر الحوار الوطني.
* انتقل إلى رحمة الله تعالى الشخصية الاجتماعية والوطنية المرحوم حسين راجح بن عطية في مدينة شيفيلد البريطانية بعد صراع مع المرض، وكان الفقيد يحظى بسمعة ومكانة طيبيتين بين كل من عرفوه،. . . رحمة الله تغشاه ولأهله وذويه وكل محبيه الصبر والسلوان، و"إنا لله وإنا إليه راجعون".
* يقول الشاعر العربي نزار قباني:
إذا خسرنا الحربَ لا غرابهْ
لأننا ندخُلها
بكلِّ ما يمتلكُ الشرقيُّ من مواهبِ الخطابهْ
بالعنترياتِ التي ما قتلت ذبابهْ
لأننا ندخلها بمنطقِ الطبلةِ والربابهْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* يعتذر الكاتب عن مواصلة الحلقة الرابعة من بحث "القضية الجنوبية وسؤال الهوية" على أمل مواصلة النشر في الاسبوع المقبل.