الجنوب المنتظر

2014/11/27 الساعة 01:19 مساءً

تتسارع الأحداث على الساحة الجنوبية، ومعها تتسارع التداعيات على المحيطين اليمني والعربي، وتبدو القضية الجنوبية مبحرة باتجاه الوصول إلى غاياتها النهائية في تقرير الشعب الجنوبي مصيره بيده بعيدا عن الوصاية والارتهان لأطراف الغزو الذين استباحوا الجنوب طوال عقدين من المرارة القاسية على أبنائه، من خلال استعادة الدولة الجنوبية واستعادة الحرية والكرامة اللتين صادرتهما سلطات الحرب منذ 7 يوليو الأسود.

لكن السؤال الملح الذي يطرح نفسه بقوة : ما هو الجنوب الذي يسعى إليه الجنوبيون؟

من المؤسف أن ينشغل الكثير من السياسيين الجنوبيين بتفاصيل تخلق من المتاهات أكثر مما تقدم من الحلول، وعلى وجه الخصوص الخوض في جزئيات  مثل: هل يناضل الجنوبيون من أجل الحرية والاستقلال أم من أجل استعادة الدولة؟ هل نحن ذاهبون نحو فك الارتباط أم حق تقرير المصير؟ أقول من المؤسف الخوض في هذه الجزئيات ليس لأنها عديمة الأهمية في بعدها المعرفي، لكن المسألة الثقافية والمعرفية شيء وسير الأمور على الأرض شيء آخر، ذلك أن كل هذه المفردات لا تقود إلا إلى نتيجة واحدة وهي أن الشعب الجنوبي يسعى لاستعادة دولته المستقلة التي صنعها الجنوبيون بنضالهم وكفاحهم وعزائمهم وبأرواح شهدائهم وبطولات مناضليهم حينما وحدوا ما كان يسمى بمحميات الجنوب الغربية والشرقية التي بلغ عددها عشية الاستقلال 23 (محمية) بين مشيخة وسلطنة وإمارة، وحدوها في دولة واحدة كان لها اسمها وصولتها وجولتها على الصعيد الإقليمي والعربي والإسلامي والعالمي.

من المؤكد أن الدولة الجنوبية الجديدة لن تكون عودة لما قبل 1967م لأن الجنوب لم يعرف الدولة أصلا قبل العام 1967م بل عرف العديد من الدويلات والإمارات والسلطنات المرتبط معظمها بالحماية البريطانية، وهي بالتأكيد لن تكون عودةً لنظام ما قبل 1990م، لأن عالم اليوم لم يعد يقبل إلا بالنظام التعددي الديمقراطية المتسامح والقابل للتنوع والتعدد وتعايش الأفكار والرؤى والاجتهادات.

إن الجنوب الجديد بدولته الجديدة لن يكون إلا دولة ديمقراطية حرة تقوم على أساس الحريات العامة وحق  التعبير والتعددية الحزبية والتداول السلمي للسلطة من خلال الانتخابات الحرة التنافسية التي تديرها هيئة مستقلة ذات أهلية ونزاهة وكفاءة يعترف بها الجميع، كما إن الجنوب الجديد لا بد أن يكون دولة لامركزية تتوازن فيها السلطات بين المركز والأطراف وتقوم على الفصل بين السلطات.

ومن المهم أن يقر الجميع أن الجنوب الجديد يقيم التنمية الاقتصادية الاجتماعية على أساس الجمع بين العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة من ناحية وبين الاقتصاد الحر القائم على قوانين السوق الحر من ناحية أخرى، واحترام الملكيات الخاصة المتظافرة مع الملكية العامة والتعاونية والمختلطة في تدوير العملية الاقتصادية واعتبار الرأسمال الوطني هو عماد التنمية وركن أساسي من أركانها.

نتعرض هنا لهذه البديهيات لأسباب عديدة أهمها إن جنوب اليوم ليس جنوب الخمسينات والستينات، ولا جنوب السبعينات والثمانينات، مثلما إن العالم اليوم ليس عالم النصف الثاني من القرن العشرين، حيث غدت حريات الشعوب وحقها في تقرير مصائرها واختيار حكامها وصناعة القرار السياسي في بلدانها من بديهيات أي عملية سياسية في أي قطر، كما غدا مستحيلا على طرف بعينه مهما بلغت فضائله ونقاط قوته أن ينفرد بالتحكم بمصير شعب بكامله وأصبحت الديمقراطية بما هي حزمة مترابطة ومتكاملة من الشروط والقانونيات والحقوق والالتزامات ضرورة موضوعية لا يمكن الاحتيال عليها أو القفز فوقها أو احتواؤها.

إن الجنوب الجديد هو جنوب كل أبنائه، صغارهم وكبارهم، فقراءهم وأغنياءهم، في الأرياف وفي الحضر، وبهذا المعنى فإنه لا يجوز لأحد أن يصادر حق الآخرين في التعبير عن أنفسهم وفي المشاركة في صناعة القرار من خلال مختلف أشكال المشاركة المباشرة منها وغير المباشرة.

ومثلما تشترك الغالبية العظمي من سكان الجنوب في الثورة السلمية التحررية وفي مقاومة الظلم والقهر وسياسات الإقصاء والاستبعاد والاستباحة والسلب والنهب التي عانى منها الجنوب والجنوبيون منذ العام 1994م،  فإن هذه الغالبية ومعها كل سكان الجنوب هي من ينبغي أن يكون صانع دولة الجنوب وبانيها والمتحكم في صياغة مستقبل الجنوب وتحديد مصيره.

هذا ما ينبغي أن يكون حاضرا في أذهان المنتميين إلى الطبقة السياسية الجنوبية ونحن ذاهبون نحو استعادة الدولة والشروع في بناء الغد المأمول الخالي من التبعية والظلم والقهر وكذا من الذل والإذلال والكبر والاستكبار.

برقيات:

*    عندما يتحدث الإخوة في صنعاء عن إعادة ثمانية آلاف أو حتى عشرة آلاف عسكري إلى الجيش والأمن فإنهم بذلك يؤكدون أنهم يسخرون بالجنوب والجنوبيين، فهل هذه هي إعادة المبعدين البالغ عددهم عشرات الآلاف وربما ما فوق المائة ألفا إلى أعمالهم؟؟ أم إنه تعويض لحرمان الجنوب من الالتحاق بالمؤسسة العسكرية والأمنية على مدى عقدين كاملين؟؟ أم إنه المقابل لمئات الآلاف الذين جرى عسكرتهم خلال الأعوام الثلاثة الماضية ومن سيتم استيعابهم خلال الأيام القادمة والذين ليس بينهم جنوبيا واحدا؟؟

*    يقول الشاعر العربي الفلسطيني الراحل محمود درويش

ومثلما سار المسيحُ  على  البحيرة سرتُ  في  رؤيايَ

 لكنِّي  نزلتُ  عن  الصليب

لأنني  أَخشى  العُلُوَّ ولا أُبشِّرُ بالقيامة

لم  أُغيِّر غيرَ إيقاعي  لأَسمع  صوتَ  قلبي  واضحاً

للملحميِّين  النُسُورُ ولي  أَنا طَوْقُ  الحمامة