---------------------------
في التاريخ تتفجر أحداث يكون لها تداعيات ليست في بال أحد، تكون مفاجئة، عنيفة، صادمة، حتى أن الناس أزائها يتشبثوا بما كان عليه آبائهم، ويهربون إلى حضن المألوف لعله ينجيهم من هذا العاصف القاصف الذي زلزال حياتهم وقواعد تفكيرهم. هذه الحالة لا تلبث كثيراً حتى تجد الناس وقد أصبحت العاصفة جزء من حياتهم، والزلزال أمراً واقعاً، فيبدأوا في فقدان الثقة في مسلماتهم ومألوفهم، ثم تبداء عقولهم بالعمل لفهم ماحدث، وإستنباط الطرق والإساليب لمواجهته والبناء عليه بأدوات جديده بعد أن أنهار القديم وأصبح من الماضي.
في اليمن كان هنالك حدثان من هذا النوع المزلزل، كأنهما أيقظا الناس وهم غافلين، بعد أن أصبح الناس في حكم صالح الطويل قد تشربوا بثقافته، وأقروا سبله وسننه فيهم، وأضحى لدى الكثيرين منهم صنماً يشكل المساس به، وبمنظومته تحدياً للمألوف وولوجاً في المجهول..
الحدث الأول كان إحتلال الحوثي لصنعاء والإنقلاب على الدولة، فقد صحت الناس يوم ٢١ سبتمبر ٢٠١٤م والحوثي قد أحتل صنعاء وأسقط الدولة.. سقطت ثورة سبتمبر.. سقطت الجمهورية. كان الحدث أشبه بسقوط نيزك أو شهب من النوع الذي دمر الديناصورات بعد أن كانت الثورة والجمهورية من المسلمات.
الحدثي الثاني هو عاصفة الحزم التي شنتها دول التحالف بقيادة المملكة العربية السعودية ضد الحوثيين والعفاشيين، وقد حقنت العاصفة الناس بالأمل وأمدتهم بطاقة المقاومة والتصدي.
الحدث الأول دمر كل المسلمات لدى الناس بنسخها المعروفة طبعاً، الثورة، الجمهورية، الوحده، حتى الدين الذي عرفوه ويؤدون شعائره بإنتظام. الحوثي جاء لهم بثورة ٢١ سبتمبر، إمامة البطنين، القنديل والزنبيل، الأثنعشرية في نسختها الزيدية الجارودية. فتح الناس أعينهم على واقع جديد لا يمت لما ألفوه بصله. تمدد الحوثي كأن شاصاته ذات أجنحة حتى ضرب أطنابه ورفع راياته على المياة الدافئة هناك حيث شرايين العالم تنبض وحيتانه القاتلة تترصد.
الحدث الثاني كان رد فعل وخوف سعودي من تدهور المسلمات الإستراتيجية في المنطقة. أنتشلت عاصفة الحزم اليمنيين من حالة الذهول والصدمة وفقدان التوازن الذي وجدوا أنفسهم فيه وعليه في الأيام الأخر من سبتمبر خريف العام ٢٠١٤م. في مارس ٢٠١٥ بدأت العاصفة والمقاومة الفعلية والحقيقية وأعادت للناس الثقة بأنفسهم جنوباً، وأنهم قادرين على الإنتقال من النضال السلمي الذي طبع حراكهم خلال السنوات الماضية إلى المقاومة المسلحة لإحتلال جديد أشد هولاً وأكثر بشاعة مما كان عليه إحتلال جيش عفاش وأمنه المركزي. أما شمالاً فقد أنتفضت معظم المدن والمحافظات بنسب متفاوته في واقع تحكمت به عوامل عديده جغرافية وطائفية وولاءات تقليدية، لكن لم يدم الأمر طويلاً حتى ألتحق الجنود والضباط الوطنيون إلى جانب مثقفين وسياسيين ومواطنين بعشرات الآلاف من الطائفة الزيدية الكريمة إلى صفوف المقاومة للإنقلاب الحوفاشي.
اليوم بعد سنتين ونيف والحرب لازالت مستمره ماهي المعطيات الجديده في واقع اليمن وكيفية قرأتها القرأة الصحيحة للإستفادة منها لأقصى حد حتى نلج عصر جديد في حياة اليمنيين:
- الشمال لم يعد الشمال الذي تحكمت فيه الأمامة السلالية العنصرية لقرون، والقبيلة الجمهورية الطائفية لعقود. الشمال اليوم تقاتل كل مكوناته للخلاص ليس من الإنقلاب فحسب، ولكن من حمولة تاريخية أثقلت كاهله ودمرت حياته وحكمت عليه بالتخلف والتأخر عن المسيرة الحضارية للإنسانية لقرون.
- الجنوب لم يعد الجنوب الذي تحكم به حزب، والحزب الذي تحكمت به منطقة وتريد في وجه آخر للتعصب الحوفاشي السيطرة عليه وفرض نفسها وخياراتها عليه.
- لكل منا الحرية في المذهب الديني الذي يختاره، وليس هنالك من حجر على الأفكار والمعتقدات بشرط أن تنتهي حرية الفرد عند حدود المساس بحرية الآخرين في الإعتقاد والتفكير، لذلك الدولة التي نريد لابد من فصل السياسة فيها عن الدين، فالدولة لا تصلي ولا تصوم، وليس لديها نظام أخلاقي غير الدستور والقانون الذي يسري على الجميع، يقوم الفرد تحت ظله بإداء الواجب ويأخذ حقه لا زيادة ولا نقصان.
- الشمال تغير والجنوب تغير، المهووسين العنصريين شمالاً وجنوبا هم فقط الذين لا تدرك بصائرهم قبل أبصارهم هذا التغيير. هذا التغيير يقول لنا أن الوحدة كما كانت شي في حكم المنتهي، وأن العودة للإنفصال شي في حكم المستحيل لأن كلا الأمرين وبغض النظر عن سلوك بعض الدول ووعودها لهذا الطرف أو ذاك فأن واقع اليمن قد تغير كما أسلفنا بشكل عميق وإي التفاف على هذا التغيير هو تحايل على السنن ذاتها وليس له نصيب من النجاح مطلقاً.
- لا يتلائم مع التغيير العميق في واقع اليمن غير بناء الدولة الإتحادية ذات الستة الأقاليم التي تزيح مركزية الدولة جانباً وتعطي لمكوناتها الحق في إدارة شئونها المحلية بصلاحيات كاملة، تبقى السيادة فيها للدولة. هذه الدولة وحدها الكفيلة بإعادة ثقة الناس بأنفسهم وبوطنهم وبدولتهم، وحينها ستتفجر طاقاتهم وإبداعاتهم ولن نغالي أن قلنا أن اليمن السعيد سيكون قاب قوسين أو أدنى من أيدينا.
- لفهم هذا التغيير العميق وإدارته تقع على الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية والنخب مسئولية تتغير نفسها، وهياكلها، وقواعد أدائها السياسي. لابد من مبارحة عصر عفاش وثقافته وإساليب عمله وإلا فأن هذه المكونات المجتمعية ستتحمل وزر الفشل والإنهيار.
- الشرعية كدولة وقيادة معنية بقيادة هذا الجهد، وعليها في المقام الأول أن تغير نفسها وطرائق عملها وتستفيد من الكوادر اليمنية الخلاقة وهم موجودين وبالآلاف أن أردتم.
بقدر ما كان الإنقلاب الحوثي مرعباً وصادماً فأني أراه أحد محفزات التغيير والتطور وتلك سنن الله في خلقه، أنها تمضي وفق مشيئته بقانون، لكن لنا البشر هامش الإختيار أما نفهم ونتقدم أو نصر على البقاء على ما وجدنا عليه آبائنا، أن حاولنا البقاء سنخسر وقتاً فقط، أما التغيير في العمق قد حدث وسيؤتي ثماره ولو بعد حين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
#صالح_الجبواني