القضية الجنوبية وسؤال الهوية (6)

2014/06/07 الساعة 01:49 مساءً
  • من الواضح أن كل عملية تدمير تصاحب حروب الغزو والاحتلال، أي كانت أسبابها، سواء كانت باسم الدفاع عن الأديان أو الحفاظ على الوحدة الوطنية أو رد العدوان أو صيانة السلام وغيرها من تلك العناوين التي قد تكون نبيلة لكنها قد تخفي وراءها أغراضا لا علاقة لها بالنبل ولا بالدين ولا بالوطن  ولا بالسلام، من الواضح أن كل عملية كهذه تترك آثارا كبيرة تمس أول ما تمس مضمون هوية الطرف المهزوم لأن أهم ما تستهدفه الحروب هو شرخ وتحطيم معنوية جمهور الطرف  المهزوم وزعزعة كيانيته والذهاب باتجاه صبغ هذا الطرف بصبغة الطرف المنتصر، ومن المؤسف أن الطرف المنتصر في حرب 1994م لم يكن يحمل مشروعا أكثر حداثية ولا أكثر وطنية ولا أكثر إنسانية مما كان لدى الطرف المهزوم، بل لقد جلب الطرف المنتصر معه أسوأ موروثات التاريخ اليمني من ثقافة السلب والنهب والاستقواء وتبرير سياسات التعسف والإفتاء للقتل وإفراغ الدين الإسلامي الحنيف من الكثير من مضامينه التي تفوق بها عبر التاريخ ومن أهمها التسامح والعدل والانتصار للحق وإجارة لمظلوم وردع الظالم والتصدي للمنكرات، ومن أغرب ما تزامن مع  حرب 1994م وما تلاها أن تنامي عدد المتزمتين  دينيا الذي اقترن بزيادة عدد المساجد قد اقترن أيضا بانتشار وتفشي ظواهر السرقة والاغتصاب والسطو وجرائم القتل والاقتتال تنازعا على قطعة أرض أو بضعة آلاف الريالات أو  على شراكة (مشروعة وغالبا غير  مشروعة) وغيرها من الأسبابالتافهة، وهو ما يعني أن ما  سمي بـ(الصحوة الدينية) لم يحمل معه إلا المظاهر الشكلية للتدين وركز العمل الدعوي على المظاهر المتصلة بالشكل الخارجي للإنسان (تربية اللحى، تقصير الثياب الإكثار من التمتمات، نتف الإبطين، قص الأظافر، التناول باليمنى وغيرها)، بينما أغفلت فضائل الدين الإسلامي  الحنيف من مكارم الإخلاق التي قال الرسول الكريم (ص) إنه لم يبعث إلا ليتممها، وحيدت تماما الأبعاد الإنسانية للدين الإسلامي والتي كانت سائدة قبل الحرب مثل تحريم التمييز بين المواطنين، محاصرة  الفقر وأسبابه، تجريم السطو والسرقة والكسب  غير المشروع، إرساء العدل بين المواطنين احترام مكانة المرأة، وازدراء ثقافة التعالي  والتكبر، وتقديس التعاون والتسامح وإغاثة الملهوف.. . وفي هذا مسخ لعدد من المضامين المهمة للهوية بدءا بتغريب الإنسان عن قيمه وثقافته مرورا باستجلاب ثقافة غريبة عنه، تتركز على تكريس الأنانية والطمع والجشع وشهوة التملك (بالحق وغالبا بالباطل) وتكريس الفردية ومحاربة الروح الجماعية وما تحمله من معاني الإيثار ونكران الذات والحرص على المصالح المشتركة للجماعة وما إلى ذلك من القيم التي ترسخت خلال أكثر من عقدين ونصف من عمر دولة الجنوب المستقلة والمتوارثة منذ مئات السنين.
  • يعلم الجميع أن مدينة عدن شهدت أول تلفيزيون وأول إذاعة وأول مسرح وأول دار سينما وأول فرقة موسيقية في شبه الجزيرة العربية، كما عرفت المحافظات الجنوبية بعد الاستقلال هذه المؤسسات الثقافية مضافا إليها العديد من أدوات ومؤسسات النشاط الثقافي التي لعبت دورا كبيرا في تكريس وتنمية الحركة الثقافية والحفاظ على التراث الشعبي ونشره وتنميته لما يحفظ الهوية الثقافية والوطنية وقد جاءت الحرب لتستأصل كل هذا من جذوره، إذ لم يقتصر تدمير الهوية الثقافية على القضاء على البنية المؤسسية للمقومات الثقافية في الجنوب، وهي مؤسسات لها حضورها القوي في حياة الناس، بل لقد امتد الأمر إلى ازدراء الثقافة والفنون وتحقير العمل فيهما وتقديس العنف والتسلح وتنمية ثقافة التعالي واحتقار التواضع والتسامح مقابل تعظيم ثقافة الانتقام والثأر، وليست الخطورة هنا فقط في تفشي هذه الظواهر والمسالك السيئة ودحر واستئصال القيم الثقافية الجميلة بل إن خطورة هذا التغير العاصف تكمن في الدورلتفكيكي الذي يلعبه  في تحطيم مشاعر الانتماء إلى الوسط المجتمعي وتنمية حب الذات على حساب حب المجتمع، وتكريس المصالح الشخصية على حساب المصالح الوطنية وبالتالي تفكيك الهوية الواحدة وتفتيتها إلى هويات صغرى وفردية في الغالب الأعم.
  • لقد أدى انتشار ثقافة الغنيمة والفيد إلى الاستيلا على الكثير من المنشآت المتصلة بالنشاط الثقافي، ومن أسوأ تمظهرات نتائج تلك السياسات نهب المتاحف وتهريب محتوياتها والاتجار بها، ونهب مكتبة الإذاعة والتفيزيون وإعدام العديد من المحتويات الوثائقية والفنية والابداعية المتصلة بتاريخ الحركة الوطنية الجنوبية ومقاومة الاستعمار ومنجزات ثورة 14 أوكتوبر، تحويل متحف الشهداء في ردفان إلى مخبز لصناعة الكدم، تغيير أسماء المدارس والشوارع والمنشآت التي تخلد أحداثا تاريخية أو شهداء معروفين فمدرسة الشهيدة عائشة كرامة صار اسمها مدرسة أسماء بنت أبي بكر، ومدرسة الشهيد بن نعم صارت مدرسة عمر بن الخطاب  ومدرسة الشهيد ناصر أحمد صار اسمها مدرسة الصديق، وحي الشهيد لبوزه صار اسمه حي 7/يوليو، وشارع 30 نوفمبر صار اسمه شارع العلفي، ومعهد صلاح الدين صار اسمه معهد الثلايا ومثل ذلك آلاف وربما عشرات الآلاف من الحالات المشابهة، وقد تزامن كل هذا مع حملات تزييف منظمة للتاريخ تمثلت في تشويه مجموعة من الأحدات التاريخية الهامة المتصلة بنضال الحركة الوطنية الجنوبية، وشطب الكثير من المحطات التاريخية المهمة من كل مقررات التاريخ في المراحل الدراسية المختلفة وتقديم التاريخ الجنوبي على إنه مجموعة من الخطايا جاءت 7/ يوليو لتصويبه وإعادته إلى سواء السبيل  وقد اعتقد المنتصرون أنهم من خلال كل هذا قد شطبوا على الذاكرة الجنوبية وقضوا على كل  ما له صلة بالتاريخ الجنوبي المشرق.

برقيات:

*   لم يكن ما احتواه برنامج "الصندوق الأسود" الذي قدمته قناة الجزيرة عن العبودية في اليمن مفاجئا فالأمر معروف لكل ذي عينين، لكن ما كان مفاجئا وصادما أن وزيرة حقوق الإنسان المعروفة بمواقفها الثورية لا تعلم أن عبدا تم توثيق بيعه في محكمة الدولة وبالوثائق الرسمية وبختم المحكمة وتوقيع القاضي.

*   انتقل إلى رحمة الله الحاج عبدالرب عبدربه بن عسكر اليزيدي في مدينة شيفيلد البريطانية وبهذا المصاب الجلل نتقدم باصدق مشاعر العزاء والمواساة إلى الإخوة عبد الرحمن  بن عسكر ومحمد بن عسكر والشاعر أحمد حسين بن عسكر وكافة آل بن عسكر سائلين الله تعالى أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته وأن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان و"إنا لله وإنا إليه راجعون".

*    يقول شاعر اليمن وفيلسوفها المرحوم الأستاذ عبد الله البردوني:

كلّما  طاف  بسمـــعي  صوتها       هزّ في  الأعماق  أوتار  شــجايا

و سرى  في  خاطري  مرتعشا      رعشة  الطيف  بأجــفان  العشايا

كلّما غـــــــــنّت  بكت  نغمتها      و تهاوى  القلب  في  الآه  شظايا

هكذا  غــــــنّت، وأصغيت  لها     و تحـــــــــــــمّلت  شقاها  وشقايا