الزعيم الرمز . . الذكاء الزائف يخذل صاحبه

2013/12/24 الساعة 09:29 مساءً

ما يزال الرئيس علي عبد الله صالح يتصرف بطريقة يعتقد أنها تعبر عن الذكاء الخارق والدهاء المفرط والقدرة الاستثنائية على التلاعب بالألفاظ وتمييع المقولات وتوظيف العبارات بطريقة تستغبي المستمعين والمشاهدين فتخفي عنهم الحقائق وتقدم لهم الأباطيل على إنها الحق واليقين، متصورا أن كل المشاهدين هم من عينة يحيى الراعي وسلطان البركاني ومحمد الشايف، وعارف الزوكا ومحسن النقيب، وينسى أن في اليمن مخترعين وخريجي جامعات، وبروفيسورات ومبدعين وأكاديميين ومفكرين يستمعون إليه ويشعرون بالألم أن من يتحدث هو من حكم البلد ثلث قرن بالطريقة التي يبرر فيها الجرائم والأباطيل ويقدمها على أنها منجزات ومبررات للفخر والتباهي.

في مقابلته مع قناة أزال، إحدى المؤسسات الإعلامية التي بناها المسكين من راتبه الشهري الضئيل، قال "الزعيم الرمز" أنه لم يحصل نهب في الجنوب وأنهم (أي الجنوبيين) نهبوا بعضهم بعضا "الزمرة نهبت الطغمة والطغمة نهبت الزمرة".

تفكيك هذه العبارة يكشف مخزون هائل من الخداع التحايل القائم على احتقار عقول الآخرين، وافتراض أنهم صمٌ بكمٌ عميٌ لا يفقهون  إلا ما يقوله هو دون سواه، خداع يصر فيه الرجل على التظاهر بالعبقرية والابتكار والأتيان بما لم يأت به الأوائل.

أولا: لنلاحظ أنه يتحدث عن زمرة وطغمة: وهي مفردات تعود إلى الثمانينات، وقد تكون حاضرة في وعي البعض ممن ربطوا مصيرهم بمصير هذا الرجل، لكن عندما تصدر من رئيس حكم البلد لثلث قرن ويدعي أن صانع الوحدة، وموحد الناس وجامع شمل الوطن، ثم يقسم الناس إلى شمال وجنوب، وهذا الجنوب ليس فيه إلا الزمرة والطغمة، فإن هذه اللغة لا تعبر عن أي حد أدنى من الإخلاق السياسية والمسئولية الوطنية، دعك من فضيلة التسامي على الصغائر واحترام ذكاء المشاهدين وتقدير مشاعر ضحايا  سياساته الخرقاء، هذه الفضيلة التي ليست حاضرة في ثقافة ومكونات الرجل الفكرية والسياسية، . . .وشخصيا لم تصدمني هذه المفردات الهابطة والمتحللة من أي تهذيب، لكن هل سيفهم الذين يراهنون على أن الرجل ما يزال فيه بقايا وطنية، مستوى خسارة رهانهم.

وثانيا: أنه يتحدث عن زمرة وطغمة نهبوا بعضهم، وكأن النهب حصل في بلد معادي لا يعنيه من أمره شيء، أو على الأقل في بلد بعيد عن اليمن لا علاقة لرئيس اليمن به ولا بأهله ولا بما يدور فيه، وليس في بلد كان يحكمه طوال فترة النهب (إن صحت بالطريقة التي يسوقها) ولم يقل لنا ما الذي منعه من إيقاف النهب هذا وإخضاع الناهبين والمنهوبين لنظام الدولة التي يديرها؟ . . . . إنه بوضوح العبارة يقول: إن هؤلاء مواطنون لا يعنونني نهبوا بلادا لا تخصني ولست معنيا بها ولا بما يدور فيها من جرائم، فلماذا تسألونني أنا عما فعله هؤلاء ببعضهم البعض وببلادهم التي ليست بلادي ولا تربطني بها أية علاقة؟ هل أدركت عزيزي القارئ لماذا كنا وما زلنا نقول أن الانفصال كان يمارس في صنعاء وليس في أي مكان آخر؟؟ وإن أي انفصال أو سلوك انفصالي في أي مكان آخر من اليمن ليس سوى صدى مشتت للمصدر الأصلي للانفصال؟؟

لكن لتفنيد هذه العبارة وغيرها من التخرصات يحق لنا أن نسأل عن شركات الاستثمارات النفطية، ووكلاء التنقيب عن النفط، ووكالات استخراج ونقل وتسويق وتصدير النفط والغاز، من يملكها في محافظات الجنوب وفي اليمن عموما؟  ومن حقنا أن نسأل من الذي وزع شواطئ الاصطياد في الجنوب بالكيلو متر على النافذين الوافدين بعد 7/7؟ ولماذا يمنع الصيادون الجنوبيون من الاصطياد إلا في المناطق التي يحددها لهم ضيوف ما بعد 7/7؟ ومن الذي استولى على عشرات الكيلومترات من الأرض الزراعية (والتجارية ـ السكنية) دون أن يدفع حتى رسوم التسجيل وراح يبيع هذه المنهوبات لأبناء المحافظات الجنوبية بعشرات الملايين؟ ومن الذي كان رئيسا عندما جرت كل تلك الجرائم، ولماذا لم يمنع حدوثها ويحاسب من ارتكبوها، حتى لو كانوا من الزمرة أو الطغمة؟

يتداول الناس في عدن والمحافظات المجاورة لها قصة طريفة تبين براءة الرجل من أي نهب في محافظات الجنوب، إذ تفيد بعض ذكريات التسعينات أن الرئيس قام بزيارة لمحافظة جنوبية، بعيد الحرب مباشرة وكان في استقباله العديد من المسئولين بينهم واحد من كبار الناهبين، وقبيل المغادرة أصر (الناهب) على استضافة فخامة الرئيس على العشاء في منزله (الناهب)، لكن الرئيس اعتذر له بحجة ضيق الوقت، والانشغال بالتزامات أخرى،  . . . . عندها قال له المضيف (الناهب): إذن ارسل غدا أحدا لاستلام عشاك، وفي اليوم التالي ذهب الرسول ليستلم العشاء، وكان العشاء ثلاثمائة فدان من إحدى مزارع الدولة التي نهبها هذا المضيف

عزومة العشاء هذه ليست الوحيدة فالرجل يتعشى ثلاثمائة فدان ويفطر على عشرات المصانع ويتغدى على عدد من الفنادق والشركات والمؤسسات الحكومية المنهوبة، فملثما لبى دعوة مضيفه الكريم هذا فإن مئات المضيفين قد قدموا لها من الوجبات عشرات العزومات المشابهة، . . . . . . . .لا يمكن اعتبار هذا نهبا لأنه عبارة عن ولائم استضافة كان على (الزعيم) المسكين أن يقبلها مكرها حتى لا يتهم بالتقليل في شأن ومكانة مضيفيه وما يتمتعون به من كرم حاتمي.

ثالثا: يقول (الزعيم الرمز) أن د. يس سعيد نعمان هو من يعطل الحوار الوطني، ويسعى للانفصال ويحلم بالعودة إلى ما قبل 1990م وذلك لأنه من الذين هربوا بعد حرب 1994م إلى الإمارات، ويضيف أنه هو من دعاه للعودة وعينه أمينا عاما للحزب الاشتراكي اليمني.

يعلم (الزعيم) أن مغادرة د يس سعيد نعمان لليمن عام 1994م لم تكن نزهة تسلية ولم  يهرب مطاردا من الشعب وثورته ضده (أي ضد د. يس) ويعلم أن د. يس لم يطلب حصانة ولا اشترط أي ضمانات لمغادرة رئاسة مجلس النواب بل إنه هو من تخلى عن هذا الموقع زهدا وطواعية حينما رفض الترشح لعضوية المجلس وقبل بتولي أي مهمة حزبية يكلفه بها الحزب الاشتراكي اليمني، أما حكاية النزوح فنحن نشكر الأقدار التي ادخرت لنا عقلية سياسية واقتصادية وثقافية وطنية مثل د. يس وحفظته من مصير الشهداء جار الله عمر ويحي المتوكل ومجاهد أبو شوارب وغيرهم من السياسيين الذين خسرتهم اليمن، ولو عاشوا لقدموا للبلد الكثير من الأدوية الناجعة التي قد تساعدها على التعافي من الأوبئة التي زرعها نظام ثلث القرن المشئوم في جسدها العليل، وعندما تنزح العقول السياسية والاقتصادية المحترمة من بلاد هي أحوج ما تكون إلى هذه الكفاءات وما دونها، فمن واجب قيادات البلد أن تشعر بالعار والخجل أنها تخسر أبناءها الشرفاء من أجل الحفاظ على مصالح اللصوص والناهبين، لا أن تتباهى بأنها نجحت في طردهم من بلادهم لتنجح بلدان أخرى في احتضانهم والاستفادة من كفاءاتهم، . . .لكنه التذاكي المفتعل الذي يحول وصمة العار إلى مفخرة.

لم يقل لنا فخامته كيف يعطل د. يس سعيد نعمان الحوار؟ ويبدو أن مخازن الأسلحة التي هربت من معسكرات الطيران والحرس الجمهوري والأمن المركزي قد ظلت طريقها ليستولي عليها د يس نعمان ويستخدمها في تعطيل الحوار. . .الآن فقط عرفنا من حاول تصويب الرصاص إلى رأس د. يس  . . .لقد فعلوها حرصا منهم على "عدم تعطيل الحوار".

أما حكاية دعوة الدكتور يس للعودة إلى اليمن وتعيينه أمينا عاما للحزب الاشتراكي فهي تكشف لنا ذلك القدر من الخلط والتخبط والهذيان الذي يعيشه الرجل، ولو لم أكن مقررا للجنة الفرز في المؤتمر الخامس للحزب الاشتراكي الذي انتخب فيه د يس بأعلى الأصوات، وفاز بمنصب الأمين العام دونما منافس، لصدقته بأن د. يس عين أمينا عاما للحزب الاشتراكي بأوامر رئاسية، . . .ويبدو لي أن خرف الشيخوخة، قد أخذ مأخذه فلم يعد معه الرجل يميز بين الصلاحيات الرئاسية وأنظمة الأحزاب المعارضة ولوائحها الداخلية.

أما الأطرف في حديثه فهو موضوع الأغلبية في مجلس النواب، وقوله أن هذا المجلس هو الشرعية الوحيدة في البلد . . .، لن نتحدث عن الطريقة التي جاء بها هذا المجلس وهذه الأغلبية، فذلك موضوع قد فات أوان النقاش فيه، لكن هل نسي فخامته أن المجلس الذي يقول عنه أنه شرعيٌ قد فقد شرعيته في 27 أبريل 2011، بعد أن أضيفت له سنتان مجانيتان أغضبتا أكثر من نصف اليمنيين، تجنبا لإراقة الدماء التي أريقت في العام 2011م؟ هل نسي فخامته أن هذه الأغلبية قد أخذت عمرها وعمر جيل آخر بعدها، وأن البعض من أعضائه ترشحوا للبرلمان وهم في سن الشباب واليوم دخلوا سن الشيخوخة وما يزالون رابضين على تلك الكراسي الهرمة التي نال منها الصدأ ما نال؟ . . . مجلس النواب لا يحتاج إلى حل. . . مجلس النواب منحل بمجرد مرور يوم 27/ أبريل 2011م، لكن الرئيس الذي ألغى أي فعل للدستور، وقدم مبادرة تعلو على كل دساتير الدنيا وتمنح القتلة واللصوص حصانة من أي مساءلة مدى الحياة وأحلها محل الدستور، لا يتذكر هذا الدستور إلا عند تلك الأغلبية البائسة التي جلبت الويلات للبلد ولم تقدم له إلا الصورة السيئة أمام العالم الذي يدري بأنها لا تستطيع أن تحاسب سارق صغير ممن استولوا على أملاك الدولة وحقوق المواطنين، ناهيك عن كبار العتاولة والحيتان العملاقة التي تحظى بالحماية من قبل مؤسسات الأمن والدفاع، والاستخبارات بكل فروعها ومسمياتها.

سيكون من مصلحة الحريصين على المؤتمر الشعبي العام أن ينصحوا الرجل بعدم الظهور أمام الشاشات وعدسات الكاميرات لأن هذا الظهور يورط حزبه في المزيد من المطبات التي يحتاج ترقيعها إلى سنين من العمل على مسح الصورة السيئة التي يصنعها (الزعيم الرمز) لحزبه ولأنصاره.

برقيات:

*   أكثر ما لفت النظر في مقابلة صالح هذه هو المرور السريع على حادثة العرضي وعدم الإشارة لها إلا على إنها حادثة عابرة عديمة الأهمية، لا تستحق حتى التناول والتفكير فيها، . . .أعيدوا مشاهدة المقابلة لتكتشفوا صحة ما نقوله.

*    لم يتحدث الزعيم ككل مرة عن "مؤامرة الإخوان المسلمين" ولا عن دور اللواء علي محسن في "هذه المؤامرة"، وهو ما يبشر أن مياه العلاقة بين الطرفين بدأت تعود إلى مجاريها، وهذا ما يبعث السعادة لدى اليمنيين والثقة بأن حربا أخرى لن تنشب بينهما، ولله الحمد.

*    يقول الشاعر المهجري الفيلسوف إيليا أبو ماضي:

حُــــــــــرٌّ وَمَذْهَبُ  كُلِّ  حُرٍّ مَذْهَبِي       مَا كُنْتُ  بِالغـَاوِي  وَلاَ الـمُتَعَـــــصِّبِ

إِنِّي  لَأَغْـــــــضَبُ  لِلْكَـرِيمِ  يَنُوشُهُ        مَنْ  دُونَــهُ  وَأَلُـومُ  مَنْ  لَمْ  يَغْـضَبِ

وَأُحِــــــــــبُّ  كُلّ  مُهَـذّبٍ  وَلَوْ أَنّهُ        خَصْــــمِي  وَأَرْحَمُ  كُلّ  غَيْرَ مُهَذّبِ

يَأْبَى  فُؤَادِي  أَنْ يَمِيلَ  إِلَى  الأَذَى         حُبُّ  الأَذِيّةِ  مِنْ  طِــبَاعِ  العَقْــرَبِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  *[email protected]