مساء الإثنين 23/12/2013م كرست قناة الجزيرة الفضائية برنامجها الإسبوعي "في العمق" الذي يعده ويقدمه الإعلامي علي الظفيري، للقضية الجنوبية ومصير الوحدة اليمنية في ظل المشهد السياسي اليمني شديد التعقيد، ولأول مرة تستضيف الجزيرة قادة رأي من أنصار القضية الجنوبية، وهم العميد ناصر الطويل والأستاذ الجامعي وهيب خدابخش، والناشط السياسي خالد با مدهف الذين أبلوا بلاء حسنا في تناول الجوانب المختلفة للقضية الجنوبية، وإن لم يسعفهم الوقت في الغوص في كل التفاصيل ذات الصلة بموضوع الحلقة، إذ كان المذيع يقطع حبل أفكاركل منهم قبل استيفاء ما كان يود قوله وهو (أي المذيع) معذور لمحدودية الوقت المتاح للبرنامج، وهم (أي الضيوف) معذورون لاتساع وتعقيد وتشعب الجوانب المتعلقة بالقضية الجنوبية.
في حديثه إلى محاوريه قال الإعلامي على الظفيري أنه قابل ساسة شماليين وأبلغوه أنهم يحبون الجنوب والجنوبيين وذكروه بأنهم منحوا منصب رئيس الجمهورية ومنصب رئيس الوزراء ومنصب وزير الدفاع لجنوبيين، وتساءل الإعلامي العربي: ماذا تريدون أكثر من هذا؟
الحقيقة إن هذه ليست المرة الأولى التي تطرح فيها هذه القضية من قبل الكثير من السياسيين اليمنيين، الذين يقولونها حينا من باب المن على الجنوب والجنوبيين واستكثار أن يخرج موقع رئاسة الجمهورية أو رئاسة الوزراء من أيدي مراكز القوى التقليدية، وذهابه إلى الجنوب،، وتارة أخرى لمحاولة إيهام كل من لا يعرف بواطن الأمور بأن الجنوب والجنوبيين هم من يحكم اليمن، بل لقد نشأت حركة يتزعمها مستشار لأحد أكبر مستشاري رئيس الجمهورية، باسم "الحراك الشمالي" وتدعو (حركة مستشار المستشار) إلى تحرير الشمال والشماليين من احتلال الجنوب والجنوبيين لهم.
ومن المؤسف جدا أننا انحدرنا إلى هذا المستوى من المناقشة والمحاججة بحث أصبح السؤال عن مسقط الرأس واسم القبيلة والمنطقة أمر مهم في تحديد هوية هذا المسئول أو ذاك، لكن لهذه الظاهرة مبرراتها، فهكذا تقاس الأمور في الثقافة السياسية التي أقامها نظام الثلث قرن المقيت في حكمه للجمهورية العربية اليمنية، والتي فرضت نفسها على الجنوب بعد 1994م وصارت جزءا من منجزات "الوحدة المعمدة بالدم" التي حصل عليها الجنوبيون.
لم يكن الجنوبيون بحاجة إلى المطالبة بتقاسم السلطة بالمناصفة ولا إلى المطالبة بحصة من الثورة والسلطة والجيش والأمن والقضاء والبرلمان لو أن المنتصرين في حرب 1994م نجحوا في تقديم دولتهم على إنها دولة كل اليمنيين، بل لو أن اتفاقية 22 مايو نجحت في تأسيس مشروع دولة قابلة للحياة، لكن لا هذه الاتفاقية الـ"مكلفتة" أسست للدولة المنشودة ولا الحرب التي أجهضت حلم الوحدة نجحت في تقديم النظام اليمني الجديد على إنه نظام كل اليمنيين، . . وهذا بالمناسبة لا يخص الجنوبيين وحدهم، بل إنه ينطبق على كل مناطق اليمن، من أقصى المهرة شرقا إلى باب المندب غربا ومن صعدة وحرض شمالا إلى عدن وأبين جنوبا.
إن الخلل لا يكمن في من يحتل منصب الرئاسة ولا من يحتل منصب رئيس الوزراء أو الوزير الفلاني أو العلاني، بل في ماذا يقدم نظام الحكم للشعب الذي يفترض أنه جاء منه وإليه.
إن الوظيفة الحكومية في اليمن (صغرت أم كبرت) ليست صلاحيات ومهام يحددها الدستور والقانون، ولا هي التزامات يقوم الموظف الحكومي (صغر أم كبر) بتنفيذها طبقا لمحددات ومعايير وأسس قانونية وتشريعية ثابتة ومتفق عليها من قبل الجميع، بل إنها أداة من أدوات مراكز القوى التي تتحكم في صناعة هذا المسئول أو ذاك، وهذا الموظف أو ذاك، وبعبارة أخرى أن منصب رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء لا يعني بأي حال من الأحوال أن من يحتله يستطيع أن يتحكم في صناعة القرار وفقا لما ينص عليه الدستور والقانون، بل إنه في الأخير تعبير عن نقطة تركز عناصر القوة لهذا المركز أو ذاك من مراكز القوى، فقد يحظى موظف صغير بدعم مركز قوى نافذ بما لا يحظى به قائد سياسي تنفيذي كبير لا يدعمه مركز من مراكز القوى النافذة، وبالتالي فعندما لا يمتلك رئيس الجمهورية قوة نافذة موازية تمكنه من القيام بمهماته فلا قيمة لمنصبه ولا لمنصب رئيس الوزراء وغيرهم من الوزراء والمناصب التي يمن النافذون في صنعاء بأنهم قد منحوها للجنوبيين.
إن الحديث عن رئيس جنوبي ورئيس وزراء جنوبي وما إلى ذلك ينطلق من خلفية ثقافية تفترض أن هذا المنصب هو غنيمة للقبيلة أو الجهة أو المنطقة التي ينتمي إليها رئبيس الجمهورية أو رئيس الوزراء وهي ثقاقة سادت طويلا في الجمهورية العربية اليمنية، لكنها غريبة عما تعلمه المواطنون في الجنوب وبالتالي فإن المواطنين الجنوبيين لا يشعرون بأي تغيير في حياتهم سببه وصول رئيس جمهورية جنوبي، بل إن عمليات القمع والقتل والنهب والاستئثار تتواصل في الجنوب حتى بعد مجيء رئيس ورئيس وزراء جنوبيين، . . .ليس لأن هذه هي سياساتهما ولكن لأن من يدير الحياة السياسية والتنفيذية والعسكرية والأمنية هو سلطة موازية غير مرئية تستخدم اسم الرئيس ورئيس الوزراء لارتكاب جرائم وانتهاكات تماما كما كانت أيام الرئيس السابق، مع فارق أن الرئيس السابق كان يأمر هذه الأجهزة بالقيام بما قامت به من جرائم بينما لا يستطيع الرئيس هادي ولا رئيس وزرائه (الجنوبيان) التوجيه بإيقاف تلك الجرائم بسبب تحكم مراكز القوى الخفية في تسيير الأحداث وصناعة القرارات.
ما يقال عن أعمال القمع وشن الحروب يمكن أن يقال عن القرار الاقتصادي والمالي والخدمي والحقوقي وتطبيق القانون، وهو ما يعني أن وجود رئيس جنوبي تحيط به مراكز فوى نافذة لا تضع للدستور والقانون ومبدأ المواطنة اعتبارا وجود لا يعني شيئا لا للجنوبيين ولا للشماليين، إذ تظل مراكز القوى النافذة تمتلك من السلطات والنفوذ الخفيين ما يفوق سلطة ونفوذ رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وكل الوزراء مجتمعين.
يعتقد بعض الإخوة السياسيين الشماليين أن الجنوب قد أصبح يرفل في النعيم بعد تولي عبدربه منصور منصب رئيس الجمهورية، ومحمد باسندوه منصب رئيس الوزراء، وهم يعلمون أن وزير الدفاع قد يعجز عن إنفاذ أمره على قائد لواء أو قائد كتيبة من التابعين لأحمد على أو من التابعين لعلي محسن، وإنه لكي يتمكن من تنفيذ هذا الأمر ينبغي عليه التنسيق مسبقا مع مركز الولاية لقائد هذا اللواء أو تلك الكتيبة.
ويعلم الإخوان أن رئيس الوزراء (حسب تسريبات صادرة من مكبته) يشتكي بأن العديد من الوزراء لا يوافونه بتقارير عن نشاط وزاراتهم، وكل وزير من هؤلاء يتصل مباشرة بالطرف الذي عينه، وما يزال الكثير من المتابعين في صنعاء يحتفضون بنسخ من التوجيهات التي كان يبعث بها قائد عسكري يفترض أنه تابع لوزير الدفاع، إلى رئيس الوزراء ورئيس الجامعة ووزير التعليم العالي ووزير النفط والمالية وحتى الخارجية والعدل والخدمة المدنية والسفارات اليمنية في الخارج، ومثل هذا القائد العسكري يفعل عشرات المشايخ والوجهاء ممن لا صفة حكومية لهم إلا إنهم من "أهل الحل والعقد".
مرة أخرى نقول أن الجنوبيين عندما شنوا ثورتهم في العام 2007 لم يكونوا يطالبون برئيس جمهورية جنوبي، بل كانوا يشتكون من سياسات الإقصاء والتهميش والسلب والنهب، والتعالي والاستئصال، تلك السياسات التي أنست هؤلاء أنهم يمنيون، وراحوا يتمنون لو أنهم لم يتورطوا في هذا المشروع البائس المسمى زورا "وحدة" وهو ليس إلا ضما وإلحاقا واستباحة لكل ما فوق الأرض وما تحتها.، وبالتالي فإن تعيين رئيس جنوبي بالنسبة للجنوبيين لا يعني شيئا، حتى لو كان هو من يصنع القرار ويتحكم في تسيير دفة الحياة السياسية والاقتصادية، فما بالنا وكل القيادات الجنوبية لا تملك القدرة على اتخاذ القرار إلا بعد استرضاء مراكز القوى التي تمثل الدولة الخفية التي لو غضبت لأطاحت بالرئيس ورئيس الوزراء وكل من لا ترضى عنه.
لا يمكن إنكار أن من يحبون الجنوب والشمال وكل اليمن هم بالملايين من اليمنيين البسطاء أو المتعلمين والشعراء والفنانين والمبدعين والأدباء ومن العمال والتجار، لكن من يتحدث عنهم مذيع قناة الجزيرة يحبون الجنوب والجنوبيين حبا من نوع آخر ولأسباب أخرى غير الهيام بالجمال والوله بالجغرافيا واستلهام الدروس والعبر من التاريخ واستحضار القيم والمثل والتجارب الإنسانية الراقية، . .إن لهم حبهم المميز الذي لا يدركه غيرهم من اليمنيين، . . إنه حب المليارات التي حققها هؤلاء بفضل النهب والسلب والاستحواذ الذي تمكنوا منه بعد الحرب اللعينة، التي "عمدت لهم الوحدة بالدم"، وفتحت لهم مصاريع الاستيلاء والاستباحة لينتقلوا بعد ذلك من خانة الموظفين البسطاء وفي أحسن الأحوال ميسوري الحال إلى خانة المليارديرات الذين تنتشر أموالهم في كل بقاع العالم إلا في اليمن، يستثمرون وينمون ثرواتهم ويخلقون فرص عمل وقيمة مضافة في بلدان الغير لكن اليمنيين محرومون حتى من تشغيل هذه المنهوبات داخل بلادهم. . . . مثل هؤلاء لا يحبون في الجنوب إلا ضرع البقرة الحلوب الذي لو جف لما تورعوا عن ذبح البقرة، وبيع لحمها وجلدهاوعظامها.
برقيات:
* الذين يرفضون فكرة الدولة الاتحادية بإقليمين بحجة أنها تمهد لانفصال الجنوب، ثم يقرون بدولة اتحادية بستة أقاليم منها إقليمين في الجنوب، يقرون بوجود جنوب وشمال، والفرق إنه لو صحت نظرية الانفصال، فسيكون الانفصال عبارة عن ستة انفصالات، وبهذا يتضح إنهم لا يمانعون من الانفصال لكن بشرط أن يقترن بتفكيك الجنوب، حتى لا تقوم له قائمة (هذا إذا ما صحت نظرية الربط بين الانفصال والأقاليم).
* الهجمة غير المبررة على الحزب الاشتراكي وأمينه العام لرفضهم مخالفة نظام مؤتمر الحوار الوطني وعدم القبول بفيدرالية الستة الأقاليم، لا يمكن فهمها إلا على إنها محاولة إرهاب الحزب الاشتراكي لإجباره على القبول بوجهة نظر طرف واحد يريد أن يفرضها بالقوة على مؤتمر الحوار، وقبل هذا وبعده على اليمن ككل وعلى الجنوب على وجه الخصوص.
* قال الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري:
تَوَهّـمْتَ يَا مَغْـرُورُ أَنّكَ دَيّـِـنٌ عَلَيّ يَـــمِينُ اللهِ مَالَكَ دِيـــنُ
تَسِيرُ إِلَى البَيْتِ الحَرَامِ تَنَسُّكاً وَيَشْكُوكَ جَارٌ بَائِسٌ وَخَدِينُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ