إذا قدمت شهادة للتاريخ عن سبب حكم فرد مستبد لشعب اليمن 34 سنة سأقول إن النخبة السياسية والقبلية هي السبب، وإذا قدمت شهادة عن سبب تأخر الثورة عليه كل هذا الوقت سأقول أيضاَ إن النخبة السياسية والقبلية هي السبب، وإذا قدمت شهادة لله أولاً وللتاريخ ثانياً وللأجيال ثالثاً عن سبب قيام ثورة فبراير ونجاحها في إخراج صالح من السلطة سأقول إن شباب اليمن نجحوا في تجاوز تلك النخبتين لأول مرة، بل وتمكنوا لاحقاً من جرهما إلى ميدان الثورة، وإذا قدمت شهادة عن سبب ارتضاء الثوار بنصف حل، والتوقف في منتصف الطريق سأقول هو بتسليمهم أمر ثورتهم للنخبتين السياسية والقبلية فالتفت على الثورة وذهبت لتوقيع المبادرة الخليجية مع صالح باعتبارها أقصر الطرق لحقن الدماء، وأقلها كلفةً وعناء!
وماذا بعد؟!
دفعنا الثمن أضعافا، وخسرنا من أبناء اليمن، وخيرة الرجال والبنية التحتية والعمران والوقت والجهد والمال منذ ثورة فبراير 2011 حتى الآن مائة ضعف ما كنا سنخسره في حال استمرار ثورتنا وإسقاط صالح ونظامه وحزبه.
كانت غفلة من التاريخ استمرت 34 سنة حكمنا فيها رجل بلا تجربة أو تأهيل، رجل جاء من «مفرق المخا» حيث المنفذ البحري الخاص بتهريب الخمور، حاملاً رضاً غربياً، ووعداً إقليمياً بأن يكون رئيساً لليمن الشمالي، وبالتفافٍ بسيط وتهديدٍ لرئيس مجلس الشعب التأسيسي وأعضاء مجلس القيادة أصبح رئيساً للدولة.
وخلال سنوات حكمه لم يفعل شيئا غير إشباع جميع المنتفعين والمتمسحين ببركة نعمته، من مشائخ ومسؤولين وعسكريين وإعلاميين ونقابين ومثقفين وعلماء ودعاة وقادة أحزاب وقيادة المنظمات المدنية، وبدورهم قاموا بتخدير الشعب بأن صالح رجل المرحلة، وأقوى ما قالوا أنه لا يوجد بديل مؤهل لقيادة البلاد وبالتالي نحن أمام الحاكم الضرورة.
تلك أطول غفلة سياسية في تاريخ اليمن، صبر فيها الشعب على تفرد وفساد حاكم حتى أصبح جزءاً من وجدان الناس، واقتنع هو بملكيته للكرسي وحقه في الحكم والتوريث.
وكما جاء إلى الحكم على حين غفلة، جاءه فبراير فجأة، لكنه لم يسعَ إليه في الظلام، بل وقف شامخاً كالحق، واضحاً كالضحى، وتقدم نحو عرش الحاكم المستبد وأسقطه..
كان 11 فبراير يوما مشهودا، أشرقت فيه شمس الحرية، وفتحت أبواب التاريخ، وكاد الشعب أن يمتلك قراره بيده لولا التفاف النخبة السياسية عليه.. كانت «ثورة الضرورة» التي أعادت الأمل وأحيت من كان ميتاً، ونفخت فيه من روح الحرية، حتى استفاق الناس من سبات ثلث قرن، وانتبهوا لشريحة عريضة من الفاسدين والمنتفعين تقف في طريق خلاصهم.
كنت - ولا أزال- أعتقد أن الثورة ضد صالح ونظامه كانت مسألة وقت، إن لم تكن في 2011 ستكون في غيره، فالضغط زاد وقارب على الانفجار، والصبر على الجوع والفقر لن يدوم أمام أرصدة تتضخم، وشركات تتمدد، وبنايات تتسع وتتشكل، وفساد قيادات الأحزاب لن يظل مستوراً مدى الحياة، ولن تفلح في ممارسة الأبوية والوصاية على أعضائها، والاكتفاء بنقد أخطاء صالح في العلن، والسكوت عنه في السر، ولو لم يكونوا مشاركين في الفساد ومرحبين بعطايا ومنح صالح لما طال صبرهم عليه، حتى صوروه للشعب بالحاكم الضرورة، وحقنوا الناس بفكرة «النضال السلمي» التي لن تؤتي ثمرةً أمام حاكم مستبد لا قيمة عنده إلا لصوت القوة.