بعد 12 عامًا من الحملات العنيفة وغير المسبوقة لسحب تنظيم كأس العالم لكرة القدم من أول بلد عربي ومسلم يحظى بهذا الشرف، وصلت سفينة مونديال قطر بسلام إلى محطتها الأخيرة الحاسمة.
لكن التحديات لم تنته، بل بدأ الشق الأصعب منها مع قرب انطلاق المونديال، وتدفق أكثر من مليون مشجع من شتى أنحاء العالم حاملين معهم ثقافتهم التي تختلف بعضها مع عادات وتقاليد الشعب القطري، بل وقد تتعارض مع قيمه ومبادئه.
واضطرت السلطات في قطر إلى التعامل بأكبر قدر من المرونة مع هذا الوضع الاستثنائي، حتى لا تمنح أي حجة للمتصيدين لإفشال المونديال قبل وخلال تنظيمه.
ـ تسييس المونديال
"يجب عدم تسييس كرة القدم"، نداء وجهه الرئيس الفرنسي لوقف الحملات ضد تنظيم قطر لكأس العالم، المقررة الأحد 20 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري.
وهو اعتراف ضمني بأن الحملات الصادرة من عدة دول أوروبية لها خلفيات سياسية محضة ولا علاقة لها بكرة القدم.
ولكن أكثر هذه الحملات ضد قطر انطلقت من بريطانيا ثم ألمانيا بل واشتركت فيها حتى فرنسا، التي تربطها علاقات اقتصادية وتجارية ورياضية وأمنية متقدمة مع الدوحة، وانضم إلى جوقة المحرضين الرئيس السابق للاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" السويسري جوزيف سيب بلاتر.
إذ لم يسبق وأن شهد مونديال كأس العالم مثل هذا الحجم من الهجوم، رغم أن مونديال روسيا 2018، تعرض لهجوم غربي قوي أيضا بسبب ضم روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية في 2014.
لكن قطر لم تحتل أي إقليم ولم تعتد على حدود أي دولة، ما يفسر العقلية الاستعلائية للغرب، وانتشار التطرف اليميني، والإسلاموفوبيا ضد العرب والمسلمين ما يغذي هذه الحملات الإعلامية الشرسة، التي امتدت لتشمل مسؤولين ومؤسسات غربية، يفترض أن تبتعد عن السياسات الشعبوية.
ـ من صغر قطر إلى مشجعين وهميين!
تفنن الإعلام الغربي في كيل التهم وشن الهجمات على قطر، إلى الدرجة التي دفعت وزير خارجيتها محمد بن عبد الرحمان، إلى القول إن الحملة التي واجهتها بلاده "لم تواجهها أي دولة أخرى حظيت بحق استضافة هذه البطولة".
فمن الادعاء بأن قطر دولة صغيرة من حيث المساحة، إلى حقوق العمال، وتهم بالفساد، إلى حماية البيئة، والسماح بدخول الإسرائيليين والمثليين، وبيع الخمور، وأخيرا تهم باستئجار مشجعين وهميين لخلق أجواء زائفة، والتضييق على عمل الصحفيين.
وكادت تصريحات وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر، التي قالت إنه "من الأفضل عدم منح شرف تنظيم البطولات لدول كهذه" أن تحدث أزمة مع قطر بعد أن استدعت الأخيرة سفير ألمانيا لديها.
وجاءت تصريحات رئيس الفيفا السابق لتصطاد في الماء العكر، عندما قال إن قطر "صغيرة جدا بالنسبة لحدث مثل كأس العالم".
ولم تقتصر الحملات على مونديال قطر بالتصريحات، بل وصلت إلى حد اتخاذ عدد من البلديات الفرنسية قرارا بمقاطعة بث مباريات كأس العالم في قطر وعدم عرضها على شاشات كبيرة في الميادين العامة، بزعم التضامن مع حقوق العمال في قطر والدفاع عن البيئة.
بل وتتهم وسائل إعلام قطرية مطارات أوروبية بعرقلة وصول مشجعين إلى الدوحة، ما يعكس الرغبة في إضعاف إقبال المشجعين على متابعة مباريات المونديال.
بينما أكدت الفيفا، قبل شهر من انطلاق المونديال، أنها تمكنت من بيع 3 ملايين تذكرة، ما يعني أن قطر ربحت رهان المشجعين، وأن المدرجات لن تكون فارغة، رغم أن عدد سكان قطر لا يتجاوز هذا الرقم.
وحتى بعد أن روجت وسائل إعلام فرنسية وإسبانية بأن قطر استأجرت مشجعين لخلق أجواء زائفة، جاء الرد من المشجعين الهنود والبنغاليين المقيمين في قطر، والذين نفوا أنهم يشجعون منتخبات مشاركة في المونديال مثل إنجلترا وفرنسا مقابل الأموال، وقال أحدهم "هذه معلومات خاطئة.. ونود القول بصوت عال وواضح أنه لم يتم الدفع لأي منا بأي شكل من الأشكال".
ويقيم في قطر نحو 750 ألف هندي، ونحو 400 ألف بنغالي من إجمالي 3 ملايين ساكن.
وأنفقت قطر نحو 220 مليار دولار، على إنشاء ملاعب صديقة للبيئة، وبنية تحتية وخدمات، بشكل لم يسبق لأي دولة أن استثمرت مبالغ بهذا الحجم لتنظيم مونديال.
ـ عالم متعدد الأقطاب
تدرك قطر أن مساحتها وعدد سكانها المتواضع لا يمنحانها الفرصة لتكون قوة عسكرية عظمى، لكنها تملك قوة ناعمة تتجاوز الفضاء الجغرافي والسكاني، تمنحها الحق في الحلم أن تصبح أحد ركائز العالم المتعدد الأقطاب الذي بدأ يتشكل.
وشكلت تجربة قناة الجزيرة، التي تحولت إلى شبكة إعلامية، إلى إحدى أبرز ملامح القوة الناعمة لقطر، منذ منتصف التسعينات إلى اليوم، تجاوز صيتها حدود الدولة ومنطقة الشرق الأوسط، وكانت منبرا للدفاع عن البلاد خاصة عندما اتهمتها دول عربية بالإرهاب، وحاول الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، تبني هذه الرواية.
ويشكل تنظيم المونديال إحدى مظاهر القوة الناعمة التي تسعى قطر لتغيير الصورة النمطية التي تشكلت على مدى عقود عن دولة صحراوية صغيرة لا تملك من الثروة سوى النفط والغاز، ومتهمة بالإرهاب.
وتتجلى هذه الصورة النمطية من خلال صور كاريكاتورية، تظهر إحداها قطر كرجل يخفي تحت ردائه إرهابيا، وأخرى لاعبين قطريين في شكل إرهابيين، وثالثة قطر تتقاتل مع جيرانها بالسيوف وإيران في الطرف الآخر من الخليج تتربص بالجميع، بينما الفيفا تحت الصدمة، وصورة عديدة عن استعباد قطر للعمال، وأن المونديال سينظم على أنقاض العمال..
ومن شأن المونديال أن يغير هذه الصورة النمطية المفزعة عن قطر، ودخول أكثر من مليون مشجع من مختلف قارات العالم، سيسمح بالتعرف على حجم التقدم الذي وصلت إليه قطر في مختلف المجالات من مطار حمد الدولي بالدوحة، الحاصل على أعلى الجوائز، إلى الفنادق الفخمة وشبكة الطرقات الحديثة، والتطور العمراني الرهيب، الذي ينافس عواصم أوروبية عريقة، خاصة من حيث نظافة الشوارع والمحيط، ناهيك عن توفر الأمن وسماحة شعبها.
ومن شأن نجاح قطر في تنظيم المونديال تحويلها لعلامة تجارية واستثمارية وسياحية تستقطب السياح والشركات العالمية من مختلف أرجاء المعمورة.
فإذا كانت مدينة دبي، تستقطب حاليا أكبر عدد من المكاتب الإقليمية للشركات العالمية في المنطقة العربية، ولا تنافسها في ذلك سوى الرياض (مؤخرا)، فإن الدوحة من الممكن أن تدخل سوق المنافسة في هذا المجال بعد المونديال، بالنظر إلى قدراتها اللوجستية، خاصة في مجال الشحن الجوي.
لكن هذا الصعود السريع لقطر، وما تنتظره من تصاعد قوتها الناعمة، لا يعجب الغرب، الذي بدأ يفقد تفرده على العالم، وزمن القطب الواحد بدأ يتلاشى لصالح قوى صاعدة.
فروسيا تملك أكبر عدد من الأسلحة النووية، والصين توشك على اللحاق بالاقتصاد الأمريكي والتفوق عليه، بينما قطر أغنى بلد في العالم، استناداً إلى نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي (أكثر من 146 ألف دولار للفرد)، حسب موقع "بزنس إنسايدر".
وتعتبر قطر من أقطاب "الغاز المسال" في العالم بفضل احتياطاتها الضخمة التي وضعتها في المرتبة الثالثة عالميا، وإنتاجها الكبير، وازدادت أهميتها الاستراتيجية بعد لجوء أوروبا إليها لتعويض جزء من نقص إمدادات الغاز الروسي، رغم أن الغاز القطري أغلى بكثير من نظيره الروسي.
وهذا ما جعل أوروبا مستاءة من قطر لأنها أخذت الجمل بما حمل، لم تستفد فقط من تضاعف أسعار الغاز، بل ستحصل على مداخيل بالمليارات من تنظيم كأس العالم، وقوة ناعمة لا تقدر بثمن.