باريس- بدأت ملامح المعركة القانونية لمحاكمة إسرائيل على جرائمها تتكشف بعد توجه جيش قانوني مؤلف من جمعيات حقوقية وأكثر من 500 محامٍ من كل أنحاء العالم بقيادة المحامي الفرنسي جيل دوفير، إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.
ووصلت إلى مكتب المدعي العام للمحكمة الخميس الماضي دعوى قضائية مكونة من 56 صفحة تطالب بفتح تحقيق في الوقائع المنسوبة لجيش الاحتلال في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ويتتبع نص الدعوى خيوط القضية منذ بدايتها، انطلاقا من فترة الانتداب البريطاني ووعد بلفور وقيام دولة إسرائيل، وصولا إلى الحروب الإسرائيلية العربية المختلفة واتفاقيات أوسلو لعام 1993 والحصار المفروض على القطاع وعملية طوفان الأقصى، ثم عدوان الاحتلال المستمر على المدنيين العزل.
وتستند هيئة الدفاع على الحقائق الموثقة وإعلانات النية الواضحة للمسؤولين الإسرائيليين لارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني.
وقال دوفير إن "القانون يصنف الإبادة الجماعية على أنها إبادة جسدية للسكان، ولكن أيضا تدمير المجتمعات من خلال جعل الحياة داخلها مستحيلة، بما في ذلك قطع المياه والكهرباء وتقليل الغذاء وتدمير المنازل والتهجير القسري، مع خطابات تصف السكان بالحيوانات وتجردهم من إنسانيتهم".
وأوضح دوفير في حديثه للجزيرة نت "على هذا الأساس، قدمنا شكوى بشأن الإبادة الجماعية لأن ما تقوم به إسرائيل يدخل في إطار كل الحالات التي تؤدي إلى هذه الجريمة، ولا نفتقر بتاتا للأدلة، لأن الدولة العبرية لا تخفي ما تفعله وتنشره بالصوت والصورة أمام العلن".
وبالتالي، لا يعتبر الحصول على الإثباتات أمرا معقدا، بحسب المحامي الذي ذكر بمقولة وزير الدفاع الإسرائيلي "سأقطع الماء والكهرباء لأنه يتعين علينا معاملتهم مثل الحيوانات، ونتنياهو الذي هدد بأن حياة الفلسطينيين لن تعود إلى سابق عهدها، فضلا عن اعتراف منظمة الصحة العالمية بتعرض سيارات الإسعاف للهجوم".
من جانبه، أكد المحامي عبد المجيد مراري، مدير قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة "إفدي" لحقوق الإنسان، أن أركان جرائم الاحتلال موجودة في قواعد القانون الدولي، بدءا من اتفاقية جنيف مرورا بلوائح لاهاي ونظام روما.
وأشار مراري في مقابلة مع الجزيرة نت إلى أن "هذه أول دعوى في تاريخ التعامل مع الجنائية الدولية في مسألة القضية الفلسطينية بشأن الإبادة الجماعية، واعتمدنا على اتفاقية تجريم الإبادة الجماعية لعام 1948 وبموجب المادة السادسة من نظام روما المؤسس لنظام المحكمة الجنائية الدولية".
وبالنسبة للمحامين المشاركين في الدعوى، فليس من الضروري أن يكونوا منتمين إلى الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية، لأن القاعدة الوحيدة هي التسجيل في نقابة المحامين بها.
وأوضح دوفير، وهو محام معتمد لدى الجنائية الدولية، أنه يتولى مهمة التوقيع على كل المستندات ومن ثم يقوم بتشكيل فريق الدفاع الخاص به. ويمكن أن يتكون هذا الفريق من 3 أشخاص، كما يمكن أن يصل إلى 500 شخص أو أكثر.
وقال دوفير، في السياق ذاته، "أنا لست زعيما سياسيا أو دينيا وإنما محام، وأرحب بالجميع للانضمام. فعلى سبيل المثال لدينا محامون من أصول إسرائيلية، كما من بين الجمعيات المشاركة نجد الاتحاد اليهودي الفرنسي للسلام الذي يعارض بشدة السياسات الصهيونية الإسرائيلية".
وفيما يخص تشكيل هذا الجيش القانوني، قال المحامي عبد المجيد مراري إنه تم الاعتماد على العلاقات الشخصية وعملية تشبيك العلاقات مع عدد من المنظمات الحقوقية التي دخلت على الخط للتواصل واختيار المحامين، مشيرا إلى أنهم تلقوا اتصالات من محامين كثر مهتمين بالقضية من الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا.
وشدد مراري على ضرورة اطلاع كل محامٍ على مشروع الشكاية قبل تقديمه التوكيل، إذ رفض بعضهم -وخاصة من فرنسا- الالتحاق بالمجموعة، مبررين ذلك بعدم تنديد نص الشكاية بالمقاومة الفلسطينية وعدم تطرقه لموضوع الأسرى أو وصف ما تقوم به حماس بجرائم حرب.
ويرى المحامي جيل دوفير أن المشكلة الحقيقة تتمثل في إقناع المدعي العام بالتحرك وتحمل مسؤولياته، حتى لو كثرت الضغوط عليه، معتبرا أن ما يحدث اليوم هو "اختبار قوي للإدانة".
وعند سؤال دوفير عن سبب صعوبة إقناع المدعي العام، أجاب بأن "التجارب السابقة أظهرت لنا أنه من الصعب دفعه لفتح تحقيق، وفي الوقت ذاته ينص القانون بوضوح على أن المدعي العام هو الوحيد القادر على أخذ هذا القرار".
في هذه الحالة، وبحسب المادة 51 من نظام روما، يتوصل المدعي العام بالدلائل ويمنح نفسه أجلا معقولا لدراستها وتحديد مدى مقبوليتها من حيث الموضوع وليس من حيث الشكل.
وفي هذا الصدد، أوضح مراري قائلا: "لقد حسمنا الأمر مع الجنائية الدولية حول مسألة المقبولية من حيث الشكل، لأنها تبسط ولايتها القضائية على الأراضي الفلسطينية، بما فيها الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة. بمعنى أن أمر المقبولية من حيث التخصص انتهى ولم يعد واردا بأي حال من الأحوال".
وتابع المتحدث نفسه "نحن على علم بالضغوط التي يواجهها المدعي العام وأن الولايات المتحدة الأميركية كانت سببا في تأخر التحقيق الذي كان من المفترض أن يبدأ في مارس/ آذار 2021. وبالتالي، نعوّل على جرأة المدعي العام واستقلالية المحكمة الجنائية التي لا تتبع للأمم المتحدة كمحكمة العدل الدولية ".
وأكد مراري للجزيرة نت: "لو كان لدينا ذرة شك حول عدالة القضية أو في أن ما يحدث لا يمثل أركان جريمة الإبادة، ما كنا لنغامر بسمعتنا وتاريخنا المهني الممتد إلى 15 عاما في التعامل مع الجنائية لتقديم هذه الدعوى".
ولفت المحامي الفرنسي دوفير إلى إمكانية اللجوء إلى الطعن في حال رفض المدعي العام فتح التحقيق، مؤكدا في الوقت ذاته أن جيشه القانوني سيفعل كل ما يلزم ويتجه نحو الاستئناف إذا تطلب الأمر ذلك حتى يطلب القضاء منه إعادة النظر في القرار.
وكرر المحامي المعتمد لدى الجنائية الدولية إصراره هو وكل فريق الدفاع على إسماع وفرض صوت العدالة من خلال إجبار المدعي العام، لأن المحكمة ليست ملكا للقضاة وإنما ملك للشعب الذي يطالب باحترام صارم للمساواة بين البشر، على حد تعبيره.
وحول احتمالية عرقلة الدول الغربية لقرار المحكمة، قال دوفير إن "دعم الغرب لقيام الدولة اليهودية على أرض الشعب الفلسطيني بدأ منذ عام 1917 بمباركة بريطانية وفرنسية، وهو دعم قائم على إنكار حق الشعب في تقرير المصير"، مضيفا: "يواصلون التمويل والمساعدات والتركيز على الإفلات من العقاب وتدمير الشعب لأنهم يتخيلون أن تدمير شعب قوي مثل الشعب الفلسطيني أمر وارد".
وتابع بالقول إن "القوى الغربية تدعم رهانا مجنونا يقضي بتصفية الشعب الفلسطيني على أرضه، ويؤسفني مشاهدة كل هذه الدول وهي تتبع أوامر الجنرال نتنياهو الكذاب والملطخة يداه بالدماء الذي تتم ملاحقته أيضا بتهمة الفساد".
وفي الأخير، أصر كل من دوفير ومراري على توصيل رسالة صريحة لكل الفلسطينيين مفادها: "سنقوم بكل ما يلزم للدفاع عنكم ونؤكد لكم أنكم لستم وحدكم".