قيم أم مصالح؟

2015/06/04 الساعة 03:48 صباحاً

يقاتل الإنسان ـ في الغالب – لمصلحة، وليس لقيمة، غير أنه عندما يقاتل من أجل مصالحه، يغطي على المصالح التي يقاتل من أجلها بشعارات قيمية دينية – في الغالب – أو إنسانية أو قومية أو وطنية.

الحروب ـ غالباً ـ لا تكون بين المبادئ، بل تكون بين المصالح السياسية والاقتصادية، والصراع غالباً هو صراع حول السلطة والثروة. لا يمكن أن نتصور أن يقاتل إنسان إنساناً آخر لمجرد أنه يذهب إلى الكنيسة، أو يتعبد في مسجد، أو لأنه يضم في الصلاة، أو يسربل، أو لأنه يعتنق أفكاراً ويؤمن بقيم معينة. هذه أمور لا تبعث في حقيقتها على القتال، الذي يبعث على الحروب هو أن أحد المتقاتلين يريد أن يأخذ «كعكة» الآخر، أو جزءاً منها، وهنا ينطلق الصراع المرير، الذي يغلف بمصطلحات وشعارات قيمية لا علاقة لها بالـ»كعكة»، محل الصراع، من مثل سني شيعي، مسيحي مسلم، ديمقراطي ديكتاتوري، أصولي حداثي، رجعي تقدمي، وغير تلك من المصطلحات التي تغطي حقيقة أن الصراع هو حول كعكة السلطة والثروة، لا غير.

وفي مثل تلك الحالات، فإن المجموعة التي تعرف حقيقة الصراع، هي المجموعة المستفيدة منها، وهم قادة الحروب وتجارها، بينما تغيب الأهداف الحقيقية للصراع عن جماهير الحروب التي غالباً ما تكون هي وقودها وضحاياها في كل مكان. وسبب تغليف الصراعات بأغلفة دينية أو غيرها هو لإعطائها المبرر الأخلاقي – أولاً – ولكي تتم عمليات التجييش والتحشيد الجماهيري اللازم. لا يعني ذلك بالطبع عدم وجود ما يمكن أن يسمى «الصراع القيمي»، وهو نادر الحدوث في صورته المثالية، القائمة على ردع العدوان، ودفع الظلم، والبحث عن العدالة والمساواة.

وبالنظر لما يجري في المنطقة العربية اليوم، يمكن القول ببساطة بأنه تجلٍ لصراع المصالح التي لبست عباءة القيم، المصالح التي تكون سياسية تدور حول تملك السلطة والاستحواذ على الثروة، والقيم التي تكون روحية إنسانية تهدف إلى تنظيم هذه المصالح المتضاربة حتى لا يقع الناس في الصراع.

وفي المنطقة العربية، حيث تكمن مصالح دولية وإقليمية كبرى، تعد هذه المصالح سبباً رئيسياً من أسباب الصراع الدائم، سواء كان هذا الصراع بين العرب وإسرائيل، أو كان بين العرب والعرب، وهذا يفسر إلى حد كبير عدم استقرار هذه المنطقة لفترات طويلة، حيث تعتمد المصالح الدولية على إذكاء الصراعات بأشكالها المختلفة، لاستمرار تلك المصالح الدولية التي يأتي توفير الطاقة العالمية في مقدمتها.

جاء جورج بوش الابن على سبيل المثال إلى العراق في عملية غزو فاضحة من أجل النفط، لكنه غلف هذا الغزو بشعار قيمي تمثل في نشر الديمقراطية وإسقاط الديكتاتورية، وتحرير الشعب العراقي، ناهيك عن جعل العراق «نموذجاً ديمقراطياً»، يحتذى في المنطقة، وغيرها من الشعارات التي أوصلت العراق اليوم إلى حالة يتم إزاءها التساؤل عن وجود هوية عراقية من الأساس، في ظل تنازع الهويات الطائفية والقومية لهذا البلد، الذي نكب بالغزو في 2003، ونكب بتشكيلة «مجلس الحكم» – الذي أعقب الغزو – في ثوبه الطائفي المقيت.
وفي سوريا حيث يوجد واحد من أكثر أنظمة القمع الوحشية الطائفية، يحلو لهذا النظام أن يسوغ حروبه بمسوغات قيمية تقوم على مبادئ العلمانية، التي لم تكن سوى غلاف شفيف بالكاد يستر حقيقة الحرب الشاملة لهذا النظام، الذي سيذكر بلازمة «البراميل المتفجرة» التي قتلت مئات الآلاف، وشردت الملايين، ومسحت مدناً تاريخية من على الخريطة. كل ذلك الصراع الذي يخوضه النظام السوري يقوم على أساس توظيف أدوات قيمية وطائفية لإضفاء المبرر الأخلاقي ولتحشيد الدعم العالمي، والاصطفاف الطائفي إلى جانبه. والشأن ذاته في اليمن حيث يحتدم الصراع السياسي والعسكري على السلطة والثروة تحت يافطات دينية ووطنية مختلفة.

والواقع أن الصراعات التي نشهدها في المنطقة العربية لن تنتهي ما لم نكف عن «توظيف القيمي لخدمة المصلحي أو الديني لخدمة السياسي»، ونحرر الصراعات السياسية من خداع الشعارات الكاذبة التي يستعملها تجار الحروب من أجل التبرير الأخلاقي لحروبهم، ولحشد الناس في جبهات القتال لخدمة مصالحهم هم، لا مصالح الجماهير المتحشدة وراء اليافطات الكاذبة والصرخات الفارغة. ويأتي ذلك بالكف عن توظيف الدين لخدمة أغراض سياسية، وإدارة الصراع السياسي بأدوات تعتمد على برامج عمل سياسية واقتصادية خالصة، تخاطب الجمهور على أساس ماذا ستقدم له من خدمات، وما ستفعل من إنجازات، لا على أساس العزف على الوتر الديني لابتزازه عاطفياً وفكرياً بالوسائل الدينية.

ولا شك أن هذا المشوار طويل، والطريق شائك، يحتاج جهوداً تنويرية وتربوية وتعليمية وثقافية وفكـــــرية مركبة، إذ ليس من السهل تغيير قناعات خاطئة لــــدى الجمــــهور، كرستها أزمنة متعـــاقبة من التنكـــيل والتجهيل.