رحم الله الشهيد الدكتور عبد الكريم جدبان الذي اغتيل غدرا مساء الجمعة 22 نوفمبر 2013م بعد أدائه صلاة العشاء في جامع الشوكاني في العاصمة صنعاء.
اغتيال د جدبان ليس اغتيال شخص عابر طريق عن طريق الخطأ ولا هو اغتيال على خلفية نزاع شخصي على أرضية أو ساقية أو قسط في شركة أو أسهم في بنك، بل إنه اغتيال سياسي بامتياز لاعتبارات عدة أهمها أولها كونه نائب برلماني له حضوره في البرلمان اليمني الملئ بالزاهدين في الحضور، وثانيها لأنه محسوب على أحد طرفي النزاع في محافظة صعدة ـ الطرفين الذين يصران على جر اليمن كلها إلى فتنة يمكن التحكم ببدايتها لكن لا يمكن التنبؤ ولا التحكم بمآلاتها المخيفة، وثالثها أن النائب جدبان له مواقف واضحة من العديد من مراكز الفساد والوزراء الفاشلين، ورابعها أن النائب جدبان شخص سياسي وليس له أي تنازع حقوقي أو مدني أو جنائي مع أحد لا في صنعاء ولا في غير صنعاء.
المتأمل في التوقيت الذي يأتي فيه اغتيال النائب د. عبد الكريم جدبان يمكنه أن يرسم مجموعة من الاحتمالات والفرضيات، فالاغتيال يأتي بعد ساعات من الأخبار القائلة بالتوصل إلى اتفاق الفصل بين طرفي النزاع في مناطق صعدة وبعض مديريات حجة (حرض على وجه الخصوص) وهو ما يعني احتمال الدخول في تهدئة وربما الوصول إلى حل نهائي لمصدر النزاع الذي بدأ في منطقة دماج ـ صعدة، وهو ما يعني أن القاتل لا يرغب في تطبيق اتفاق التهدئة لأنه يعلم أن الدكتور جدبان المقرب من جماعة أنصار الله له من الأنصار الذين لن يقفوا مكتوفي الأيدي بل لا بد أن يقوموا بالرد للانتقام حتى لو أخطأوا في اختيار الهدف فالغاية هي استمرار اشتعال فتيل الفتنة، بغض النظر عن الضحايا، ومن ناحية أخرى يأتي الاغتيال واليمن على بعد أيام من نهاية أعمال مؤتمر الحوار الوطني الذي يشارك فيه الدكتور جدبان كممثل عن أحد المكونات السياسية المهمة في اليمن، وبعد هجمة شرسة تعرض لها مساعد الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه إلى اليمن تضمنت هذه الحملة تأكيدات ممن شنوها على أن مؤتمر الحوار الوطني قد فشل، وحملوا بن عمر مسئولية فشل المؤتمر، وهو ما يجعلنا نبحث عن حلقة الوصل بين حادثة الاغتيال وبين موضوع الهدنة وقرب نهاية مؤتنمر الحوار، ومنه يمكننا الاستنتاج أن القاتل (ومن دبر القتل) لم يكن يهدف فقط إلى تصفية شخصية سياسية معروفة بمواقفها وتوجهاتها السياسية ولا إلى إفشال مساعي إنهاء النزاع في صعدة وتثبيت وقف إطلاق النار على طريق حل المشكلة حلا جذريا بل وإلى خلط الأوراق وزرع المزيد من المتفجرات في طريق الوصول بمؤتمر الحوار الوطني إلى نهايته المأمولة، . . . هذه الفرضيات تجعلنا نطرح تعدد الاحتمالات والفرضيات حول الجهات التي تقف وراء عملية الاغتيال فالمستفيدون من حادثة الاغتيال هذه هم كثر بقدر كثرة المستفيدين من استمرار الحرب وازدهار تجارة السلاح وزعزعة الأوضاع الأمنية وبقدر كثرة الفوائد المترتبة على فشل مؤتمر الحوار الوطني الذي ذهبوا للتبشير بفشله منذ بدايته وبقدر المستفيدين من فشل التسوية السياسية برمتها.
سيكون من الحكمة أن يأتي الرد على هؤلاء ليس بالانتقام من أي طرف سياسي أو عسكري بل بالحرص على إنجاح أعمال مؤتمر الحوار والسير نحو بناء الدولة التي يمكن لها أن تتولى إنصاف د عبد الكريم جدبان ومعه آلاف من ضحايا الدراجات النارية وألغام الطرقات وناشطي المسيرات والفعاليات الجماهيرية وشباب الساحات أما الانجرار وراء القتل والقتل الآخر فهو إنما يحقق للقتلة الغاية التي خططوا لها يوم إن خططوا لاغتيال المرحوم د النائب البرلماني عبدالكريم جدبان رحمة الله عليه.
* * * *
كان عبد الكريم من أوائل أصدقائي الجدد في العام 2003م عندما دخلت مجاس النواب وكان هو من بادر بالتعرف علي وتقديم نفسه لي كنائب مستقل، وكعادتي وثقت بكل كلمة كان يقولها لي خصوصا وإنه كان شديد النقد للممارسات المتبعة في المجلس وفي البلد عموما، كما إنه بدا لي صاحب ثقافة رفيعة وخلفية ذهنية ومعرفية متسعة ، وعندما سألته عن سبب انخراطه في كتلة المؤتمر الشعبي العام بعد أن كان مستقلا برر لي ذلك بأن لهذا الموقف أغراض تكتيكية لن تثنيه عن مواقفه السياسية.
عبد الكريم الذي صار لاحقا الدكتور عبد الكريم قارئ جيد وباحث صبور ومحلل متعمق، وقد حضرت مناقشة بحثه في الماجستير الذي كان ساخنا وقويا ومعقدا لكنه حصل على تصويت اللجنة، وكانت رسالته في الدكتوراه كما علمت من المواقع الإلكترونية عن “أصول الفقه للإمام ابي طالب يحيى بن الحسين الهاروني ” وحصل بموجبها على هذه الدرجة العلمية بامتياز.
عندما نشبت حرب صعدة الأولى وقد كان موقف الحزب الاشتراكي وكتلته اتلبرلمانية ضد الحرب أصلا وهو ما دفع حزب السلطة وأنصاره إلى اتهامنا بالحوثية لرفضنا حل الخلافات الفكرية عن طريق السلاح والحروب، حينها كان المرحوم هو مصدري الرئيسي في الحصول على أخبار صعدة، كنت أسأله كل صباح عن الجديد وكان أحيانا يأتي صباحا ودون أن أسأله ليقول لي اليوم أو البارخة جرى كذا كذا في صعدة، وكنا نحاول التصدي للحرب من حيث المبدأ بغض النظر عن المخطئ والمصيب فيها لكن التوجه العارم في البرلمان كان أن الخاطئ هو كل من يعادي الرئيس، ومن هنا جاءت أوصاف الحوثيين بـ"الروافض"، و"النبتة الشيطانية" و"الشجرة الجهنمية" وغيرها من الأوصاف التي وردت على لسان مدير مكتب رئيس الجمهورية وسرعان ما تناقلتها وسائل الإعلام كمسلمات لا تقبل النقاش.
ظل عبد الكريم عضوا في كتلة المؤتمر الشعبي العام رغم رفضه لحرب صعدة وتزمته من استمرارها، ولم ينسحب من كتلة المؤتمر إلا في العام 2011 بعد اندلاع ثورة الشباب السلمية، لكن لم تكن عضويته في المؤتمر لتمنعه عن تبني مواقفه المتميزة التي تعبر عن قناعاته الفكرية والسياسية المتميزة مثل الكثير من أعضاء المؤتمر الذين انسحبوا فيما بعد وشكلوا كتلة "الحرية والبناء"
* * * *
لا يمكن الرهان كثيرا على ما ستفعله الحكومة ولجان التحقيق التي يمكن أن تشكلها لأن هذه اللجان وإن شكلت قد تحتوي على ممثلين للقتلة ومن يقف وراءهم، ومثلما تلاشت المعلومات عن أسباب اغتيال العميد محمود الردفاني واللواء بارشيد وطاقم الطائرة العسكرية ومثلما فشلت التحقيقات في الكشف عمن قتل شباب الثورة وأحرق ساحة الحرية بتعز وإحراق مصنع الذخيرة الذي تسبب في حرق المئات من سكان أبين، ستتلاشى كل المعلومات عن اغتيال الشهيد النائب الدكتور جدبان، لكنت عزاؤنا أن القتلة سيتوارون وتتوارى شجاعتهم وسيختفون كما تختفي الفئران حتى وإن أصدروا بيانات النعي والتنديد.
رحم الله النائب د. عبد الكريم جدبان وغفر الله له وعفى عنه وأسكنه فسيح الجنان، و"إنا لله وإنا إليه راجعون".
خاطرة شعرية:
رحــــــــــــم الله فقيداً غالياً غاب عنا دون أن يتركــنا
غاب عنا جسداً لكــــــــــــنهُ لم يــــزل متقداً في دمنا
ذكرهُ ما زال في أفـــواهنا ينشد الألحان في أصواتنا
إنه ما مات بل مات الذي عند أولى محـــــنةٍ قد جبنا