الإشكالية الأكبر التي تواجهها فكرة الفيدرالية في اليمن هي إشكالية الرفض من قبل أقوى طرفين رئيسيين فاعلين في شمال اليمن وجنوبه: ففي الشمال يرفضها حزبا المؤتمر الشعبي العام (وأنصاره)، والتجمع اليمني للإصلاح (ومعه حزب الرشاد وربما بعض أحزاب المشترك) والحزبان الرئيسيان لهما حضورهما في الجنوب لكن هذا الحضور أصبح عرضة للتآكل والتقلص بفعل ما أنتجته سياساتهما طوال فترة ما بعد حرب 1994م وموقفهما السلبي من مطالب ضحايا هذه الحرب، وفي الجنوب ترفضه معظم فصائل ومكونات الحراك السلمي الجنوبي، والموافقون منهم على مشروع الفيدرالية يشترطون، أن تكون ثنائية (أي بإقليمين شمالي وجنوبي) وأن تكون مقترنة بفترة زمنية تليها عملية استفتاء في الجنوب على البقاء في الدولة اليمنية الواحدة أو العودة إلى النظام الشطري، وتبدو أسباب رفض الطرفين معروفة، فلكل طرف من الرافضين مصالحه التي يستميت في الدفاع عنها.
رفض الفيدرالية من قبل طرفين قويين ومؤثرين في الساحة اليمنية يبين حجم واتساع الشقة القائمة بين القوى السياسية في اليمن، وبالتالي حجم وضخامة وجدية المشكلة وأهمية دراستها بتروٍ وإناة بعيدا عن ثقافة التخوين والتكفير والاتهام، فالطرف الأول يرفض الفيدرالية ليس من منطلق حبه (للوحدة اليمنية) حتى وإن تظاهر بهذا، بل من منطلق أنها (أي الفيدرالية) ستسحب عنه مصالح وغنائم مهولة حققها زعماؤه نقلت معظمهم من مرتبة المواطنين العاديين وفي أحسن الأحوال الموظفين الحكوميين المقتدرين أو مشائخ القبائل ميسوري الحال إلى مرتبة المليارديرات والميلتيمليارديرات، وهم بذلك ولذلك لا يمكن أن يكتفوا بما حققوا من وراء هذه الغنائم بل إنهم يرغبون في تأبيد هذا الوضع وتحويله إلى أمر واقع ومستمر، وأحقية غير قابلة للتغيير، بعد ذلك يأتي توظيف المقدس والمحرم الديني والإخلاقي للتستر على هذه الحقيقة.
أما الطرف الآخر من الرافضين للفيدرالية (أي فصائل الحراك الجنوبي السلمي ومعهم غالبية المواطنين الجنوبيين) فإنهم ينطلقون من أن كل مصادر وأسباب المعاناة التي تعرض لها الجنوب في العقدين الأخيرين لم تكن إلا نتيجة للوحدة المرتجلة التي أتت بلا دراسة ولا ممهدات ولا تفكير في إمكانية خلق اندماج حقيقي بين طرفي الوحدة (والطرفان هنا هما الشعبان في الشمال والجنوب)، وفي الحقيقة لا يمكن إنكار إن مأساة شعب الجنوب لم تبدأ في 7/7/ 1994م بل لقد بدأت في مايو 1990 عندما وجد المواطن الجنوبي نفسه مكشوفا على علاقات اجتماعية واقتصادية جديدة لم يألفها ولم يعد نفسه للتكيف معها بل ولو أعد نفسه لهذا التكيف لما استطاع، حيث لم تكن قد توفرت لها الأرضية الاقتصادية والاجتماعية، فالمواطن الذي تعود أن يحصل على العلاج والتعليم المجانيين وأن يحصل على العمل من الدولة وأن ينتظر دوره في الحصول على السكن من الدولة، وأن يحميه القانون والقضاء وأن يلجأ إلى مركز الشرطة والمحكمة عندما يتعرض للظلم أو العدوان من أحد وجد نفسه مجردا من كل هذه الأسلحة ولم يكن قد أعد لنفسه الأسلحة البديلة كما هو الحال مع شقيقه في الشمال، ويعتقد أصحاب هذا الموقف أنه حتى لو تغير شكل الوحدة من الدولة البسيطة إلى الدولة الاتحادية، فإن الذي سيظل قائما هو نظام الجمهورية العربية اليمنية الذي يمتلئ بالعيوب والاختلالات والويلات التي تجري فعلها على البسطاء والمسحوقين والمهمشين،وهم السواد الأعظم من الشعب اليمني، لكن أصحاب هذا الموقف لا يقدرون أهمية وجود البرلمان المحلي والحكومة المحلية الفيدراليين وفضيلة الحرية التي لا بد أن يكفلها القانون أو يفرضها الشعب على الحكومات حتى وإن حاولت الالتفاف على إرادتهم خاصة إذا ما أمكن تحويل مخرجات مؤتمر الحوار الوطني إلى نصوص قانونية ودستورية ملزمة للجميع، كما لا يتصور المتمسكون بهذا الموقف أنه مثلما يمكن أن يحتال عليهم حكام الفيدرالية أو الدولة الأحادية يمكن أن يمارس هذا الدور عليهم حتى في ظل الدولة الشطرية إذا ما اختل التوازن بين حق الأغلبية في التعبير عن خياراتها وقدرة المتحذلقين والمخادعين السياسيين في الالتفاف على إرادة الأغلبية وقادة الدولة الشطرية بالتأكيد لن يكونوا من صنف الملائكة.
علينا هنا أن نتجرد من تناول قضية الوحدة الاندماجية أو الفيدرالية أو حتى الانفصال من منطلق الفضيلة والرذيلة الإخلاقيتين، أو من منطلق المقدس والمحرم الدينيين، لأن هذه القضية هي قضية سياسية اجتماعية اقتصادية ترتبط بما يحقق مصالح الناس، وليس بالضرورة أن من يتمسك بالوحدة الاندماجية، أكثر إيمانا وتقوى وورعا وإسلاما، أو أكثر وطنية وشرفا ونزاهة وخلقا من المنادي بالفيدرالية أو حتى بالانفصال، فمن المعروف أن من بين المدافعين عن (الوحدة الاندماجية) مئات الفاسدين واللصوص بل والمجرمين الذين يكون الخوف من الله هو آخر ما يشغل بالهم وينضمون في ذلك إلى بعض المؤمنين الصادقين والشرفاء وأصحاب السمعة المحترمة، ومثل ذلك يمكن أن يقال على المنادين بالانفصال والفيدرالية، وهنا لا بد من معاتبة الذين يتهمون دعاة الوحدة بالخيانة والعمالة (للنظام اليمني) ومثلهم من يتهم دعاة الانفصال بالعمالة والخيانة واللاوطنية، لأن الوحدة والانفصال، وطبعا الفيدرالية لا علاقة لكل منها بالإيمان والكفر ولا بالفضيلة والرذيلة وإن قيمة كل منهما تكمن في ما تقدمه للناس من مصالح وما تحققه للمجتمع من استقرار وتوازن اجتماعي وما توفره للشعب من تنمية ونهوض وازدهار وخدمات وحريات وحقوق أو العكس.
إن التوظيف الديني والأخلاقي لقضية الموقف من الوحدة (الاندماجية أو الفيدرالية ) أو الانفصال يأتي فقط من أن أجل تسويق مواقف أصحاب هذا التوظيف، وتسفيه مواقف المخالفين لهم، فالذين يصرون على إن الوحدة الاندماجية هي فريضة دينية إنما يسيئون إلى الإسلام لأنهم يتصرفون وكأنهم يقولون لنا تحملوا كل المظالم والفواحش والمنكرات التي أتت بها الوحدة الاندماجية فهي واجب ديني والصبر على متاعبها واجب ديني وفي ذلك لعمري أبشع الإساءات إلى دين العدل والحرية والحق والفضيلة والورع والتقوى وربط الإيمان بعمل الصالحات، في حين كلما جاءتنا به وحدة 22 مايو الاندماجية وحرب 7/7 لا علاقة له بأي من الصالحات، كما إن شيطنتهم لمطالب المظلومين وتكفيرهم وتصوير مواقفهم الرافضة للظلم والإقصاء والسلب والنهب والتمييز الشطري والاستكبار والقتل والقمع على إنه يتعارض مع الإسلام وتعاليمه إنما يقدمهم لنا على إنهم يريدون أن يقولوا لنا أن هذه المظالم قد جاء بها الإسلام وأي مطالبة بتغييرها إنما هي رفض للإسلام.
الفيدرالية أو الدولة الاتحادية مثلما ليست لعنة شيطانية أو حيلة للتمهيد للانفصال فإنها أيضا ليست استمرار للنظام الأحادي المركزي الشمولي الممتلئ بكل عوامل الفساد والظلم والاستبداد والطغيان، والفيدرالية بهذا لا تقدم وصفة سحرية لحل قضايا الوطن بقدرما توفر أرضية خصبة للإبداع والتميز والتنافس والمبادرة الخلاقة لتقديم المثل الأفضل في الإدارة والتنمية والخدمات واحترام الحريات والحقوق، وهو ما يحفز الأقاليم على التباري في تقديم هذا الأفضل.
أما الانفصال فإنه سيظل واردا إذا ما فشلت الدولة البسيطة (المركزية الأحادية) في تحقيق مصالح الوطن والمواطن، وهي قد فشلت بكل تأكيد، كذلك سيظل واردا إذا لم تنجح الدولة الاتحادية في تلبية تطلعات الناس نحو حياة أفضل وحريات أوسع وحقوق أكثر احتراما وخدمات وتنمية أوفر ومكانة أكثر احتراما بين الأمم.
برقيات:
* الصحفي المبدع والكاتب المميز، وصاحب صحيفة "النداء" الرائعة الأستاذ سامي غالب بدا غاضبا وساخطا غلى دعاة الفيدرالية، لكنه لم يقل لنا أسباب غضبه، . . نعم يا صديقي صيغة حوار موفمبك ليست المثلى لكن البدائل المتوفرة كانت أسوأ، والعبرة ليست في المكان أو الشكل بل في المخرجات.
* أحد قادة الحزب الحاكم، سابقا وحاليا، ويسبق اسمه بحرف (د) بذل جهدا كبيرا في محاولة إقناعنا بأن الفيدرالية فكرة استعمارية هدفها تمزيق الأوطان وخص بالذكر بريطانيا والولايات المتحدة كدولتين استعماريتين، . . .مسكين هذا الجهبذ، هو لا يعلم أن هاتين الدولتين فيدراليتان إلا إذا كان يريد إقناعنا انهما تتآمران على بلديهما عندما قبلتا بالفيدرالية لهذين البلدين.
* قال الشاعر أبو الطيب المتنبي:
إذا كنتَ تَرْضَى أنْ تَعـــــــيشَ بذِلّةٍ فَلا تَسْتَــــــــعِدّنّ الحُسامَ اليَمَانِيَا
وَلا تَستَــــــطيلَنّ الـــرّماحَ لِغــــــــَارَةٍ وَلا تَستَـــــــجيدَنّ العِتاقَ المَذاكِيَا
فما يَنـــــــفَعُ الأُسْدَ الحَياءُ من الطَّوَى وَلا تُــــتّقَى حتى تكونَ ضَوَارِيَا
إذا الجُودُ لم يُرْزَقْ خَلاصاً من الأذَى فَلا الحَمدُ مكـسوباً وَلا المالُ باقِيَا
وَللنــــــــّفْسِ أخْلاقٌ تَدُلّ على الفَتى أكانَ سَخاءً ما أتَى أمْ تَسَاخِــيَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ