أثارت قضية احتجاز ميلشيا الحوثي لمكتبة مركز العمراني الملحقة بجامع بلال في صنعاء، ردود فعل قوية، رغم ان الحوثيين قد خطفوا دولة كاملة ومؤسسات عسكرية وأمنية وأكاديمية.
لو تأملنا جيداً في ما نشره الحوثيون إعلامياً، حول هذه القضية ، فإنه يمثل تناقضا صارخا، لان مسوغات الإشكالية لا تحتاج جدل أصلاً حيث تتلخص في سيطرة ميلشياتهم على المكتبة منذ سنة وتحولت إلى مقيل قات وهذا باعترافهم وما تلمس سماحة مفتي الديار اليمنية في رسالة إلى صالح الصماد إلا ادانه إضافية ، كما ان نشر الصور المسيئة والتي ظهروا فيها كأنهم يستجوبون شخصا متهما في قسم شرطة، وليس شيخ إسلام ! ومفتي الجمهورية.
فهذه الصور لم ينشرها خصومهم بل هم من صورا ومن نشروها، بينما لم يعرف فضيلته انه تم تصويره أصلاً ، والصور تظهر عناصرهم، يحلقون على مفتي الديار اليمنية وهو في هذه السن المتقدمة يسمع مطالبهم بالتصرف بالمكتبة بسمعه الضعيف ووهن جسده المثقل بقرن من الزمن.
وبعد ذلك تم ترتيب زيارة قيادي سابق للشباب المؤمن، بتوسط من شخص يعرفه فضيلته لترتيب اللقاء ويتوقع ترتيب زيارة لاحقة ربما في محاولة بائسة للتغطية على ما لحق بالعمراني من إساءة.
كثر الجدل والهرج والمرج في كل مرة، ويكفي لإيضاح موقف المليشيات من العمراني، انه في زمن الميليشيا أعلن وفاة سماحته ثلاث مرات ومرتين قبلها أي خمس إشاعات وفاة في نحو عامين، يغرد بالوفاة حساب شخص يدعي موسى من يهود اليمن ومعلوم بأنه شخص يمني يغرد من شمال صنعاء ! ، باسم مستعار ليهودي.
الجدل حول قضية الشيخ العمراني يختلف عن غيره لأنه ببساطة يدور حول حول شخصية يجمع عليها كل اليمنيين بمن فيهم إطراف الصراع أنفسهم فلا احد يجرؤ أن يدين العمراني نفسه أو يتكلم عنه بسوء وكأنه يقتلهم بالعسل، فصمته إزاء ما حدث ويحدث من تنكيل باليمن هو نفسه صرخة مرعبة لهم.
لعله يسير وفق مدرسة مسالمة انتهجها كثيرون قبله كالمهاتما غاندي الذي نهج طريق اللاعنف في إجلاء المحتل البريطاني.
ولطالما حدثني الوالد عن غاندي وإعجابه بشخصيته وقال لي مرة بأن غاندي يجسد أخلاق بعض طرق المسلمين في رؤيته للحاكم من حوله، وهذه عكس رؤية عقيدة الزيدية التي ترى في وجوب الخروج على السلطان الجائر.
الدين بالنسبة للمسلم واليمنيين بالطبع قيمة روحية واليمن قيمة وطنية ، وأشهر علماء اليمن - كفضيلة العمراني - قيمة علمية ووطنية يجمع عليها كل اليمنيين، إلا أن البعض يتغنى بالعمراني وغيره من القيم باطلا كما هو واضح.
إجماع اليمنيين على شخصية كهذه أبت إلا ان تنأى بنفسها عن الصراعات والتجاذبات السياسية منذ بداية عهده بملازمة العلم وطلبه جعل جل تركيزه على العلم، واكتساب المعرفة والعلوم الدينية والأدبية ومن ثم تعليمها وكذا فتاويه التي بلغت الأفاق فمريدو العلامة العمراني في كل محافظات اليمن ونحو أربعة ملايين مغترب باختلاف مشاربهم.
وفي الوقت الذي لقي العمراني احترام الإمام احمد بن يحيى حميد الدين وعلي عبد الله صالح وعبد ربه منصور هادي، فإنه قد أهين في زمن الميلشيا، وهذه حقيقة مدونة في صحائفهم.
والغريب أن الكل يحدثونك عن إجلالهم و تقديرهم للقاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني، كعالم من علماء الوسطية و الاعتدال في اليمن، ويشيدون بجهوده في هذا المجال، ولكن غالباً ليس ليس من اجل إنصافه، والوقوف إلى جانبه إثر ما تعرض و يتعرض له من قبل المليشات ، و لكن من اجل تبرئة النفس و تحميل الحجة على الآخر ، و جعل القاضي ورقة من أوراق الصراع، التي يحبذون أن تبقى مشتعلة حتى يحققوا أغراضهم أو أن تحرق الأخضر و آليابس نهم من أفواههم.
لم يشفع للشيخ العمراني أنه الوحيد الذي ادخل منهج دراسة المذهب الزيدي أكاديمياً في بعض الجامعات اليمنية بل ودرّسه بنفسه ، كما أنه العالم الوسطي الذي أفتى بقناعة ودون إكراه بعدم جواز قتل أي مسلم وبعدم تكفير الحوثيين قبل ان يغتصبوا السلطة ، وهذه الفتوى شهيرة تداولتها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي ، ورد الحوثيون عليه بجزاء "سنمار."
أريد هنا أن أشير إلى أن من ضمن فتاوي العلامة العمراني بأن الاعتراف تحت الإكراه والتهديد أو حتى الإيحاء بالتهديد لا يُعمل به شرعاً ولا يقاس عليه ، ولعل مريدي سماحته يفهمون قصة على (مذهب الطبنجة).وهذا مثلٌ يضربهُ القاضي العمراني لِمَنْ فَعَلَ شيئًا مُكرهًا عَلَيهِ، فيقول: فَعَلهُ على مذهب الطَّبَنْجَةِ –والطَّبَنْجَةِ معناها البندق العربية القديمة، سلاح-
يحكي القاضي أن رجلا شرب خمراً فسكر، وأمسك بغلام أمرد، وذهب إلى أحد الشيوخ، وقال:
اعقد لي على هذا الولد، فقال: كيف هذا ؟ لا يجوز!
فأخرج السكران الطبنجة (أي البندقية) ، وهم بقتله ، ثم تركه وذهب إلى شيخ آخر وفي يده الطبنجة، فقال له: اعقد لي على هذا الغلام وإلا فأنت ترى الطبنجة، فقال الشيخ: مد يدك، بسم الله.. وأوهمه بالعقد، فخرج السكران وهو يقول عقد لي الشيخ على هذا الوالد، فدخل رجل على الشيخ، وقال له: على أي مذهب عقدت له؟! فقال الشيخ: على مذهب الطبنجة، فصارت مثلاً!
ومن هنا فإن إنكار إهانة الشيخ العمراني ببيانات تصدر وفي ظروف السيطرة الأمنية الكاملة لميليشيا الحوثي على صنعاء لا يمكن ان تكون دليلاً معتبراً شرعاً على نفي ما جرى له، سواء كان حسب فتوى العمراني نفسه او حتى في أدبيات حقوق الإنسان ، وفي كلا الحالتين فتلك البيانات هي أدانة للمليشيات سوا على حكم دار "الإسلام " أو دار " الكفر ."