حدثٌ صادمٌ هو اغتيال المفكر والسياسي والأستاذ الجامعي الدكتور محمد عبد الملك المتوكل، فالرجل لم يكن فقط مجرد كاتب سياسي أو أستاذ جامعي أو قائد حزبي بل هو كل هذا مضاف إليه شخصية المفكر والكاريزما السياسية وكتلة الاخلاق الرفيعة والفكر المتحرر من الجمود والتصلب والدوغمائية . . . . وغير ذلك كثير مما يتصف به القلائل من رجال الفكر والعلم والسياسة والإبداع.
مراتٌ كثيرة تلك التي تعرض فيها الرجل لمحاولات الاغتيال كان آخرها تعرضه لمحاولة الدهس بدراجة نارية من قبل مجهولين، فروا ولم تتمكن كل الدولة بكل أجهزتها الأمنية من كشف هويتهم، . . . كان ذلك أثنا الثورة الشبابية السلمية في العام 2012 م والتي كان للدكتور المتوكل بصمات واضحة فيها، وكان تلاميذه من بين مفجريها وصانعيها وروادها.
لم يصطحب الدكتور المتوكل مرافقين قط حتى بعد تعرضه لمحاولة الاغتيال الأخيرة فقد كان يحب حريته ويفضل ان لا يتقيد بلوازم روتينية تحد من حركته وتقيد حقه في السير والتنقل بعيدا عن الروتين والبيروقراطية والمظاهر الزائفة بينما كان الجهلة يصطحبون المئات من المرافقين ورجال الحماية، أكثر من ذلك كان د المتوكل يترك سيارته في المتزل ويتحرك سيراً على الأقدام إلى مقر عمله أو إلى الفعاليات الجماهيرية التي كان نشطاً في المشاركة فيها وكان يقطع صنعا من أقصاها إلى أقصاها سيراً على الأقدام دونما كلل ولا ملل، وفي هذا السياق لم يخش الرجل أعداءه وهم كثر ولم يتهيب الموت وهو على بعد اقدام منه، بل ظل مؤمنا أن القضاء والقدر لا يرده راد عندما يحين ولا يمكن تقديم موعده لو لم يحن أوانه.
كان الرجل حرا و مفكرا من الوزن الثقيل، فهو لم يتقيد بنمط أيديولوجي معين ولم ينغلق داخل وعاء سياسي مصمت بل آمن بالحرية والحرية وحدها وآمن بأن الحرية لا لون لها ولا جنسية ولا دين لأنها صنو الانسان وتوأمه اينما كان ومتى كان، ومن هنا كان شخصية جدلية بامتياز ليس لأنه صانع مشاكل بل لأن الكثيرين من اصدقائه وخصومه كانوا ينتظرون منه إما أن يكون معهم في كل شيء أو ضدهم في كل شيء، بينما كان يقف مع الفكرة والموقف أو ضدهما لا مع أو ضد صاحبهما.
مرة سخر منه الرئيس السابق علي عبد الله صالح قائلا إنه كان وزير إعلام الملكيين، اثناء الحرب الاهلية، والتقينا في اليوم التالي ووصل الحديث بيننا إلى هذه الجزئية ، قال لي الدكتور المتوكل: عند ما قامت ثورة سبتمبر كنت في القاهرة أدرس الاعلام وقد عينتني الثورة ملحقا إعلاميا في السفارة بالقاهرة بينما اختارني الملكيون وزيرا لإعلامهم ففضلت الملحق الإعلامي على الوزير لأنني كنت مؤمن بان الثورة هي المستقبل وأن الملكية من الماضي ولا مكان لها في المستقبل، وانتهت القضية هنا وقد تدرجت في مواقع ومناصب كثيرة منها نائب الوزير والوزير ورئيس تحرير الصحيفة الرئيسية في البلد ولم يحاسبني أحد على قرار اتخذه غيري، فماذا يعني ان هناك من يتذكر هذه الحادثة بعد مضي قرابة نصف قرن عليها؟
يقولون ان الرجل كان من رجالات الزيدية، صحيح ان الدكتور المتوكل كان يمارس التدين على الطريقة الزيدية لكنه كان يحترم الأفكار والرؤى والقناعات الأخرى حتى وإن اختلف معها، لم يكن زيديا متعصبا بل لم يكن يحرص على إبراز زيديته وجعلها عنوان حديثة وعلامة حضوره، بل لقد كان نصيرا لحرية الفكر وحرية العقيدة وحرية التعبير وحرية الاختيار، . . ربما يكون لهذا السلوك جذوره في المذهب الزيدي الذي يؤمن بمقارعة الحاكم الظالم لكن هذا لا يعني ان الدكتور المتوكل عليه رحمة الله كان زيديا سلفيا أو أنه ممن يمقتون غيرهم من أصحاب المذاهب الأخرى، بل لقد كان على علاقة وطيدة مع العديد من المفكرين والسياسيين والأكاديميين العالميين من غير المسلمين بل ومن غير المتدينين ممن يشاركهم همّ الانسان وحقوقه وحرياته ومستقبله ورفاهيته.
قال لي أحد الزملاء ممن اتصلوا بي للتعزية متسائلا لماذا اختار القتلة الدكتور المتوكل دون سواه، قلت له يا صديقي نحن نتحدث عن بلد لم يقتل فيها لص أو ناهب أو قاطع طريق صغير أو كبير بينما يقتل فيها المفكرون والمبدعون والمسالمون والمبدعون، إنها ثمن أن تكون مفكرا وحرا ومبدعا في بلد لا يحترم فيه المبدعون والمفكرون، ولو بجزء مما يحترم فيه اللصوص والنصابون والمخادعون والأدعياء، رد علي صديقي: هؤلاء ليس فقط لا يقتلون، بل إنهم يمنحون الحصانة عن المساءلة على كل موبقاتهم، إنها ضريبة السير نحو الحرية والمواطنة والدولة المدنية كما قال صديقي السياسي والمفكر الاستاذ عبد الله سلام الحكيمي
سيبقى الدكتور المتوكل خالدا في ذاكرة تلاميذه وأصدقائه ورفاقه وأبناء بلاده الطيبين وسيتوارى القتلة المخططون والفاعلون كما تتوارى الخفافيش عن اقتراب الضوء منها، ولن يذكر التاريخ الدكتور المتوكل إلا مقترنا بالفضيلة والحكمة والإباء والانتصار للحق، بينما يغمر التاريخ القتلة والمجرمين تحت عجلاته
لك الخلود ايها الشهيد، ولا نامت أعين الجبناء