ما هي ملامح القوة السعودية الصاعدة وتأثيرات ذلك على المملكة والمنطقة والعالم؟ كان ذلك موضوع محاضرة الأستاذ والباحث في جامعة هارفارد الدكتور نواف عبيد، ألقاها بمبنى الكونغرس الأميركي الجمعة الماضي. الحضور كان كبيراً على غير عادة اللقاءات المماثلة، التي تعقد نهاية الأسبوع في يوم ربيعي مشمس، فالموضوع مهم لساسة واشنطن هذه الأيام، فما يجري في الشرق الأوسط بات رتيباً ومحبطاً، ولكن «الاقتحام» السعودي للأحداث غيّر كل قواعد اللعبة، ولكن لا يزال كثر في واشنطن وغيرها، بل حتى محلياً، يعتقدون أنها مجرد غضبة سعودية عابرة.
بالتالي جاءت محاضرة الصديق والزميل نواف في وقتها، فواشنطن تلبست بمسوح إيرانية خلال السنوات الماضية، وترسب عندها أن إيران هي القوة المقبلة في المنطقة، وعليها التغاضي عن الاختلافات المتراكمة بينهما في براغماتية سياسية، بل إنها باتت معجبة بها، فظهر ذلك غير مرة في تصريحات الرئيس الأميركي باراك أوباما نفسه، ترافق مع هذا تراجع دور السعودية وتحولها إلى «شاكٍ» يعاتب الأميركيين كلما التقاهم، والحق أن لا أحد يحب كثيري الشكوى والتأفف، ويعجب القوم بالقوي الحازم.
معظم هذه المقالة أنقلها من محاضرته، وهو لمن لا يعرفه عمل مستشاراً سياسياً للأمير تركي الفيصل خلال عمله سفيراً بالمملكة المتحدة، واستمر في العمل نفسه مع سفيرنا الحالي هناك الأمير محمد من نواف، ووصفتهما وكالة «بلومبرغ» أخيراً أنهما يمثلان خط الصقور السعوديين المؤيدين بقوة لـ «عاصفة الحزم».
أول شواهد القوة السعودية، التي افتتح بها عبيد محاضرته، هو التحول السلس للسلطة في المملكة بعد وفاة الراحل الملك عبدالله، يقول: «إنه ليس تحولاً من الجيل الأول للثاني وهذا جديد تماماً، بل حتى للثالث».
هذه النقطة مهمة في الغرب، إذ انهالت المقالات والتحليلات القلقة حول مسألة انتقال السلطة، وذهب البعض إلى توقع أنه قد يؤدي إلى انقسامات داخل الأسرة. الواقع المشاهد أن الانتقال كان سلساً، بل إنه في خضم هذا التحول دشنت المملكة وبقيادتها الجديدة سياسة مختلفة قلبت كل قواعد اللعبة في المنطقة.
يرى السيد عبيد أن هذه السياسة استمدت قوتها من الحقائق الجغرافية السياسية الآتية: رعاية الحرمين الشريفين وهما أقدس مكانين لدى المسلمين، وأنها الدولة الرمز للسنّة في العالم، الذين يشكلون 90 في المئة من مسلمي العالم، ثم إنها الدولة القائدة في العالم العربي، (وأضيف من عندي، خصوصاً بعد انهيار العراق وسورية، وضعف مصر ودخولها حال استقطاب حاد عطل دورها القومي)، وهي عضو في مجموعة الـ20، والقائد الحقيقي لـ «أوبك»، ومن أكبر الدول في تقديم المساعدات الخارجية، والأكبر في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذ تنفق سنوياً ما بين 20 و25 بليون دولار (وعلى رغم أن هذه الحقيقة غير شعبية محلياً، إلا أنها إحدى أدوات النفوذ السعودي حول العالم).
وللمملكة وفق السيد عبيد علاقات استثنائية وتاريخية وتحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة، وفرنسا، وباكستان، وبريطانيا، وأستطيع أن أضيف من عندي تركيا، التي تتواعد الآن معها في منعطف تاريخي مهم، سيجعل منهما ثنائياً مهماً في تحولات المنطقة يستند إلى أنهما قادرتان وراغبتان، مع تبادل تجاري هائل مع الصين والهند واليابان. ولكن عبيد يخرج روسيا من دائرة الصداقة السعودية، ويجعلها مناوئة رئيسة لها على المنظورين القصير والمتوسط، ومعه حق في ذلك، وإن كنت لا أستبعد أن تؤدي سياسة الحزم السعودية الجديدة إلى أن يعيد الرئيس بوتين النظر في سياسة بلاده في المنطقة، التي ستخسر بالتأكيد إذا استمر الزخم الحالي في سياسة الرياض الجديدة، التي هي بحاجة لنجاح في اليمن لقطع الطريق أمام متشككي الخارج، والداخل أيضاً.
ويحدد الدكتور عبيد عدوين يواجهان المملكة، أولهما سنّي وهو «داعش» و «القاعدة»، والثاني شيعي وهو إيران والمجموعات التابعة لها في العالم العربي، وأضيف من عندي عدواً ثالثاً، هو حال الانهيار التي يعيشها المشرق العربي، التي تمتد حتى ليبيا، فالعدوّان السابقان يقتاتان على هذا الانهيار والفوضى المصاحبة له.
هذه المعلومات مهمة للمتلقي الأميركي، ولكنها أيضاً مهمة لنا في خضم الأحداث، فتغيب الرؤية عن البعض، ولكنه هنا يحدد الأولويات الاستراتيجية للعاهل السعودي، فأولها «الدفاع عن الوطن، ثم محاربة الإرهاب، فالدفاع عن الدول الحليفة للمملكة في المنطقة، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، وإضفاء الحيوية على الإدارة المحلية وأخيراً تقوية وإعادة هيكلة الأمن الوطني، والدفاع، والسياسة الخارجية ومؤسسات الطاقة».
انتقل بعد ذلك إلى تعريف الوضع في الدول العربية الأربع المنهارة (العراق وسورية واليمن وليبيا)، بأنها «انهيار كامل للدولة، فتوقفت عن التصرف كحكومة مركزية»، ما سمح بانتشار «القاعدة» و «داعش» والميليشيات الشيعية، إنه تعريف دقيق يحتاج إلى تحرك استراتيجي دقيق لوقف انهيار ثم إعادة بناء هذه الدول.
يستخدم نواف عبيد المبادرة أو التحرك السعودي في اليمن، كنموذج يمكن أن يتكرر في دول أخرى، ضمن كتلة دائمة من الدول المتوافقة في الرأي مع الرياض تعمل لتوفير الأمن والاستقرار وطيّ التمدد الإيراني في العالم العربي.
هنا أضيف بعدين آخرين لهذا النموذج، أنه يحظى بدعم أميركي، فالجملة التي تطلب من دول مجلس التعاون الخليجي «التشاور» مع الولايات المتحدة «عندما تخطط لعمل عسكري خارج حدودها»، وأشارت إلى «عاصفة الحزم» كسابقة تحتذى وردت في البيان الختامي لقمة كامب ديفيد، التي جمعت الرئيس الأميركي بقادة ومسؤولين من دول المجلس قبل أسبوعين، وفسرها البعض بأنها تحدّ من حرية دول المجلس وبالتحديد السعودية، فإنها على العكس تماماً، تطلق يد المملكة للقيام بعمليات أخرى تقتضيها مصلحتها الوطنية، وتشاورها مع حليفها الأميركي ليس طلب إذن، فهي لم تفعل ذلك في عاصفة اليمن، وإنما هو تصرف طبيعي بين حلفاء، خصوصاً أن الأميركي سيقدم دعماً لوجستياً وسياسياً، أسوة بما يفعل الآن في عملية اليمن، ويبدو أن الاتفاق اتسع ضمناً ليشمل الأتراك، الذين توصلوا إلى اتفاق الأسبوع الماضي مع الأميركيين يسمح لهم بتوفير دعم جوي للثوار السوريين.
في الجزء الثاني من المحاضرة، انصرف الدكتور عبيد إلى استعراض وبالأرقام للقدرة العسكرية السعودية، ممثلة في تعداد جيشها وعدد طائراتها المقاتلة والدبابات وقطعها البحرية. إنها قوة لا يستهان بها، متماسكة، وفي بلد مستقر، وتحظى باهتمام من القيادة السعودية، فتجري إعادة هيكلتها وتعزيزها في ظل التحديات المستجدة والدور السعودي الجديد في المنطقة، ولكن هذه قوة بلد إسلامي، يعيش ويتنفس بالدين، وبالتالي لا بد أن تضفي بعداً أخلاقياً على سياستها، تكون أيضاً عقيدة قتالية لجيشه، ويمكن صياغتها من مواقف المملكة الأخيرة، خصوصاً في اليمن التي عبر عنها غير مرة خادم الحرمين الملك سلمان، هبّة لنصرة المظلوم، والشرعية القائمة على توافق مجتمعي، وحماية الأمن القومي العربي، وإحلال الاستقرار والسلام، ودعم المصالحة بين الفرقاء من دون إقصاء أو انحياز، ثم التزام بإعادة بناء البلد من دون أن يكون للمملكة أي أطماع فيه.
مهمة كبيرة، ولكن لا بد أن يقوم بها أحد، وما من قوة في المنطقة أفضل من السعودية تبادر إليها.
* نقلا عن "الحياة" اللندنية