كل مؤشرات الحياة، الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والخدمية والسياسية (وتبعا لذلك الثقافية والإخلاقية ـ القيمية والتعليمية ـ التربوية) تنذر بأن اليمن تسير باتجاه كارثة محدقة لا تصيب فئة أو مجموعة فئات من المجتمع دون البقية بل إن آثارها التدميرية ستمتد إلى كل أركان ومفاصل المجتمع وإلى كافة حقول الحياة وميادينها وإلى جميع شرائح المجتمع وطبقاته.
لكم تمنيت أن يكون إحساسي خادعا وأن أكون شديد الحساسية تجاه هذه القضية وأن تكون الأمور على عكس ما يقول لي إحساسي وما تقول لي مقارناتي وتحليلاتي ولكنني كلما حاولت أن أبحث عن ثقب صغير من الأمل يمكن النفاد من خلاله إلى مساحة أوسع من التفاؤل والاستبشار أصطدم بمعطيات تقول لي عكس ما أتمنى وتؤكد صحة مخاوفي.
يمكننا ببساطة إجراء مقارنة بين أوضاع البلد الآن وما كانت عليه قبل ثلاث سنوات، وما كانت عليه قبل سبع سنوات (مثلا) لنكتشف حجم الهول الذي وصل إليه سوء الأوضاع في البلد إلى درجة صار العيش فيها مخاطرة كبيرة على كل من يجازف ويفكر في الاستقرار (ناهيك عن الاستثمار وجلب الأموال لاستخدامها في بناء المشاريع والمنشآت واستيراد البضائع والسلع والآليات والمركبات) في هذا البلد المنكوب بحكامه.
قبل سبع سنوات كانت جرائم الاختطاف تتم خارج العاصمة أو على مقربة منها، وكان تحرير المخطوفين يكلف بعض الملايين التي تدفع للخاطفين من خزينة الدولة، أو من سفارات دول المخطوفين (يأخذ منها السماسرة حصتهم) وتسوى المسألة وتنتهي، وقبل ثلاث سنوات أوصل النظام الوضع الأمني إلى مستوى توقعنا أننا لن نشاهد أسوأ منه خصوصا عندما سخر البلاطجة ومحترفي القتل لمواجهة شباب الثورة، وسلم بعض المديريات والمحافظات لفرع القاعدة التابع له في أبين وشبوة وبعض مناطق حضرموت والبيضا، ورغم تحرير بعض تلك المناطق ما يزال من الممكن إسقاطها ثانية أو أسقاط مناطق أخرى وهذا يتوقف على مساحة المساومة بين مراكز القوى المتصادمة في العاصمة وتنافر أو تقارب مصالحها، . .لكن المشهد اليوم ينذر بخطورة أكثر إذ تم استبدال الخطف بالقتل وانتقلت العملية من خارج العاصمة إلى داخلها، واستبدل إسقاط المناطق بسياسة الدراجات النارية وملثميها، وبدلا من تفتيح أعين رجال الأمن الذين يبلغ عددهم عشرات الآلاف (المعلنين منهم والسريين) لرصد تحركات المجرمين وإحباط أعمالهم راحت السلطة في العاصمة صنعاء، تمنع الدراجات النارية من الحركة، وهذا يذكرنا بالحاكم القديم الذي منع تعاطي الخبز لأن أحد الأهالي مات بسبب خبزة متسممة بدلا من البحث عن المايكروب الذي يؤدي إلى التسسم واستئصاله لتجنيب الناس الموت.
الوضع الاقتصادي هو الآخر لا يبشر بخير إذ تهاجر رؤوس الأموال ويهرب المستثمرون وتتراجع العائدات ليس بسبب شحة الموارد بل بسبب سوء الاستخدام واستفحال الفساد ليصل إلى أعلى مستوياته، وتقف الحكومة عاجزة عن اتخاذ أي إجراء لأن معاقبة فاسد من أحد فريقي الحكم سيمثل إفشال للمبادرة الخليجية التي تحولت إلى مظله لكل الفاسدين والعابثين والمجرمين، وبمقابل هذا يتسع الفقر وتتضاعف البطالة ويستفحل العبث بالمال العام ونهب الثورة النفطية والسمكية، بينما يتضور الشعب جوعا ويفتقر إلى كبسولة الدواء وقطرة الماء النظيف، وتتسول السلطة رواتب الموظفين من الدول الشقيقة والصديقة وتتقزم رواتب المعلمين ليصبح راتب المعلم عاجزا عن سد مطالب العيش الضرورية من غذاء ودواء ومسكن ومشرب، ولا أقول عن شراء كتاب وحاسوب وإقامة مكتبة منزلية تليق بمهنة المعلم كرسول معرفة وحامي قيم وأخلاقيات وزارع مواهب وصانع مهارات.
قصف أبراج الكهربا وتفجير أنابيب النفط ونهب صهاريجه ليس عملا تخريبيا من قبل عصابة مارقة خارجة عن القانون، بل إنه عمل سياسي مخطط ومدروس يدخل في إطار لي الأذرع بين أقطاب أصحاب المصالح، ويندرج ضمن عمل المعارضة التي هدد بها "الزعيم الرمز" ذات يوم، وهو عمل يمكن أيقافه بإجراء بسيط لأحد الأجهزة الأمنية والدفاعية التي تلتهم ربع موازنة البلد لكن أي إجراء ضد مرتكبي هذه الأعمال سيمثل تعدي على نصوص المبادرة الخليجية التي تحمي المجرمين وتمنع معاقبتهم.
الخدمات الضرورية (الصحة والتعليم وما في حكمها) وصلت مستوى من الانحدار لا يمكن الوصول إلى ما هو أسوأ منه ويكفي نقل مريض إلى مستشفى حكومي للتعرف على الوضع الكارثي الذي تعيشه مستشفيات الدولة، أما مستشفيات القطاع الخاص التي تكاثرت كتكاثر الخلايا السرطانية فقد تحولت في معظمها، إلى سلخانات تقتص من لحم ودم المواطن (الضحية) بعيدا عن أي قانون ينظم عملها ويحمي المواطنين من النهب والقتل والابتزاز من خلال تلك السلخانات.
الذين يتحدثون عن وجود دولة في اليمن يقصدون جهاز السلطة، وهو خلط بين مفهومين مختلفين، لكن هذه (الدولة) تتآكل وتتلاشي شيئا فشيئا وتسجل كل يوم معدلات متعالية في الغياب عن الساحة ولا تحضر إلا عند تحصيل فواتير الماء والكهربا والهاتف وجباية الزكوات والضرائب والرسوم من الفقراء وهذه الوظائف يمكن أن يقوم بها أي مقاول مقابل مكافأة تقل كثيرا عما ينهبه الفاسدون من (القائمين عليها)، وهذا الغياب ليس بسبب العجز لكنه بسبب انصراف المعنيين بالأمر إلى تدبير شئونهم وصرف الجزء الأكبر من مجهودهم ووقتهم ومخصصات مؤسساتهم وإداراتهم لشئونهم الخاصة وهم بذلك يقدمون مثلا لمن دونهم من الموظفين إذ كيف لموظف صغير يرى مديره (الذي يتقاضى مئات الآلاف وأحيانا الملايين شهريا) يتغافل عن أداء واجباته وينهب الأموال التي تحت إمرته، فلا يتخذه مثلا يقتدي به ويحاكيه في كل حركاته وسكناته.
ويمكننا سرد عشرات الأمثلة والنماذج المماثلة عن حالة الانفلات والانهيار الذي تعيشه منظومة الحكم وأجهزته ووظائفه ونشاطاته، من انتشار الأوبئة والأمراض وغرق المدن بالقاذورات والأوساخ إلى تفشي جرائم القتل والسطو والسرقة والتزوير، ومن استفحال نزاعات الثأر والحروب القبلية والأهلية إلى حروب الجماعات والطوائف المختلفة، وما حرب صعدة وتنامي القتل في تعز وحضرموت وشبوة وغيرها من مناطق اليمن، إلا أمثلة عن تلك الحالات التي تقف فيها السلطة وسطا بين المتقاتلين الذين يحوزون من الإمكانيات والتقنيات والكفاءات القتالية أكثر مما تمتلك هذه السلطة، في مشهد يثير من الخوف والقلق أكثر مما يثير من الاستغراب والدهشة.
كل هذا يصيب بالشلل التام كافة مكونات منظومة الحكم ويسير بالبلد نحو الهاوية والمتصارعون السياسيون يتفرج كل منهم على الآخر وينتظر استسلام هذا الآخر لينقض على حصته من الحكم لكنه لا يعلم أنه عندما يحين موعد الانقضاض سيكون كل شيء قد انتهى ولم يعد على الأرض ما يمكن الانقضاض عليهإلا الحطام الذي ستخلفه الحروب التي يصنعها تجار السياسة والأسلحة والممنوعات الذين ينهبون اليمن حينما يتصالحون ويدمرونها حينما يختلفون.
أرجو أن لا يقول أحد بأن هذا هو بسبب الثورة الشبابية السلمية التي استهدفت التغيير وإعادة اليمن إلى سكة التطور والتقدم والحرية والكرامة الإنسانية، لأن الثورة لا ذنب لها في تخلى الحكام عن مسئولياتهم وانصرافهم إلى النهب والسلب وتقاسم الغنائم أو التنازع عليها، والثورة عندما قامت لم تكن تستهدف تقاسم السلطة بين النافذين بقدر ما استهدفت تنظيف اليمن من الفساد والفاسدين ومن الإجرام والمجرمين واستعادة ثروات الشعب وحقوقه بعد أن تسلط عليها النافذون والمتسلطون.
اضمحلال مؤسسات الدولة، انهيار المنظومة الأمنية في عموم المدن والأرياف بما فيها العاصمة، الانهيار الاقتصادي الوشيك، تفشي الجريمة المنظمة الخارجة عن السيطرة ، عجز ما تبقى من أجهزة السلطة عن القيام بوظائفها، استشراء النهب والسلب المنظم والعشوائي للمال العام خلف عشرات الأقنعة واليافطات، تعطل الخدمات الأساسية، الماء، الكهرباء، الخدمة الطبية، خدمات البلدية وسواها، شلل النظام التعليمي والتربوي وتحوله إلى مجرد معمل لإنتاج الشهادات، كل ذلك وغيره يجعل الجسد اليمني كالمريض الذي يرقد في غرفة الانعاش ويتنفس اصطناعيا، ويحقن بالأغذية عن طريق الوريد لعجز الجهاز الهضمي عن القيام بوظائفة، وهو بانتظار لحظة الوفاة حين يقضي الله أمرا كان مفعولا.
برقيات:
* سيكون من الحكمة أن يقوم الأستاذ المناضل محمد سالم با سندوة بتقديم استقالة حكومته إلى رئيس الجمهورية لتكليف حكومة غير هذه الحكومة المشروخة التي أوصلت البلاد إلى حافة الهاوية حفاظا على المبادرة الخليجية (سيئة السمعة)، أقول هذا حبا واحتراما للأستاذ با سندوة قبل أن يتهم بأنه هو من أوصل اليمن إلى الهاوية.
* كتبت هذه المادة قبل الهجوم على مجمع وزراة الدفاع في قلب العاصمة صنعاء صباح الخميس 5/12/ 2013م، أما وقد جرى ما جرى فإن الأمر ينتقل من الخوف والقلق على مصير البلد إلى الذعر والهلع مما قد تأتي به الأيام القادمة من كوارث محدقة بالجميع ما لم تتخذ تدابير عاجلة وصارمة وحازمة واستثنائية تتناسب وحجم الخطر المحدق الذي يطوق اليمن وأهله من جميع الجهات.
* لست من محبي التسرع في توجيه الاتهامات: لكن من حق الجميع السؤال: من أين حصل المهاجمون لمجمع وزراة الدفاع على المعلومات عن تفاصيل المباني المستهدفة؟ وكيف تسنى لهم الوصول إلى هناك؟ ثم وهو الأهم: ما علاقة هذا الهجوم بالهجوم الذي استهدف نفس المجمع من قبل بعض أفراد الحرس الجمهوري في أغسطس من العام 2012؟
* يقول الشاعر الوطني الكبير عبد الله عبد الوهاب نعمان:
أرْضي التي وَهَبَتْ نَفْسِي الشَّبَابَ لَهَا وعِشْــــتُ أَنْسِفُ فِيْها كُلَّ مُعْتَسِفِ
تَبَخْتَرَ الإِثْــــمُ في أَجْــــــنَـابِهَا وغَدَتْ مَصَائِرُ النَّاسِ للأَقْـــــدَارِ والصُّدَفِ
مَنْ مُلْزِمِـي طَاعَــــــــةً فِيها ومَسْكَنَة لِصَوْلَـةٍ قَبَّحَتْـــــــهَا أَوْجُــهُ الشَّرَفِ
أكَــادُ أَفْـــــــــــــــقَـدَ إِيَمَـانِي بِهـا وأَرَى أنَّ البَقَــــاءَ عليـــــــها بَاهِـضُ الكُلَفِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ