أنور نـصر
حملت شنطتي الأنيقة والتحقت بطابور العابرين في مطار صنعاء الشاحب ، وقفت إلى جوار رجل يتحدث الروسية ويقول لي أنه يعرف "موسكو" جيداً ، وأنني لست يمنياً ! ، يبدو أن ملامحي جعلته يسأل ذلك ، ولما نفيت .. أستدركني بوجود عِرق روسي من جانب الإم ، فكذبت و أومئت برأسي ، ولكنه لم يسكت : هل أنت ذاهب للقاءها ؟ ، نعم ! ، انفرجت اساريره .. وظل يحدثني عن الحياة في روسيا ، وعن شهادته الجامعية من احدى جامعاتها ، حيث تكون الشهادة للجميع والعلم لمن أراد ! ، واسترسل الرجل ، وخشيت أن أحرجه بالتراجع عما قلته عن أمي الروسية ! ، لحظات من الانتظار في صالة المطار ، مررنا على أربع نقاط تفتيش اليكترونية ، خلعت كل ما يرتبط بالمعادن ووضعته في مستوعب بلاستيكي صغير ومررته الى سير تفتيش الامتعة ، تجاوزت الماسح المغناطيسي ولم يصدر صوت اكتشافه لممنوع أحمله معي إلى الطائرة ، يدا المفتش أيضاً تطمئنان أني أعزل من السلاح ، ثم أشار بإتجاه عربة النقل ، كنت المسافر المسرور ، دخلت إلى الطائرة ، أرادت فتاة بدينه ان تاخذ مقعدي فلم اعطها ذلك ، وجلست بقربي ، كانت سمينة و ضخمة ! ، ياللهول .. أطراف مؤخرتها تتوسع لتغطية فخذي الأيسر ، كتفها على صدري ، لم استطيع الحراك .. ماهذه الرحلة التي ترفع الضغط وتصيبك بالبدانة الالزامية ! ،
في المقعد المقابل امرأة وطفلها سرعان ماجلس رجل بقربها ذو لحية كثة يلبس ثوبا قصيرا ، لاحظت انزعاجها ، لوحت لي بيدها في إشارة الى انها تريد تغيير مكانها ! ، لم استطع فعل شيء ، كانت مرتعبة طوال الرحلة حتى وصلنا إلى مطار استانبول التركي ، وأنا محاصر بجوار البدينة الكريهة كالذي يزول عنه الألم بعد عملية ناجحة بمجرد ابتعادها عني ، استعدت تنفسي ، وغادر الملتح أيضاً .. فحمدت الله كثيراً .
- ساعات نقضيها في مطار استانبول .. كان اشبه بخلية نحل دائبة العمل والزحام ، الجميع منشغل بداخل مطار عظيم ، التحقت بالطيران الروسي ، خلعت معطفي وجلست بجوار النافذة ، كنت أنيقاً و رزيناً ، رحبت بي المضيفة الروسية بكلمات خافتة ووجهاً عصريا ، لم أفهم ماتقول ، وتبرع أحد الركاب بترجمة ذلك ، التفت اليّ باسماً وتحدث إلي بلغة عربية ركيكة ، إنها تقول : اهلا بك على متن الخطوط الروسية ! ، أومأت برأسي مرحباً .. استطرد المترجم مؤكداً انه تعلم بعض مفردات اللغة العربية من جارته الشامية ! ، ارتفعت الطائرة ، حلقنا فوق سماء تركيا ، وسحابها ، وقت من الزمن وظهرت علينا أجواء روسيا الخلابة ، سعدت لرؤية عاصفة ثلجية ، وبعد دقائق ، هبطنا في مطار "موسكو" ، وبمجرد أن وطأت قدماي ارضها ، شعرت بالانسانية ، الهدوء سمة المكان ، الاناقة . الجمال ، تذكرت مطار "صنعاء" ورائحته النفاثة ، شعرت بصدمة الانتقال من الظلمات الى النور ، من القبح الى الجمال ، من لهجة باب اليمن المتراخية الى لغة البلاشفة العميقة ، ومن لكنة بداوة صعدة المجنونة الى فضاء العقل والحضارة والثقافة ، من أهل الكنايات المجهولة ، إلى أرض ديستوفسكي وستالين ولينين وبوتين .
- هنا "موسكو" حيث القانون لا فرق فيه بين ثري وفقير ، لا أحد يسطو على غيره ، ولا تقاتل اللجان الشعبية في بلد مثل هذا ، ولا ينصهر بالاموال الطائلة مهما كانت مغرية وفتاكة ، لا يوجد على ارضها من يدعي المشيخة ويسحب خلفه الشاصات بالرجال المسلحة ، لا يوجد اي امل لمثل مايحدثا لنا من مسلسلات ركيكة ،
المتسولين كذلك لا اثر لهم في منها شوارع وأزقة العاصمة الاسطورية ،
اشارة المرور لا تتوقف في وجه الفقراء ولا تفتح تحت اقدام الأغنياء ، حتى في غياب رجل المرور تكاد تخلو الزحام ، وان تراصت سلسلة العربات الانيقة تجدها مرنة ومرتبة ، انهم يعرفون كيف يديرون امورهم وان تفاقمت عليهم الظروف ،
لا احد يتحدى الدولة و جنودها ذي البزات العسكرية الانيقة المهيبة ، لم يصفع رجل المرور كما يحدث في صنعاء ، الكل ينتظر حتى إشارة عبوره ليمضي في دربه وشؤونه ، أتوق الى مثل ذلك ، اشارة المرور دليل على وعي المجتمع ، هكذا يقول الروس في أمثالهم ، حتى كلابهم تعامل بلطف وتقف عند الاشارة الحمراء ثم تركض للضوء الاخضر ، كل المخلوقات هنا لها عقل يدرك ويحترم النظام ، ونحن جميعا بلا عقل .. الله يحب كل شيء في هذه البلدة الرائعة !.
- واقع مفرط بالنقاء والامان ، واقع يُقبل السماء ويستحق المصافحة والسجود ، يستحق ان يضرب الشيعة صدورهم لاجله وليس لطقوسهم الميتة ، فعن أي حكمة وأمن وإيمان نباهي و "عدن" تتلظى بنار الحرب والكراهية ، عدن التي رضعت من الروس نظريات الاشتراكيين السوفييت ولما استقام عودها أقتتل أهلها في رعونة مخجلة ، عن أي مدنية يتحدث رجل الكهف ومليشياته تهدد بحر العرب ، وتقض مضاجع التهاميين الطيبين عند شواطى البحر الأحمر ، إننا غرباء وأغبياء ، تنقصنا ربطات العنق و قوانين المحبة التي تنتشر في كل العالم إلا في بلادي التي تفنى بجهالة الجاهلين ، وأقوال فتية الأدغال القادمين من العصر الحجري بذلك اللباس الممزق وبتلك الصرخة المُبددة في فراغ اللاوعي واللامنطق .
- هنا موسكو .. حيث تكون جنة الله و الملائكة يرحبون بهؤلاء في فردوس النعيم ، ولنا جهنم وبئس المصير .