لم يعد السؤال هل هناك هوية جنوبية أم لا فالمسألة ليست محل شك وتؤكدها جميع المعطيات التاريخية والثقافية والجغرفية والسياسية والديمغرافية لكن ما يستحق التوقف أمامه هنا هو السياق التاريخي لنشوء وتطور هذه الهوية وملامحها وما تعرضت له الهوية الجنوبية بفعل ما شهدته الساحة اليمنية والجنوبية في الأعوام 1990ـ1994م وما تلى ذلك من تحولات وأحداث.
ولا بد أولا من الإقرار إنه وحتى العام 1967 كان الجنوب يتكون من أكثر من 23 دويلة اتخذت شكل السلطنات والمشيخات والإمارات احتفظت كل منها بهويتها المميزة وحدودها الجغرافية وعلمها وعاصمتها وكان لبعضها عملته وجواز سفره ومجلس وزرائه، وحتى تلك الإمارات والسلطنات التي دخلت في إطار الاتحاد الفيدرالي لإمارات الجنوب العربي، لم تستطع أن تكون هوية واحدة متجانسة ومتبلورة تعبر عن كينونة موحدة لكل سكانها بل لقد احتفظ كل منها بحدوده ومنظومته الإدارية ومقومات هويته، وكان بعضها قد دخل في حروب مع بعض البعض الآخر حتى وهي داخل إطار "الاتحاد الفيدرالي".
على إن أهم ملامح غياب الهوية الجنوبية الواحدة آنذاك تمثل في غياب الشعور المشترك لكل أبنا الوحدات السياسية والقبلية والجهوية المكونة لهذا الاتحاد بالانتماء إلى كيان موحد وغياب الروابط الاقتصادية وضعف الرابطة الثقافية والنفسية بين مكونات الاتحاد، وباختصار يمكننا القول إنه وحتى في أفضل أيام الاتحاد الذي لم يعمر طويلا(1959ـ1962م) ومع تأسيس الجيش الاتحادي وحكومة الاتحاد وبدايات محاولة إدخال عدن بمجلسها التشريعي وتقاليدها الديمقراطية (النسبية) والعمل المؤسسي الذي عرفت به، مع كل ذلك كانت الهوية الجنوبية تتشكل في مكان آخر كبذور وبراعم جنينية وإرهاصات حقيقية لهوية تتخلق وتنمو بصورة طبيعية، لكن ليس في مؤسسات اتحاد الجنوب العربي الفيدرالي بل في مكان آخر وبيئة أخرى وفي ظل شروط ومعطيات أخرى.
لقد كانت البدايات الجنينية للهوية الجنوبية تتشكل في خضم نشوء وتطور الحركة الوطنية بجناحيها النقابي والسياسي حيث عبر عدد من التنظيمات السياسية والمؤسسات النقابية عن نشوء شبكة من الارتباطات على أسس جديدة مختلفة عما جاء به مشروع الاتحاد الفيدرالي، إذ كان الجنوب يبحث عن طريق جديد ينتقل به من واقع التبعية والتجزئة والتخلف والتمزق والتنازع وضعف الخدمات وتدني مستوى النمو إلى واقع جديد مختلف نوعيا عن ذلك الواقع المعاش في تلك الحقبة.
كان تشكيل التنظيمات السياسية والنقابية على أساس وطني عريض علامة نشوء وعي جديد يبحث عن هوية جديدة وجاءت ثورة الرابع عشر من أوكتوبر ومسارها النضالي (المسلح) وما ترافق معها من مقاومة مدنية للوجود الاستعماري جاء ذلك ليعزز شعورا بالانتماء إلى كيان أكبر من القبيلة والسلطنة والمشيخة وأكبر حتى من الكيان الاتحادي (اتحاد الجنوب العربي) ، ولا شك أن حركة نهوض الوعي القومي وما حققه المد الثوري في أكثر من بلد عربي في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم ـ وخصوصا التجربة الناصرية في مصر ـ قد ساهم في تعزيز الوعي بالانتماء إلى كيان أكبر وفي سياق العمليات التاريخية والمتغيرات السياسية الوطنية تبلور مفهوم الهوية الوطنية الجنوبية ليصبح مع قيام دولة الاستقلال في نوفمبر 1967م حقيقة واقعة.
لم يكن الثلاثون من نوفمبر وقيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية سوى لحظة انعطاف تاريخي في تشكل ونمو وترسخ الهوية الجنوبية، إذ غدا لدى الجنوبيين لأول مرة دولة جديدة اسمها جمهورية اليمن الجنوبية ـ ثم الديمقراطية ـ الشعبية والتي فتح قيامها آفاقا جديدة أمام تنامي وتعمق هوية جديدة واضحة المعالم ترسخت وتعمقت خلال عقدين ونصف من الزمن.
لم يرتبط نشوء وتبلور الهوية الجنوبية بمجرد قيام الدولة الجنوبية، فالدولة وحدها ليست شرطا كافيا لنشوء الهوية (أي هوية) لكن ما شهده الجنوب من خطوات ترسيخ معالم الدولة الجديدة وبناء شبكة العلاقات والمصالح الوطنية التي تخص كل المواطنين: الجيش الوطني الجديد، المؤسسة الأمنية الوطنية، المنظومة الإدارية والقانونية والدستورية الجديدة، شبكة الخدمات الطبية والتعليمية، نظام العمل الجديد، تعزيز روح القانون الذي يطبق على الغفير والوزير على السواء، التواشج والتكامل والانسجام بين حقوق المواطنين وواجباتهم، إقامة منظومة قضائية تتميز بالصرامة من ناحية وبالعدل والنزاهة من ناحية أخرى وبالسلاسة والديناميكية من ناحية ثالثة، وتنمية وتعزيز الوعي بالانتماء إلى الوطن الواحد الجديد الموحد، كل ذلك وسواه من الإجراءات التي انعكست مباشرة على حياة المواطنين جعل كل المستفيدين منها وهم الغالبية الساحقة من السكان يشعرون فعلا بالانتماء إلى كيان واحد يعبر عن كينونتهم ويحمي وجودهم ويجسد مصالحهم ويعتزون بالانضواء تحت لوائه ويفاخرون بحمل رموز هويته (البطاقة الشخصية وجواز السفر)، وكانت الوثائق الصادرة من اليمن الديمقراطية محل ثقة لدى جميع الدول والمنظمات الدولية لما تمتع به النظام من سمعة طيبة من حيث دقة البيانات وتحريم تزييف الوثائق والشهادات المدرسية وتجريم التزوير بشكل عام وسواها.
لقد تشكلت الهوية الجنوبية ونمت وازدهرت على خلفية هويات متعددة تراجعت وتضاءل حضورها بل وكادت أن تختفي لأن حضورها لم يعد له قيمة سوى تلك القيمة التاريخية وبعض الملامح الثقافية التي شكلت مع بعضها عامل خلق وإبداع وثراء للهوية الجديدة (الهوية الجنوبية) ولم تشكل قط سببا من أسباب التنافر والتصادم ، وحتى في أسوأ الظروف (مراحل النزاعات السياسية) لم تتمكن تلك العواصف من التأثير على الهوية الجنوبية نظرا لبقاء العوامل الأهم في تكوين الهوية وهي الرابطة التاريخية والمكون الاقتصادي والمصالح المادية والمعنوية والقيم الأخلاقية المشتركة بين السواد الأعظم من سكان الجنوب
ولا بد هنا من الإقرار بحقيقة تاريخية تتصل بالارتباط بين الهوية الجنوبية والهوية اليمنية، فلقد كانت كل الدساتير الجنوبية تنص على إن الهوية اليمنية واحدة وعلى الصعيد العملي كان أي مواطن من الشمال اليمني (الجمهورية العربية اليمنية) يحصل على الجواز والبطاقة الشخصية الجنوبيين (وهما هنا رمزان من رموز الهوية) بمجرد وصوله إلى عدن أو عاصمة أي محافظة جنوبية، ولم يكن بحاجة إلى تزوير البيانات أو دفع الرشاوي أو تعميد شيخ الحارة (الذي لم يكن معروفا في الجنوب) لأن ذلك حقه الدستوري الذي ينص عليه دستور جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وكان يترتب على ذلك حصول هذا المواطن على كل الحقوق التي يتمتع بها أخوه المواطن الجنوبي، بدءً بخدمات التعليم والتطبيب المجانيين وانتهاءً بحقه في تبوء أي منصب حكومي أو حزبي أومدني أو عسكري، بينما كان المواطن الجنوبي في صنعا يحصل على بطاقة تعريف تحمل العبارة التالية: جنوبي مقيم في صنعا، أو كان مضطرا إلى دفع الرشاوي وتزوير بياناته للحصول على بطاقة شخصية أو جواز سفر يمني (شمالي).
وهذه الظاهرة المتناقضة كانت تعكس موقفين سياسيين مختلفين لمفهوم الهوية، فالجنوب بالنسبة للنظام الشطري في صنعا هو دولة أجنبية وهو ما تؤكده السياسات والمواقف والتشريعات والسلوك الرسمي لجميع السلطات، بينما كانت الثقافة والسلوك والممارسة السياسية في الجنوب ترى في الشمال شطرا من وطن واحد يتشارك فيه الهوية والتاريخ مع شقيقه الجنوبي وهذه الحقيقة التاريخية لا يمكن لأحد أن يقفز عليها أو يشطبها من تاريخ العلاقة بين الشمال والجنوب في التاريخ اليمني الحديث.
وللحديث بقية
برقيات:
* للحروب دائما نتائجها المأساوية حتى تلك العادلة منها والمكللة بالنصر، لكن أسوأ ما في الحروب اليمنية أن من يقودونها لا يراعون حقوق المدنيين ولا يحرصون على تقليل الخسائر بينهم أو في ممتلكاتهم.
* مما يروى عن الشهيد علي عنتر أنه وفي إحدى الحروب بين الشطرين وعند دخول قوات الجنوب إلى قعطبة هدد بقطع يد كل من يمد يده على أي من ممتلكات المواطنين الشماليين . . . . .أين قادة اليوم من هذا النوع من القادة!!
* يقول الشاعر الكبير لطفي جعفر أمان:
اقـــــــــفزي من قمة الطودِ لأعلى الشهبِ
وادفعي في موكب النور مـطايا السحبِ
واستــــــــغلي كوكباً يزهو بأسنى موكبِ
فلقد مزقت عن نفــــــسي كثيف الحُجُبِ
وانبرت بي في المدى أجنــــحةٌ من لهبِ
تزرع الأضواء في جفن الليالي المـتعبِ