* بقلم: عبدالوهاب العمراني
نحو خمسة أعوام ونيف من انطلاقة الربيع العربي والتي تحولت من إشكالية بين الحاكم والمحكوم إلى إشكالية أقلمة المنطقة وتداخلها مع قضايا الإرهاب وكلها مسوغات لإغراق هذه البلدان بالصراعات المستدامة يأتي هذا متزامنا مع ذكرى مرور مئة سنة بالكمال والتمام لما عُرف باتفاقية (سايكس بيكو) عام 1916، والتي كانت اتفاقا وتفاهمًا سريًا بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية على اقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا لتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا بعد تهاوي الدولة العثمانية المسيطرة على هذه المنطقة في الحرب العالمية الأولى
ولقد تم الكشف عن الاتفاق بوصول الشيوعيين إلى سدة الحكم في روسيا عام 1917، مما أثار الشعوب التي تمسها الاتفاقية وأحرج فرنسا وبريطانيا.
بين عام 1916 وعام 2016 حقبة عربية حافلة بالأحداث ، وإختيار هذا المسافة الزمنية قرن مابين الفترتين لها دلالاتها وأبعادها ، فقد شهدت المنطقة العربية منذ قرن مضى سلسلة من الهزات العنيفة أستهلت بدايات القرن الماضي باستنساخ أزمات أوروبا للمنطقة العربية منذ الحرب العالمية الأولى والمتزامن بأفول نجم الخلافة العثمانية وتكريس (سايس بيكو) .
ومن يتابع تاريخ أوروبا الحديث من وجهة النزاعات الإقليمية يتبين له بأن الحروب الإقليمية فيما بين دول القارة قد ولّت إلى غير رجعة منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي أي بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها ، وتزامن ذلك ببدء استقلال بعض الأقطار العربية التي كانت لا تزال تحت السيطرة الاستعمارية يومذاك، وتحول بعضها للأنظمة الجمهورية فجأة ، ومنها نهج الأسلوب الديمقراطي شكلاً دون الأخذ بمضمون المعنى وجوهره، حينها لم يكن لأصحاب التغيير تحت راية الشرعية الثورة العرب مشروعاً واضحاً ورؤية بعيدة المدى لما ستؤول إليه تطور المجتمعات العربية في غياب التطور الاقتصادي الموازي للتطور السياسي، وكذا مخرجات التعليم الذي أفرز مشاكل اقتصادية واجتماعية لا مجال هنا لسردها.
الإشكال فيما يعيشه العرب اليوم يتمحور في شقين على مستوى قطري او في النظام الإقليمي العربي ويتلخص في متاهة الهوية وغياب مشروع حضاري تجمع عليه الأمة في كلا الحالتين ، فأوجه ذلك يتجلى في عدم استيعاب العرب لجملة من المفاهيم التي تركها فراغ الخلافة العثمانية كالقومية وتداخلها مع الشعوبية ، ودور الدين في السياسة ، وكذا الحرية والتي تجسدت في عدم استيعاب النُخب العربية لقيم الديمقراطية وتبين ذلك في تفاصيل الدساتير التي هي الأخرى شملت خلاصة لتجارب الأمم المتحضرة في الغرب ولكنه كان مجرد استنساخ وتقليد في قشور الحضارة فقط لإسكات معارضات الداخل وإرضاء الخارج ، وغدت في جمهوريات العسكر العربية مجرد قيم افتراضية ليس إلا !
لقد كان المجتمع العربي أبان الاحتلال العثماني أكثر تقبلاً للتحول الذي تفرضه طبيعة التحولات على غرار مسيرة أنظمة الغرب وتحرره من الكنسية المتزامن مع عصور النهضة ، بينما في الحالة العربية كان لصدمة الحضارة تبعات مروعة تزامن مع تأمر غربي فجّ وتقاسمه للمنطقة العربية وخلق بؤر مزمنة بحدود دولية غدت امراً واقعا بعد اقتسام تركة (الرجل المريض) الدولة العثمانية التي أفل نجمها في الربع الأول للقرن الماضي.
لم تكن الحرب العالمية الأولى قد أنهت التناقضات والأزمات داخل القارة العجوز فخرجت ألمانيا بركان حقد يغلي لهزيمتها في تلك الحرب وصل هتلر للسلطة بطريقة انتخابات ديمقراطية بشخصيته الكرازمية عندما التفت حوله الأمة الألمانية للثأر من كرامتها فعزف على وتر عنصري وهو ما تتمحور حوله الفكرة النازية ولكن العداء لهذا التيار الجارف من ألمانيا قابلة تحالف الخصوم المد الشيوعي والرأسمالي فتم وأد طموحاته بالانتصار الساحق عليه على النحو المفصل في التاريخ الأوربي الحديث ، فالحرب الثانية قد أفزرت هي الأخرى غرس كيان سياسي في خاصرة الأمة العربية والإسلامية ، ومن يومها تكالبت الأمم على هذه العرب كما تتكالب الأكلة على قصعتها . فتوالت المصائب والمحن بهزائم عربية متوالية حروب ونكسات 56 و67 مرور بحرب تحريك وليس تحرير أكتوبر من العام 1973 والتي تكمن نتائجها في انقسام الأمة العربية بين خندقين الأول ماعُرف بالتسوية والاعتراف بهذا الكيان كأمر واقع وبالتالي إقامة علاقات دبلوماسية مفروضة حسب تلك الاتفاقيات وبين خندق آخر يدعي انه ضمن دول الممانعة وهذه الأخرى التي في اغلبها تحكمها جمهوريات العسكر العربية توارت تلك الأنظمة تحت ضربات رياح محاولات التغيير والانتفاض على تلك ألأنظمة الاستبداد فيما عرف بالربيع العربي .
أرى بأن مأسي المجتمعات العربية المتلاحقة ولاسيما في جزئية العلاقة بين الحاكم والمحكوم والعلاقة بين الشعب نفسه لا تعزى فقط في الجانب التعليمي فحسب بل وفي مجموعة قيم وأخلاق وتربية وسلوك حضاري فالتعليم وحدة مهما بلغ لايكفي لكبح جِماح سلوك وتهور الإنسان ومهما تمدن ، والنُخب السياسية والمثقفة في اليمن تتحمل المسئولية الأولى في معاناة الشعب وليس عامة الشعب وفي هذا السياق يرى أديب اليمن الكبير الدكتورعبدالعزيز المقالح في مقالة نشرها مؤخراً : «.. بأن التحصيل العلمي والثقافي مهما علا وارتقى لا يصنع الإنسان السوي ، فأوربا في النصف الأول من القرن العشرين وصل المستوى الثقافي والتعليمي بين سكانها درجة عالية متقدمة مقارنة بالعصور الوسطى حيث يقدم لنا التاريخ القريب للقارة العجوز نماذج لا حدود لها لبشر تحقق لهم من التعليم الراقي والثقافة العالية ما يجلهم قدوة في هذا المجال ، لكنهم كانوا وراء الحروب الأبشع في تاريخ البشرية وكانت الحربان العالميتان الأولى والثانية اللتان دارتا في القارة الأوروبية بين الجيران وأتباع الديانة المسحية التي تدعو الى الرحمة والسلام نموذجا للتوحش والدعوة للإبادة وإذا صحت الأرقام فأن أوروبا خسرت من أبنائها في الحربين ستين مليونا ، فإنها تمثل قمة الوحشية ، ويضيف الدكتور المقالح بأن القضية إذا ليست قضية بيئة حاضنة للمعرفة والثقافة والتمدن بل قضية تكوين نفسي تجذّرت فيه الوحشية وتأصلت ولم يكن للدين في الحروب المعاصرة ولا الانتهاكات ، او عاملا فاعلا بقدر ما كان الشر الكامن في تلك النفوس هو الدافع والمؤثر ، وما يحدث اليوم في وطننا العربي وفي العالم الإسلامي لا يختلِف كثيرا عن ذلك الذي شهدنه أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين . صراعاً سياسيا وبحثاً دؤباً عن الغلبة والاستئثار والإحساس بالنصر لدى المنتصر الذي قد يكون مهزوما من داخلة ! ومنكسرا بدرجة لاتقل عن إحساس خصمه المهزوم . ولكن تبلد الإحساس ونشوة التوحش أللإنساني تجعل من الصعب التفكير بالقيم والانصياع لسماع صوت العقل.. » مئة عام من سايس بيكو
تقسيم المُقسم
* بقلم: عبدالوهاب العمراني
نحو خمسة أعوام ونيف من انطلاقة الربيع العربي والتي تحولت من إشكالية بين الحاكم والمحكوم إلى إشكالية أقلمة المنطقة وتداخلها مع قضايا الإرهاب وكلها مسوغات لإغراق هذه البلدان بالصراعات المستدامة يأتي هذا متزامنا مع ذكرى مرور مئة سنة بالكمال والتمام لما عُرف باتفاقية (سايكس بيكو) عام 1916، والتي كانت اتفاقا وتفاهمًا سريًا بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية على اقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا لتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا بعد تهاوي الدولة العثمانية المسيطرة على هذه المنطقة في الحرب العالمية الأولى
ولقد تم الكشف عن الاتفاق بوصول الشيوعيين إلى سدة الحكم في روسيا عام 1917، مما أثار الشعوب التي تمسها الاتفاقية وأحرج فرنسا وبريطانيا.
بين عام 1916 وعام 2016 حقبة عربية حافلة بالأحداث ، وإختيار هذا المسافة الزمنية قرن مابين الفترتين لها دلالاتها وأبعادها ، فقد شهدت المنطقة العربية منذ قرن مضى سلسلة من الهزات العنيفة أستهلت بدايات القرن الماضي باستنساخ أزمات أوروبا للمنطقة العربية منذ الحرب العالمية الأولى والمتزامن بأفول نجم الخلافة العثمانية وتكريس (سايس بيكو) .
ومن يتابع تاريخ أوروبا الحديث من وجهة النزاعات الإقليمية يتبين له بأن الحروب الإقليمية فيما بين دول القارة قد ولّت إلى غير رجعة منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي أي بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها ، وتزامن ذلك ببدء استقلال بعض الأقطار العربية التي كانت لا تزال تحت السيطرة الاستعمارية يومذاك، وتحول بعضها للأنظمة الجمهورية فجأة ، ومنها نهج الأسلوب الديمقراطي شكلاً دون الأخذ بمضمون المعنى وجوهره، حينها لم يكن لأصحاب التغيير تحت راية الشرعية الثورة العرب مشروعاً واضحاً ورؤية بعيدة المدى لما ستؤول إليه تطور المجتمعات العربية في غياب التطور الاقتصادي الموازي للتطور السياسي، وكذا مخرجات التعليم الذي أفرز مشاكل اقتصادية واجتماعية لا مجال هنا لسردها.
الإشكال فيما يعيشه العرب اليوم يتمحور في شقين على مستوى قطري او في النظام الإقليمي العربي ويتلخص في متاهة الهوية وغياب مشروع حضاري تجمع عليه الأمة في كلا الحالتين ، فأوجه ذلك يتجلى في عدم استيعاب العرب لجملة من المفاهيم التي تركها فراغ الخلافة العثمانية كالقومية وتداخلها مع الشعوبية ، ودور الدين في السياسة ، وكذا الحرية والتي تجسدت في عدم استيعاب النُخب العربية لقيم الديمقراطية وتبين ذلك في تفاصيل الدساتير التي هي الأخرى شملت خلاصة لتجارب الأمم المتحضرة في الغرب ولكنه كان مجرد استنساخ وتقليد في قشور الحضارة فقط لإسكات معارضات الداخل وإرضاء الخارج ، وغدت في جمهوريات العسكر العربية مجرد قيم افتراضية ليس إلا !
لقد كان المجتمع العربي أبان الاحتلال العثماني أكثر تقبلاً للتحول الذي تفرضه طبيعة التحولات على غرار مسيرة أنظمة الغرب وتحرره من الكنسية المتزامن مع عصور النهضة ، بينما في الحالة العربية كان لصدمة الحضارة تبعات مروعة تزامن مع تأمر غربي فجّ وتقاسمه للمنطقة العربية وخلق بؤر مزمنة بحدود دولية غدت امراً واقعا بعد اقتسام تركة (الرجل المريض) الدولة العثمانية التي أفل نجمها في الربع الأول للقرن الماضي.
لم تكن الحرب العالمية الأولى قد أنهت التناقضات والأزمات داخل القارة العجوز فخرجت ألمانيا بركان حقد يغلي لهزيمتها في تلك الحرب وصل هتلر للسلطة بطريقة انتخابات ديمقراطية بشخصيته الكرازمية عندما التفت حوله الأمة الألمانية للثأر من كرامتها فعزف على وتر عنصري وهو ما تتمحور حوله الفكرة النازية ولكن العداء لهذا التيار الجارف من ألمانيا قابلة تحالف الخصوم المد الشيوعي والرأسمالي فتم وأد طموحاته بالانتصار الساحق عليه على النحو المفصل في التاريخ الأوربي الحديث ، فالحرب الثانية قد أفزرت هي الأخرى غرس كيان سياسي في خاصرة الأمة العربية والإسلامية ، ومن يومها تكالبت الأمم على هذه العرب كما تتكالب الأكلة على قصعتها . فتوالت المصائب والمحن بهزائم عربية متوالية حروب ونكسات 56 و67 مرور بحرب تحريك وليس تحرير أكتوبر من العام 1973 والتي تكمن نتائجها في انقسام الأمة العربية بين خندقين الأول ماعُرف بالتسوية والاعتراف بهذا الكيان كأمر واقع وبالتالي إقامة علاقات دبلوماسية مفروضة حسب تلك الاتفاقيات وبين خندق آخر يدعي انه ضمن دول الممانعة وهذه الأخرى التي في اغلبها تحكمها جمهوريات العسكر العربية توارت تلك الأنظمة تحت ضربات رياح محاولات التغيير والانتفاض على تلك ألأنظمة الاستبداد فيما عرف بالربيع العربي .
أرى بأن مأسي المجتمعات العربية المتلاحقة ولاسيما في جزئية العلاقة بين الحاكم والمحكوم والعلاقة بين الشعب نفسه لا تعزى فقط في الجانب التعليمي فحسب بل وفي مجموعة قيم وأخلاق وتربية وسلوك حضاري فالتعليم وحدة مهما بلغ لايكفي لكبح جِماح سلوك وتهور الإنسان ومهما تمدن ، والنُخب السياسية والمثقفة في اليمن تتحمل المسئولية الأولى في معاناة الشعب وليس عامة الشعب وفي هذا السياق يرى أديب اليمن الكبير الدكتورعبدالعزيز المقالح في مقالة نشرها مؤخراً : «.. بأن التحصيل العلمي والثقافي مهما علا وارتقى لا يصنع الإنسان السوي ، فأوربا في النصف الأول من القرن العشرين وصل المستوى الثقافي والتعليمي بين سكانها درجة عالية متقدمة مقارنة بالعصور الوسطى حيث يقدم لنا التاريخ القريب للقارة العجوز نماذج لا حدود لها لبشر تحقق لهم من التعليم الراقي والثقافة العالية ما يجلهم قدوة في هذا المجال ، لكنهم كانوا وراء الحروب الأبشع في تاريخ البشرية وكانت الحربان العالميتان الأولى والثانية اللتان دارتا في القارة الأوروبية بين الجيران وأتباع الديانة المسحية التي تدعو الى الرحمة والسلام نموذجا للتوحش والدعوة للإبادة وإذا صحت الأرقام فأن أوروبا خسرت من أبنائها في الحربين ستين مليونا ، فإنها تمثل قمة الوحشية ، ويضيف الدكتور المقالح بأن القضية إذا ليست قضية بيئة حاضنة للمعرفة والثقافة والتمدن بل قضية تكوين نفسي تجذّرت فيه الوحشية وتأصلت ولم يكن للدين في الحروب المعاصرة ولا الانتهاكات ، او عاملا فاعلا بقدر ما كان الشر الكامن في تلك النفوس هو الدافع والمؤثر ، وما يحدث اليوم في وطننا العربي وفي العالم الإسلامي لا يختلِف كثيرا عن ذلك الذي شهدنه أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين . صراعاً سياسيا وبحثاً دؤباً عن الغلبة والاستئثار والإحساس بالنصر لدى المنتصر الذي قد يكون مهزوما من داخلة ! ومنكسرا بدرجة لاتقل عن إحساس خصمه المهزوم . ولكن تبلد الإحساس ونشوة التوحش أللإنساني تجعل من الصعب التفكير بالقيم والانصياع لسماع صوت العقل.. »