طفل في شوارع رمضان

2014/06/29 الساعة 03:07 مساءً

أكتب شاردتي هذه وأنا لا أعلم بالضبط هل اليوم رمضان أو هو آخر يوم من (شعبان) فلم يُعلن المذيع بعد رؤية القادم بوجه الهلال الملثّم بالغمامة وبقايا حُمرة الشفق! ولافرق عندي بين اليوم وغد، فكل أيامنا واحدة وكل زماننا واحد، هو غد مجازاً وحقيقته أمس، هو مقبل كما نتوهّم لكنه مضى قبل أن نمضي, ما علينا نحن الآن في حضرة الحبيب رمضان بروائحه القادمة من كوثر الجنة وأنفاس الصالحين وذكريات الأمس الأجمل التي تُغازلني كفاتنة لا مجال للوصول إليها، أعني الأمس: ما أجمل الأمس وما أحلاها وما أفجع الغد، إن لم (أفتجع) منها فإنني أخاف عليها وعلى ذهابها وكأنني أدفن نفسي أو شيئاً مني, وكلّما شيّعت يوما أحسُّ أنه يُنتزع من أحشائي كما يُنتزع الطفل من حضن أمه وعندما لا أبالي فالمصيبة أعظم، لأنها تعني أنني أصبحت من الغافلين. يحضر رمضان فأسافر في الزمن الجميل بكل جوارحي لأكرّر تلكم الأيام بشخوصها وحوادثها ولعبها وذائقتها الخاصة، لقد كان لرمضان طعم خاص لا أدري هل مازال ذلك الطعم المبهر عند الأطفال؟ أريد أن أعود طفلاً ليلة واحدة لأكتشف عالماً ضاع مني وكنت من شدة جهلي أستحثُّ ذهابه كل يوم!.. في العقبة التي تعلو شارع 26سبتمبر كان لنا صولات وجولات في ليالي رمضان، لعب لا يفتر من قبل الإفطار مع مدفع (علي حمود) إلى الإفطار وما بعده إلى داخل المسجد الذي كان لا يخلو من شقاوة بين الركعات وأثناء الصلاة نُعاقب عليها بين الحين والآخر.. كان الإمام مبهراً حقاً وكنت أطرب بتلاوته التي لا أظنها إلا من ترانيم داود، موسيقى ترتفع وتنخفض وصوت كأنه يدرّسك المعاني ويقرأ القرآن كأنه أنزل ويلعب بأوتار قلبك كما يشاء أو كما تحب، إلى الآن يتلبّسني ذلك الشيخ وأجد نفسي أحياناً أقرأ بصوته ولحنه الخاص دون شعور.. كان ذلك في مسجد (الأصنج) الكائن خلف شارع 26سبتمبر للأسف الشديد نسيت اسمه كان من الأعروق تقريباً.. لكن صورته وصوته وروحانيته التي لم أواجه مثلها لم تزل تتلبّسني كروحاني رحيم بعد انقطاع عن المدينة عدتُ لأسال عنه فقال لي أحدهم: إنه مات من زمان وبكيت على (زمااان) وهو ما يعني أن أيامي الجميلة تلك ماتت أيضاً، رحمه الله ورحمني.. نخرج من الصلاة إلى اللعب كان لعبنا متجدّد النشاط والمتعة.
هانحن نلعب لعبة (سلبيت) وهي لعبة شعبية في الحارات والمدارس لا أدري هل مازالت حية أم ماتت كما ماتت بقية الألعاب وصور التراث اليمني؟ لدينا ألعاب قتلتها ضوضاء (التكنولوجيا) ووسائل الترفيه واللعب الاصطناعي في (التلفزيون) وسواه التي لا تعني إلا أننا أشبه بلعب (الكرتون) والورود الاصطناعية، أسفي على أطفال الكرتون واللعب المستورد.. كان علينا أن نعمل شيئاً للحفاظ على هذه الألعاب الشعبية فهي صورة من ثقافتنا.. معامل إبداع وخيط يربطنا بأيامنا الهاربات.
في ذات ليلة كنت أكثر نشاطاً ولم أحس إلا وأنا مضرّج بدمائي لقد وقعت من الرصيف المرتفع أثناء (السلبيت) الذي أتوقف أمامه كلما مررت عليه.. كان أمام مطعم الحاج (أسعد عبد الوهاب) الذي مات هو أيضاً ومات معه المطعم بكل تفاصيله.. لم أشعر إلا وأنا في المستشفى تم تخييط  ذقني وعمل شاش و(لصقة) قال لي الأستاذ (رياض القرشي) الذي تولّى إسعافي وكان زميلاً لأخي الأكبر شرف الدين: إنه أصبح لي ذقن رائع, أعجبني الوصف! نسيت الألم وبقيت مشغولاً ومعجباً بالذقن الجديد. ومازال أثر الجرح إلى اليوم وهو آخر ما تبقّى لي من تلك الأيام الرشيقة المتقافزة بفرح كفرح طيور الجنة. كنا نجري لنكبر ولم نشعر بأننا إنما نمارس الموت ونخلع أجمل أيامنا منا تطبيقاً للمقولة الحكيمة (يموت الحي شيئاً فشيئاً ..وحين لا يبقى فيه ما يموت يُقال له: مات).

[email protected]