أشدّ الرحال مجدداً من دمشق الى بيروت..

2013/08/01 الساعة 02:04 مساءً

رمضان…. كريم"
يتلوّى الطريق المعتم بين هضاب الحدود ودمشق...
وفي صمت السيارة التي تلتهم الطريق باستعجال خائف... يستولي عليّ حزن غامر...
أذكر بأسى كيف كنا نتنفس الصعداء حين ندخل حدود سورية، والآن صرنا نحبس الأنفاس إلى أن نغادرها...
*******************
صباح اليوم التالي في بيتنا في حي المزة بدمشق....
استيقظت لأجد بضعة بقع حمراء مؤلمة على ساقيّ، لا بد أنّها قرصات الناموس الذي لم يدعني أنام ليلة البارحة، أم أحمد ترمقني بقلق... تقول إنه من الأفضل استشارة طبيب، أبتسم لجارتي مستنكرة: "طبيب يا أم أحمد؟ من أجل قرصة ناموس؟."..
تتردد قبل أن تجيب بخجل: "يقولون... يقولون أن لسعه أصبح خطيراً بسبب... الجثث المتعفنة والنفايات في كل مكان"...
والمعيب أن أم أحمد محامية وقارئة و... ماذا تركنا إذاً للجهلاء؟...
لا ألومها... فالحرب خلقت بيئة خصبة تتوالد فيها الهواجس والإشاعات... يتناقل الناس فيها تخيلاتهم بصيغة حقائق... جاهزون للتصديق بعد أن روّض الرعب عقولهم...
ليس هذا فحسب ... بل دفعت الحرب أيضاَ بما تحت الأقنعة إلى السطح... فأغرقت القيم... ليطفو الانحطاط... تزايدت-في فوضى اضطراب الأمن والقانون-عمليات الاختطاف.. وتحوّل البلد الذي كان يتصدر قائمة الدول الأكثر أماناً في العالم.. إلى مصيدة عملاقة، يتبنى فيها صغار النفوس شريعة الغاب.. يأخذ كل حقّه-وأحياناً حق غيره- بيمينه... كيف لا والقضاء متهم في قفص الفساد.. والانتقام لا يحتاج أكثر من بضعة كلمات وشاية... وضباب الشكوك يشوّه قدرتنا على إبصار الآخر... وبيننا يكبر جيل حُرم التعليم لسنوات... قنبلة موقوتة.. وعجينة طيّعة يجرفها أي تيار..
لا.. لست ملكة التشاؤم، لكن القادم -للأسف- لا يبشر بفرج في المدى المنظور...
*******************
لن أغادر البيت اليوم في حر تموز الذي لا يطاق.. سألوذ بحضن فيئه.. أرحم.. رغم أن أجهزة التكييف وكل ما يمتّ للكهرباء بصلة لا يعمل معظم النهار..
أترحّم على أرواح من اخترعوا الكهرباء.. عصب الحياة.. وفي انقطاعها المتكرر يتندر السوريون أن الجهة الوحيدة التي يجمعون على موقفهم منها حاليّاً هي... مؤسسة الكهرباء... التي تستحوذ على جلّ انتقادهم....
يتضاعف عطش الصيام في هذا الحر... أعان الله الصائمين المضطرين للعمل تحت الشمس هذه الأيام.. أكف عن التذمر بخجل بعد أن أفكر بهم... وبعد أن أتذكر حالنا حين نكون في بيروت... فبعد شهور بين بيروت ودمشق أدركنا أننا بطرنا في تقدير نعمة الخدمات التي اعتدنا أن نحظى بها في سورية..
فبينما تشكل الكهرباء والماء مشاكل حقيقية في قلب بيروت... تصلان أبعد قرية وبأسعار رخيصة في سورية..
حيث تعودنا بديهية الطرق المسفلتة جيّداً... والأمان الذي جنبنا معايشة الخوف اليوميّ...
حيث لا نخشى أن نمرض...ولا نحمل همّ تعليم أولادنا.. لأن الطبابة والتعليم شبه مجانيّين.. في حين أتساءل كيف بإمكان الفقير في لبنان أن يمرض أو يتعلَّم أو حتى أن يقتات في هذا الغلاء الفاحش؟..
يبدو أننا كنا في جنّة... لم نتعرّف إليها إلا أشلاء...
*******************
يوم أنهكه الحزن...
لا شيء جميل أمنحه لمن أحبّهم هذا المساء...
كأنني شجرة كُسرت.. وبقيت شرايين أغصانها متشبثة بأصلها... تؤلمها حتى مداعبة النسيم...
لذا... أويت كمعظم أهالي دمشق إلى غرفتي باكراً...
العاشرة مساءً... والمدينة تغصّ بصمت مؤلم...
من يصدق أنّه مساء رمضاني في دمشق؟...
في مثل هذه الأيام قبل سنين كانت دمشق كلّها بيت واحد كبير... تسهر حتى أذان الفجر.. دعوات وضيافات في كل مكان... يتبادل فيها الناس الزيارات والمحبّة.. يصلون ما انقطع، يتسلّون بلعب طاولة الزهر والورق...
كان لرمضان نكهته... وكنّا نترقبه بلهفة.. فإلى جانب وجهه الديني.. كان له بعد اجتماعي أيضاً... موائد الافطار-العامة في الطرقات وكذلك الخاصة- كانت لوحات حب وتسامح... نلتفّ حولها معاً صغار وكبار.... مسلمين ومسيحيين... من كل الطوائف.... مثلما اعتدنا أن نحتفل معاً بعيد الميلاد والفصح... مثلما تعلّمنا وعلّمنا أطفالنا أن ينتظروا بلهفة تزيين بيوتنا بشجرة عيد الميلاد... لأن الأعياد كلّها... كلّها.. مناسبات للفرح العام... والعيد ليس عيداً حين لا يجمعنا..
*******************
تبدو دمشق كأنها لا تذكر رمضان...
فأي رمضان والمسحر اختُطف... وشوارع الليل الفيّاضة بالحياة أُخرست.. والأطباق الشهيّة المتنقلة بين البيوت أضحت ذكرى جميلة؟
أي رمضان والغلاء أجبر الكل على صيام دائم؟...
أي رمضان في غياب التراحم والتواصل بين الناس؟...
المسافات ذبحتها الحواجز، فما عدنا نستطيع أن نجتمع على مائدة إفطار الأهل أو التحلًق حول التلفاز بعده لمتابعة أحد المسلسلات الرمضانيّة... وأين هي أصلاً مسلسلاتنا التي حلّقت بالدراما السورية لتتقدم كل نظير، حتى خلت -في مواعيد عرضها– الشوارع، وصار للشام حيّزها في كلّ بيت عربي؟..
اليوم تبعثر فنانونا بين الدول والعروض التجاريّة التي أذابتهم في بوتقات مختلفة,.. أتنهد بحسرة وأنا أشهدهم "يمثلون" بلهجات أخرى..
*******************
أين عربات خبز رمضان المنقوش ب"حبّ البركة.... بل أين البركة أصلاً؟
وأين "المعروك" المحشو بعجينة التمر سيّد مائدة السحور؟ وأين رقاقات "هوا الناعم" المموجة المحلاة بدبس التمر... تزيّن أبسط موائد رمضان الدمشقية وأفخرها... وصوت بائعها يعلو متغزّلاَ وهو يتلقفّها بمهارة.. ساخنة شهيّة من وعاء الزيت الفضّي: "رماك الهوى يا ناعم"..
ليت "الهوى" هو من رماك اليوم يا ناعم..
لا... لا بهجة لرمضان هذا العام... ليس من اختلاف يميّزه عن بقية الأشهر..
الصيام؟ ما زلنا صائمين منذ ?? شهراً ... وها نحن ندخل رمضاننا الثالث في صيام إجباري عن كل ما عشقناه في سورية... صيام لا ينهيه عيد فطر... صيام حتى عيد الفرج...
قيام الليل؟... أشك أن هناك سوري واحد ينام منذ سنوات ليله بشكل طبيعي... ألا نقضي ليالينا الطويلة أرقين.. نبتهل الى الله أن ينهي هذا العذاب قبل أن ننتهي؟
*******************
أشدّ الرحال مجدداً من دمشق الى بيروت..
على الحدود يلوح الحزن الذي باغتني وأنا أقصد دمشق قبل أيّام... هل سينصب خيمته طويلاَ هنا؟...
أنزلق في مقعدي... أتابع دون تركيز الطريق الجبلي المتعرج يتسلّق ظهر البيدر...
كأنه يزداد طولاً في كل مرّة أهمّ باجتيازه... وعلى ضفتيه تتراءى محطات عمري.... ألملمها.. بل ألملم طيفها... لم تقبل يوماً أن تغادر معي..
أدعه خلفي وأمضي إلى اللامكان... ذلك الوطن لم يعد موجوداً إلا في بقايا الذاكرة... بعضه اغتيل وبعضه انتحر وأخشى أن يلحق ما بقي منه.. بإحدى بعضيه..
*******************
الرسائل تنهمر على شاشة الجوال:
"كل عام وأنتم بخير... رمضان كريم"...
أجيبُ برسالة مقتضبة، تختصر الحالة النفسية للسوريين في كل مكان: "الله أكرم"...
علّ الله الأكرم يستجيب لدعاء ملايين الطيبين...
فيستعيد رمضان القادم عافيته وعافيتنا... ويعود -كما كان- كريماً...