من مفارقات المشهد السياسي الجنوبي أن الجماهير الجنوبية غير المسيسة والمؤمنة بعدالة القضية الجنوبية وحتمية استعادة الجنوب لدولته المستقلة كاملة السيادة على كامل التراب الجنوبي، من زقر وحنيش وميون وكمران غربا حتى حوف وصرفيت وحبروت شرقا، هذه الجماهير تعيش توحدا وتماسكا وانسجاما قل نظيره سواء في مرحلة النضال السلمي المنطلق منذ العام 2007م أو مرحلة المواجهة المسلحة للغزو الثاني منذ مطلع العام 2015م، بينما نلاحظ تفككا وعدم انسجام بين النخبة السياسية الجنوبية في الداخل والخارج وهو ما أخر حصول الجنوب على الاستحقاقات السياسية التاريخية التي انتظرها الجنوبيون طويلا.
لا يمكن لعاقل أن يطلب من السياسيين الجنوبيين جميعا أن يكونوا على اتفاق في كل الأشياء من ألفها إلى يائها، فهذا أمر لا يتوافق ومبدأ التعدد والتنوع والاختلاف البناء، لكن أيضا لا يمكن لعاقل أن يفهم على ماذا يختلف السياسيون الجنوبيون وهم الذين يرفعون نفس الشعار ويطرحون نفس المطالب ويستخدمون نفس الوسائل ويناضلون من أجل نفس الهدف؟.
في اعتقادي أن معظم الأسباب في ما تعانيه الحركة السياسية الجنوبية من تفكك وتباعد وعجز عن لم الصفوف وتوحيد الطاقات يعود إلى عدم التعود على الاختلاف والتنوع، وعدم استيعاب معنى ثقافة الاختلاف البناء، الاختلاف الذي يصنع النتائج المثمرة لصالح الشعب الذي يتغنى باسمه الجميع، ولذلك نسمع الجميع يردد نفس الشعارات ويطرح نفس المطالب وينادي بنفس الوسائل ويسعى إلى نفس الأهداف لكننا ما إن ندعو جميع هؤلاء إلى التقارب والتلاحم حتى ينفر كل منهم من الآخر.
من المؤسف أن معظم السياسيين الجنوبيين ما يزالون ينهلون من ثقافة "من ليس معي في كل شيء أنا ضده في كل شيء" وهي ثقافة تقوم على اللون الواحد والرأي الواحد والموقف الواحد، الذي يرى أصحابه أن كل ما عداه باطل زهوق، هذه الثقافة لا تنتمي إلى عصر الثورة الرقمية ولا إلى عوالم المجتمع المتنوع المتعايش وهو ما يلحق أبلغ الضرر بالحركة السياسية الجنوبية، وقد تسحب نفسها لتؤثر على مكونات المقاومة الجنوبية المسلحة وجماهير الحراك السلمي الجنوبي إذا لم تنأى بنفسها عن الجيل السياسي الذي ما يزال يعيش عصور تلك الثقافة.
سيكون من المعيب على السياسيين الجنوبيين أن يبقوا متشبثين باختلافاتهم التاريخية وتقديسها فوق قضية الجنوب العظيمة، بينما سجل الشباب الجنوبيون وقياداتهم الفدائية أسطورة تلاحم قل نظيرها في التاريخ المعاصر وهزموا تحالف أعتى قوتين في تاريخ الحروب اليمنية (تحالف الحوثي وعفاش) وسجلوا بدعم وتعاون قوات التحالف العربي وفي مقدمتها القوات العربية السعودية الشقيقة، أسطورة النصر التي قل نظيرها في العصر الحديث.
كان كاتب هذه السطور قد تناول عدة مرات قضية التحالف الوطني الجنوبي العريض، والذي أسميناه الجبهة الوطنية العريضة، ويمكن أن يسمى أي تسمية أخرى، ولمزيد من الإيضاح فإنني هنا أدعو السياسيين الجنوبيين جميعا إلى اللقاء على طاولة نقاش عاجلة وسريعة وحاسمة، يمكن أن تفضي إلى قيام تكتل تحالفي جنوبي عريض يتسع لجميع المكونات السياسية الجنوبية من ناحية، ويحافظ فيه كل مكون سياسي باستقلاليته وحقه في اختياراته الفكرية والتنظيمية والسياسية، وهذا التكتل يمكن أن يقوم على القواسم المشتركة بين الجنوبيين وأهمها النضال من أجل استعادة الجنوبيين لدولتهم الحرة كاملة السيادة.
وخلاصة القول: لن يستطيع أحدكم أن يلغي البقية من الوجود السياسي، ولو استحوذ على السلطة واستخدم الدبابة والمدفعية، كما لا يمكن أن يتفق الجميع في كل شيء، بل لا بد من استمرار التميز والتباين البناء والمثمر، وعليه فليلتق الجميع حول ما هو مشترك وترك القضايا الخلافية وهي غير جوهرية (وحتى لو كانت جوهرية) ليحسم فيها الشعب الجنوبي باختياراته الحرة التي تقوم على المفاضلة بين البرامج السياسية ومبادئ العمل السياسي والديمقراطي القادم في الجنوب الجديد المتحرر من العصبية والجهوية والتبعية والتمييز.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من صفحة الكاتب على شبكة التواصل الاجتماعي فيس بوك.