لحمد لله
الحكم بكفر إنسان بعينه أمرٌ بالغ الخطورة، إلى حدٍّ من الجدية جعلتالنبى صلى الله عليه وآله وسلم يضع المُكفِّر بين خيارين لا ثالث لهما:
إما أن يكون الحكم صحيحاً أو أنه يرتدُّ على من أطلقه، وذلك من حديثالبخارى ومسلم: «أيُّما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إنكان كما قال وإلا رجعت عليه».
بل إنَّ النبى صلى الله عليه وآله وسلم عدَّ التكفيرَ جريمةً تعادلجريمة القتل، وذلك من حديث البخارى ومسلم أيضاً: «لَعْنُ المؤمن كقتلِه،ومن رمى مؤمناً بكفرٍ فهو كقتلِه».
ومن المعلوم أنَّ قتْل إنسان واحد كقتل الناس جميعاً، قال تعالى: (مَنْ قَتَلَ نفْسَاً بِغيرِ نفْسٍ أو فسادٍ فى الأرضِ فكأنَّما قتلَالنَّاسَ جميعاً ومَنْ أحياها فكأنَّما أحيا النَّاسَ جميعاً).
لذلك فإنَّ الحكمَ على إنسان بالكفر لا يجوز إلا فى ثلاث حالات فقط:
الأولى: أن يعلن كفره بنفسه.
الثانية: أن يرتكب فعلاً من صريح الكفر على نحو لا يقبل التأويل كمنيتعمد إهانة المصحف على نحو صريح بوضعه تحت القدم أو بوضع القاذورات عليهوالعياذ بالله.
الثالثة: استحلال محرم مقطوع بتحريمه كمن يقتل نفساً معصومة وهو مصرٌّ على أن قتلها مباح.
حتى أن العلماء رفضوا الحكم على من يسجد لغير الله بالكفر أو الشركحتى يُسأل عن نيته من السجود، فإن قال إنه نوى عبادة المخلوق الذى سجد لهفقد «أشرك» شركاً يُخرجه من الملّة، وإن قال إنما قصدت بذلك التحيةوالاحترام فقد ارتكب «إثماً» لا يُخرجه من الملة، لأن سجود التحيةوالاحترام حرام فى شريعتنا، وقد كان فى الشرائع السابقة جائزاً على سبيلالاحترام كما فعل نبى الله يعقوب وزوجه وأولاده لابنه يوسف، قال تعالى: {وَرَفَعَ أبَوَيْهِ على العرشِ وخَرُّوا له سُجَّداً).
والشرائع لا تختلف فى العقائد وإنما يكون اختلافها فى الأحكام «يجوز أو لا يجوز».
وكان أول من ارتكب جريمة تكفير المسلم هم الخوارج الذين برروا نقضهمللعهد الذى بينهم وبين الإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه بتكفيره، فكانهذا التكفير مرتبطاً بقصد سياسى وهو تبرير الانشقاق السياسى واستباحةالاغتيال، وهو ما حصل بالفعل فقد كان قاتل أمير المؤمنين وابن عم سيدالمرسلين الإمام علىّ يعتبر نفسه مناصراً لدين الله ومدافعاً عن شرع اللهبقتله لمن حكم هو وجماعته بتكفيره، بينما رفض الإمام على تكفيرهم بالرغم منخروجهم عليه.
ومن ذلك العصر ظهرت حركات وجماعات استباحت قتل مخالفيهم السياسيين عبر مقدمة تكفيرهم كالفِرَقِ الباطنية.
وبالرغم من أن مطلق الكفر لا يبيح القتل إلا إذا اقترن بالعدوان،غير أن الجهل بالدين يجعل الشريحة الجاهلة قابلة للتعبئة المغلوطة التىتؤدى إلى القتل، لا سيما إذا اقترنت بالمشاكل النفسية أو السخط علىالمجتمع.
وفى عصرنا شاهدنا أمثلة حيّة لاقتران التكفير بالقتل، كاغتيال فرجفودة ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ اللذين مهما كان الاختلاف حول الأفكار التىطرحاها فإن هذا لا يُبيح ارتكاب جريمة اغتيالهما ولا يُبررها.
ومن الملاحظ اليوم أن المشهد يُكرّر نفسه لدى متطرفى الشيعة الذينيُصرّحون بإهدار دم السنة «الوهابية»، ومتطرفى السنة الذين يستبيحون دمالشيعة «الروافض» عبر مقدمة سابقة للقتل ألا وهى التكفير.
وعندما نسمع من يدّعون العلم ويلبسون ثوب المشيخة الشرعية، والعلموالشريعة من أقوالهم براء، وهم يرمون مخالفيهم السياسيين بالكفر فإن ذلكليس له إلا معنى واحد هو التحريض على القتل.
لهذا عدَّ النبى صلى الله عليه وآله وسلم التكفير بمرتبة القتل.
ولهذا فنحن بحاجة إلى سنِّ قوانين تُجرِّم التكفير وتُعاقب مرتكبه حقناً للدماء وصيانة للدين من جهل الجاهلين وتلاعب المُتلاعبين.
وقد بلغ الضلال بأحد الخوارج أنه سمع خطبة لأمير المؤمنين على بنأبى طالب رضى الله عنه فخرج وهو يقول: ما أفقه هذا الكويفر! (كويفر: تصغيركافر).
لست مؤيداً للنظام أو المعارضة السياسية فلست سياسياً، ولكل منالناس حق الاختيار.. غير أن إقحام التكفير على الخلاف السياسى هو اعتداءصارخ على الشريعة المطهرة لا يسع طالب العلم السكوت عنه.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنااجتنابه، وأزل العمى عن البصائر ونقِّ السرائر وأصلح الضمائر يا مُقتدر ياقادر.