ان كاتب هذه السطور وعدد من الزملاء في لجنة الحوار الوطني الذي نظمه اللقاء المشترك وعدد من الشركاء المدنيين خلال العامين 2009/2010م، كنا ممن رفضوا الموافقة على بند الحصانة الذي منحته المبادرة الخليجية التي أعدها لنفسه الرئيس السابق علي عبد الله صالح ثم قدمها لدول مجلس التعاون الخليجي لتتبناها نيابة عنه، أيام كان القادة الخليجيون يتعاملون مع علي عبد الله صالح على إنه انسان محترم، لكننا آثرنا إن لا نجعلها قضية خلافية وقد قاطعت جلسات البرلمان اليمني منذ جلسة إقرار هذه الحصانة الكارثة.
هذا ليس ادعاء للبطولة فالمسألة أصغر من صغيرة لكن تبعاتها هي ما ندفع اليوم ثمنها بسبب سوء تقدير (وربما حسن نوايا) بعض السياسسيين اليمنيين الذين ظنوا أنهم بهذا الحل سيجنبون اليمنيين مغامرة الحرب الأهلية، التي ما لبثت إن أطلت برأسها فقط بعد ثلاث سنوات من تاريخ إقرار تلك الحصانة.
وكيفما كان الأمر فقد مر بند الحصانة بأسرع من مرور البرق أمام البصر، وأقره البرلمان لأنه برلمان الأغلبية المستفيدة من الحصانة لكن المأساة إن اليمنيين الكرماء أخطأوا في تقديم كرمهم هذه المرة فقد أعطوه لمن لا يستحقه، وصدق المتنبي العظيم عندما قال:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكتهُ وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
الذين اقترحوا بند الحصانة كانوا يدركون حجم الجرائم التي ارتكبها المحصنون، ولذلك جاء بند الحصانة عموميا ليشمل كامل فترة حكم صالح وكل الجرائم التي ارتكبها وكل الطاقم الذي شاركه في هذه الأفعال، فلم يعد أحد من فاسدي اليمن ومجرميه خارج هذه الحصانة.
كان يمكن لعلي صالح أن يغادر المشهد السياسي ويستثمر المليارات التي سرقها من قوت اليمنيين ويدعهم (أي اليمنيين) يديرون شؤون بلدهم بدونه، لكنه لم يشاء أن يخرج خروج المحترمين، فقد باشر منذ أسابيع بعد خروجه تحريك أصابعه الكثيرة للانتقام من الحكومة التوافقية التي كان تركيبها يكفل له التحكم بكل قراراتها كاملة، وراح المكلفون يقصفون أبراج الكهرباء ويفجرون أنابيب النفط ويخفون المشتقات النفطية ويغتالون رجال الأمن بالدراجات النارية، ويضاعفون تهريب الممنوعات، ويعبثون بكل شيء في البلد ويكيلون التهم في كل هذه الأفاعيل للحكم الجديد الذي يشارك فيه صالح بأكثر من النصف، وليت الأمر توقف عند ذلك بل لقد أقفل الرجل كل ملفات الصراع مع الحوثيين وراح يغازلهم عن بعد ثم انخرط معهم في مشروع الثورة المزيفة (الثورة المضادة) التي انقض من خلالها صالح على كل ما توافق عليه غالبية اليمنيون (بما في ذلك ممثلو حزبه ) في مؤتمر الحوار الوطني ورفع التحالف شعاره المعروف، "إسقاط الجرعة وإسقاط الحكومة وتنفيذ مخرجات الحوار الوطني"، ويعلم اليمنيون كم من الزيف والخداع والادعاء يكمن وراء هذا الشعار تماما مثل شعار "الموت لأمريكا ، الموت لإسرائيل".
انتصارات الحوثيين التي سهلها لهم صالح من خلال توجيه المؤسسة العسكرية والأمنية التين تدينان له بالولاء، بتسهيل مهمة الحوثيين ومساعدتهم على احتلال صنعا وعدد من المحافظات وإسقاط الحكومة والرئاسة، كل ذلك جعل صالح قاب قوسين أو أدني من استعادة كرسي الحكم الذي غادره مجبرا لكن "ما كل مرة تسلم الجرة"، فقد جاءت المواقف المحلية والإقليمية والدولية لترد سهم المؤامرة إلى اليد التي أطلقته، كانت المقاومة الجنوبية لخطة صالح والحوثي لاجتياح الجنوب صدمة عنيفة هزت كيان الرجل وزلزلت كل حساباته الخاطئة المبنية على الوهم والغرور والرهان على السلوك الإجرامي، وكان موقف دول الجوار مخيبا لرهانات صالح عندما قدمت دول مجلس التعاون الخليجي بمشروع قرارها المعروف إلى مجلس الأمن الدولي، وكان موقف المجتمع الدولي صادما عندما أقر مجلس الأمن بأغلبية مطلقة ودونما اعتراض فتح ملف العقوبات على المعطلين وإضافة نجل الرئيس السابق وآخرين إلى قائمة المطلوبين للعقوبات الدولية.
صالح الذي لم يشبع بالحصانة التي لا يستحقها ذهب ضحية طمعه فقد توقع أنه سيعود ليخدع العالم من جديد معتقدا أن الناس بلا ذاكرة وإنهم قد نسوا جرائمه أو إنهم يصدقون أكاذيبه مثلما كانوا يصدقونها عند ما كان على رأس هرم السلطة، لكن هذا الطمع تجاوز الحدود الممكن التغاضي عنها، ولذلك خسر صالح الحصانة وخسر السلطة التي كان يتطلع للعودة إليها وسيخسر إن شاء الله عشرات المليارات التي سرقها من أفواه الجائعين اليمنيين، واليوم يبحث عن مأوى يحمية من ملاحقات الضحايا المحليين والخصوم الإقليميين والقضاة الدوليين.
كان يمكن لصالح الزعيم أن يخرج خروج المحترمين لكنه أبى إلا أن يخرج خروج المجرمين الملطوبين للعدالة المحلية والدولية ويبدو أن القدر قد ساقه ليخرج بالطريقة اللائقة به، بعد الخطأ التاريخي الذي تسلل إلى مسار السياسة في اليمن عام 2011م ليحصل المجرم بموجبه على ما كان سيحمي نفسه به من مساءلة التاريخ.