تذكرت هذه المقولة الشهيرة لأحد قادة الثورة الاشتراكية الروسية (السوفييتية لاحقا) وأنا أستمع إلى حوار على إحدى الفضائيات اليمنية المتكاثرة كتكاثر الذباب، والتي قلما تقدم للناس شيئا مما يمكث في الأرض عندما قال هذا القائد منتقدا أصحاب الجملة الثورية والشطحات اليسارية المتطرفة بأن "أقصى اليسار يلتقي مع أقصى اليمين".
كان الضيوف على شاشة القناة اليمنية من كل من المؤتمر والإصلاح والاشتراكي و القطاع الخاص وكان الحديث عن مؤتمر الحوار الوطني والمنتظر منه، وكالعادة تكون القضية الجنوبية في مقدمة القضايا بسبب حساسيتها، والأكثر من هذا بسبب عدم الجدية في الإقدام على معالجات فعلية تجعل منها أداة فاعلة وبناءة في صياغة يمن جديد يصعد بأهله من حضيض التخلف والاحتراب والفتن الداخلية والتسول إلى مستوى دولة المواطنة التي تكفل لمواطنيها الحد الأدنى من التنمية والعيش الحر والآمن والكرامة الإنسانية.
كان ممثل المؤتمر الشعبي العام هو من الوافدين من أقصى اليسار الاشتراكي وكان ممثل الإصلاح من غير المعروفين سياسيا لكنه من المفترض أنه كغالبية الإصلاحيين الذين يعتبرون الحداثة شر مستطير والدولة المدنية تهدد الشريعة الاسلامية وتحرير المرأة مخالف لتعاليم الدين الإسلامي وتوقير المشائخ واجب شرعي باعتبارهم "ورثة الأنبياء"، وما إلى ذلك.
حيثما تحاور إصلاحي ومؤتمري فإنهما قد يختلفان في كل شيء حتى لو كان موضوع الخلاف هو لون السماء أو اتجاه شروق الشمس، لكنهما سيتفقان بدون جدال عندما يكون موضوع النقاش هو القضية الجنوبية، وعلينا أن لا نستغرب هذا الاتفاق فهو لا يقوم على أساس أن الحزبين شماليان كما يصور البعض بل لأنهما الشريكان الأساسيان في صناعة مأساة الجنوب والجنوبيين في حرب 1994م وهما من دمرا المشروع الوحدوي ولا يرغبان في التكفير عن خطيئتهما التاريخية هذه التي حولت هذا المشروع الحلم إلى غنيمة ظلا وما يزالان يتقاسمانها بالمناصفة حتى اليوم، وعندما أقول ذلك فإنني أعني تلك النخبة القيادية من الحزبين التي أثرت ثراء فاحشا من وراء سياسات النهب والسلب والاستحواذ واستباحة كل شيء مما فوق الأرض وما تحتها في الشمال والجنوب على السواء، لكن نصيب الجنوب من النهب كان أكثر نتيجة لمجيئه بعد أن ظل كل شيء هناك ملكا للدولة فآل إلى هذه النخبة أما مئات الآلاف من البسطاء من قواعد الحزبين فهم لا يختلفون عن بقية المهمشين في شيء إلا في دفاعهم عن مفاسد تلك القيادات.
كان ممثل الحزب الاشتراكي من شباب الثورة السلمية (وهو بالمناسبة من محافظة شمالية) يقول أن حل القضية الجنوبية لا يمكن أن يتحقق بدون فيدرالية ثنائية ترد الاعتبار للجنوب وتعيده إلى مكانته الطبيعية في المعادلة السياسية اليمنية، وراح الشاب الاشتراكي يبرر أن الجنوب دخل الوحدة كدولة واحدة وهذا هو ما يبرر التمسك بفيدرالية الإقليمين التي تحافظ على يمن واحد قابل للاستمرار والنمو والازدهار ومحميا من مخاطر التفكك والتشظي ومن تسلط الاستبداد والطغيان في آن واحد، . . فماذا قال اليساري جدا واليميني جدا (وهما بالمناسبة من محافظات جنوبية)؟
كان أحدهما قد قال في حديث سابق أن سقطرى والمهرة كانتا دولة كاملة الأركان قبل الاستقلال في العام 1967م وإنهما بعد ذلك تحولتا إلى جزء من مديرية المعلا وراح يبرر أسباب الدعوة للإقليم الشرقي الذي أعلن عنه 52 من مندوبي مؤتمر الحوار متجاهلين تطلعات حوالي مليوني مواطن في هذه المحافظات، لكن هذا السيد نسي أن سقطرى في العام 1967 لم يكن فيها أحد من ناطقي العربية وإن تبعيتها لمديرية المعلا، لم يكن له سوى معنى إداري بينما حصلت بعد 1967 على فرصة التنمية والتعليم والخدمات وأصبح من أهلها الجامعيين والدكاترة والحقوقيين والقادة العسكريين والسياسيين، وإنها بعد 1994م تحولت إلى عزبة للسادة الوافدين الجدد الذين نهبوا سقطر مثلما نهبوا بقية الجنوب.
أما اليساري جدا فقد قال ما معناه إنه إذا كان عقد وحدة 22 مايو قد نتهى في يوم 7/7/1994م عندما اجتاحت قوات الجمهورية العربية اليمنية جنوب اليمن فإن عقد إنشاء جمهورية اليمن الديمقراطية قد انتهى في 22 مايو 1990 تماما وبالتالي فإن من حق أبناء مناطق حضرموت والمهرة أن يستعيدوا دولهم التي انخرطت في دولة اليمن الديمقراطية بموجب ذلك العقد متناسيا أن انخراط حضرموت والمهرة وكل مناطق الجنوب في دولة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية جاء طوعيا وبفعل تطلعات كل أبناء الجنوب إلى دولة حديثة بدلا من الفسيفساء الجنينية في 23 مشيخة وسلطنة لم يكن بين سكان بعضها من يحمل شهادة الإعدادية.
من غرائب الأمور أن الذين يحنون إلى دولة سقطرى وحضرموت والمهرة هم من المتشددين جدا للتمسك بالوحدة الاندماجية ويعتبرون مجرد الحديث عن دولة غير اندماجية (فيدرالية أو ما شابهها) جريمة بحق (الوحدة اليمنية)، ولا ندري عن أي وحدة يتكلمون بعد أن أقروا بأن وحدة 22 مايو قد أسقطها اجتياح الجنوب في 7/7؟ فكيف لمن يطالب بالوحدة الاندماجية ويعتبر التفريط بها تفريطا بـ"مكسب وطني" بأن يعود ليطالب باستعادة دولة حضرموت أو دولة المهرة وسقطرى؟
ن الأمر في غاية البساطة، إن شركاء حرب 1994م لا يرغبون في التراجع عن تمسكهم بالغنائم المهولة التي حققوها باستغلالهم للنصر الزائف الذي يقولون أنهم حموا به الوحدة، ولا يريدون للمصالح الكبيرة التي كونوها خلال العشرين عاما منذ احتلال الجنوب أن تتقلص، كما إنهم لا يكتفون بما حققوا من مكاسب عملاقة على حساب الشعب اليمني بنهبهم للثروات واتجارهم بمصالح الشعب وسسيطرتهم على الموارد وهيمنتهم على صناعة القرار، بل إنهم يريدون الاستمرار في فرض هذا الوضع إلى أبد الآبدين تحت حجة حماية "المصالح الوطنية" التي ليست سوى مصالحهم وحدهم، والوطن منها براء.
إصرار هؤلاء على الإبقاء على الأوضاع كما بدت عليه صبيحة 7/7 يغيب عن هؤلاء حقائق عديدة لعل أهمها، أن الشعب اليمني بجنوبه وشماله قد كشف حقيقتهم، وإن الشعب في الجنوب قد حسم قراره ولم يعد يتردد في التفضيل بين خيارين أحدهما مر والآخر أكثر مرارة بل إنه قد اختار طريق النضال السلمي حتى استعادة حقوقه المادية والسياسية والتاريخية والمعنوية التي سلبها منه أبطال 7/7 وإنهم بهذا الموقف المتصلب الذي يرى في وحدة 7/7 مقدسا يجب عدم المساس به إنما يبرهنون على استحالة التعايش معهم وبذلك يضيفون مبررات جديدة إلى المطالب بإنهاء عقد وحدة 1990 بعد أن وأدوها وأشبعوها موتا.
رفض الدولة الاتحادية والتمسك بالوحدة الاندماجية من ناحية والمطالبة بإقليم شرقي أو استعادة دولة حضرموت والمهرة وسقطرى من ناحية أخرى، ومن ذات الشخص يبين كم الهزل والسخرية التي يتعامل به بعض السياسيين مع قضايا جدية ومصيرية ويؤكد أن هؤلاء لا يحترمون معنى للحوار ولا يفكرون بمصالح وطنية (كما يدعون) ولا يقدرون حتى المخاطر المترتبة على مغامراتهم التي ما انفكوا يتعاملون بها مع مصير الوطن والمواطن، وهو يبين ذلك الهلع الذي يصيب هؤلاء عندما يدور الحديث عن نقل الصلاحيات من المركز إلى الأقاليم أو الوحدات الإدارية الدنيا، نظرا لما يمثله من تقليص لهييمنتهم وتهديد للمصالح غير المشروعة التي يجنونها بفضل الهيمنة المركزية على مصالح السكان في الأطراف، وعندما يصدر هذا الموقف عن شخصيتين إحداهما يمينية والأخرى يسارية فهو إنما يؤكد فعلا أن "اقصى اليسار يلتقي مع أقصى اليمني".
برقيات:
* الاستهداف الذي تعرض له الزميلان محمد راكان ومحمد الحميري عضوا مؤتمر الحوار وقبلهما الزميل علي العمراني وزير الإعلام من قبل بعض النقاط الأمنية يمثل جزءا من فلسفة (النخيط) والاستهتار بمهام وواجبات رجال الأمن وهو عمل مدان بكل المعاني، والسؤال : ماذا فعلت وزارة الداخلية والأجهزة التي ينتمي إليها من أقدموا على هذه الأفعال المشينة، ألف سلامة للزملاء ولا نامت أعين الجبناء.
* إلى الزميل التربوي محسن صالح حسين بن عبد الواحد: ليس كثيرا ما حصلت عليه وهو لا يمثل إلا جزءا من إنصاف تأخر كثيرا وربما لا يساوي ما أنت تستحقه لكن الزهد الذي عرفت به والنزاهة التي تربيت عليها ربما تجعلك تشعر بأن التعيين الأخير كاف لمن هو مثلك، ألف مبروك الإنصاف الجزئي، ولك أصدق التمنيات بالنجاح والتوفيق.
* قال فيلسوف اليمن وشاعرها الفقيد عبد الله البردوني:
صـــوتها دمعٌ وأنغام صبايا وابـــــــــــــــــتساماتٌ وأنّات عرايا
كلّما غــنّت جرى من فمها جدولٌ من أغنـــــــــــــــياتٍ وشكايا
أهي تبكي أم تغنّي أم لها نغم الطـــــــــــــــير وآهات البرايا؟
هل لها قلبٌ سعـــــيدٌ ولها غيره قلب ٌ شـــــــــــقيٌّ في الرزايا؟
أم لـها روحان: روحٌ سابحٌ في الفضا الأعلى وروحٌ في الدنايا؟
أم تناجت في طوايا نفسها لحن عرسٍ وجراحات ضــــحايا ؟