الزبيريُّ وتزعم الأبعاد الإصلاحية كافة

2020/04/03 الساعة 09:02 مساءً

أ.د. فؤاد البنا 
يُعد القاضي محمد محمود الزبيري أنجَب رجل أنجبته اليمن خلال العصر الحديث، فقد زخرت شخصيته بالكثير من المواهب والكفايات، وامتزجت في تركيبته العديد من المزايا والقدرات، ويدل فكره الراقي وشعره الرائع وتحركاته الكثيرة وعلاقاته الكثيفة وفعاليته الكبيرة، على أنه كان شديد الذكاء واسع العقل، بجانب تسلّحه بإيمان عميق بعدالة قضيته، وإخلاص وثيق في القيام بما نذر نفسه من أجله، ويمكن القول بأن مداركه العقلية الناضجة قد دفعته باكراً إلى ساحات النضال الوطني، حتى بدا كأنه قد وُلد عملاقاً، ولا غرابة في ذلك فإن الله أعلم حيث يجعل رسالته!  

لقد جمع في ذاته بين الفناء في حب خالقه ودينه وبين التفاني في خدمة شعبه وموطنه، لم ينشغل بنفسه يوما من عمره المديد، بل ظل شغله الشاغل هو وطنه الذي حاول العدم ابتلاعه، وظلت أمته همه الأكبر بعد أن صارت في كف عفريت، ذلك العفريت الذي أطلقته معادلة التخلف الداخلي والاستعمار الخارجي.

دخل الزبيري على الجهاد الوطني من كافة أبوابه المشرعة، ولم يترك مجالا إلا ووَلَجه، ولم يجد وسيلة إلا وتذرّع بها من أجل انتزاع وطنه من بين أنياب الوحش الإمامي ومخالب الدجال الكهنوتي؛ لدرجة أنه تنازل عن أنفته واعتزازه بذاته ومدح الإمام يحيى لعله يرعوي عن رعونته وينتهي عن غيّه ويستحي عن استحيائه للشعب في عبوديته، فينتصر على طغيانه ويعطي للشعب حقوقه، لكنه لم يزدد مع الأيام إلا عتواً ونفوراً، فطوى الزبيري صفحة المديح وسمى تلك القصائد بالوثنيات، ثم اتخذ من ذلك الشعر عصاةً غليظة جلَد بها ذلك الظالم!

 وحينما رأى بعد سنوات أن النضال الفردي لم يُؤتِ ثماره المرجوة؛ ترك دراسته الأزهرية بدون أسف، ودلف إلى النضال الجماعي المنظم بالشروط التي سطّرها تميّزه العقلي؛ فأسس العديد من المنظمات والهيئات التي تبنت أفكاره النضالية ضد منظومة الظلم والظلام الإمامية، وأصدر مع إخوان له العديد من الصحف التي انحازت للحق وصدعت بالحقيقة، وعملت دائبةً من أجل أن يستعيد اليمنيون سعادتهم المفقودة ويسترجعوا حكمتهم التي أهدرها الحمق الكهنوتي الذي كان يعتقد بأن اليمن عطيةٌ له من رب السماء بموجب  الانتساب إلى الدوحة النبوية!

 
ولعلم الزبيري بأن الشعوب لا تصبح لقمة سائغة للطغاة إلا إن حملت في ذاتها فيروسات القابلية للظلم والاستكانة؛ فقد اجتهد في تحرير الشعب من هذه القابلية بكل الوسائل والأساليب الممكنة، ومن أجل ذلك لم يتردد عن اقتحام أي سبيل ولم يتوقف عن السير في كل درب، حتى أنه تبنى مع أحمد محمد نعمان البنا العمل التربوي الهادئ تحت مظلة الأمير البدر الذي كان ولي العهد للإمام أحمد حميد الدين، ولا سيما بعد أن رأى (مصرع الابتسامة) في ١٩٤٨ واستشهاد العديد من أحرار اليمن، في ظل مباركة بعض الجماهير التي كانت تكتظ بها زرائب العبودية وحظائر الجهل الأعمى!

 
وبالمثل فقد لاحظ الزبيري أن انقسام اليمنيين إلى فئات صغيرة، جعلهم يشعرون بالعجز عن التغيير ويراهنون على قوى خارجية في تحقيق ذلك، رغم إجماعهم على ضرورة التغيير على مستوى العواطف والانفعالات، وقد سمى هذه الآفة ب(العُقدة اليزنية) نسبة للقائد اليمني الشهير سيف بن ذي يزن الذي تعب من تثوير قومه ضد الغزاة الأحباش فلجأ للاستعانة بالفُرس!


 وقد حاول الزبيري تخليص اليمنيين من هذه العقدة عبر أفكاره العميقة، وقصائده الثورية، وخطاباته الملتهبة، وكتاباته التعبوية، وقطع شوطا كبيرا في هذا الطريق لكن التحديات كانت أكبر منه، فاصطفاه الله شهيدا قبل أن يصل إلى مرفأ النجاح التام في هذه المهمة المقدسة.

 ولقد تقلّب في النضال الوطني وتنقّل من طبق إلى طبق، وانتقل من مجال إلى آخر، وبذل في سبيل ذلك الغالي والنفيس، وعانى من الكثير من الويلات والمرارات، لكنه لم يتوقف عن المجاهدات والمكابدات، فتعرّض لفجائع السجون والمعتقلات، وعانى من مواجع النفي والتغريب، وفي الأخير لم يتأخر عن بذل أغلى ما يملك، وهي نفسه الكبيرة التي وسعت كل أبناء وطنه، بمن فيهم أولئك الذين حرّضوا على قتله والذين خططوا بل ومن نفذّوا تلك الجريمة البشعة، ولا أشك أنه حينما وُضع في حاصلة طائر أخضر قد قال، مثل مؤمن آل ياسين: {يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المُكرَمين}!

ولقد كان الزبيري شاهداً حيا على أن صراط الحق واحد وأن سبل الباطل متعددة؛ فقد ظل صوتاً للمظلومين وسوطاً على الظالمين، ووقف خلفه تيار من الأحرار الأبرار، بينما اختلفت في الطرف الآخر العديد من التيارات الإمامية والجمهورية على كل شيء، لكنها اتفقت على أن الزبيري خطر ماحق عليها، ولذلك فقد تعرض لمحاولات عديدة من الاغتيال المعنوي والمادي من قبل التيارات التي تولت كبر التآمر عليه وعملت من أجل إسكاته إلى الأبد، ولا ندري بالضبط من الجهة التي نجحت بالسقوط في جرم اغتيال الزبيري، الذي ارتفع شهيدا مضرجاً بدمائه بعد أن قضى حياته كلها مناضلاً في سبيل وطنه ومنافحاً عن دينه وأمته.     
                    أ.د. فؤاد البنا